السياسة عند القدماء، أفلاطون وأرسطو وأتباعهما من مفكري الإسلام، هي العلم الأسمى والأشرف لأنها تتعلق بما به تصير الأمم المشتركة سعيدة سعادة قصوى، فهي عندهم أساس كل الفضائل النظرية والفكرية والخلقية والصنائع المدنية، بل هي منتهاها، حيث يصير نظام الموجودات في العالم وترتيبها منسجما مع نظام المدينة ونظام النفس، فمنزلة العقل في النفس هي نفسها منزلة المبدأ الأول في العالم ومنزلة السياسي في المدينة.. ولا يكفي للمرء أن يتكلم عنها ويمدحها ليصبح سياسيا فاضلا، بل الأجدر به أن يحترمها ويعمل بلوازمها، فالسياسة بالمعنى الفاضل جديرة باحترامنا وليس مدحنا...فهي جديرة بأن نحررها من الانفعال والغريزة والاتباع، فالدول الديموقراطية تمارس السياسة كثيرا وتتكلم عنها قليلا، أما عندنا نحن فالعكس، فما إن يلتقي اثنان حتى يكون مبتدأ حديثهما أو منتهاه سياسيا، لذلك لا غرابة أننا نسيس الثقافة أكثر مما «نثقف السياسة»، والسياسة عندما لا تكون قائمة على التأويل الديموقراطي، فإنها تهيمن على الكل، حسب الدكتور العروي، ومعها تجر الكل إلى الحضيض، والثقافة لا تكون استثناء في هذا الحضيض، حيث تسود الرداءة والتكرار والاجترار وتنعدم الشجاعة والنقد والإبداع... السياسة عندما تقوم على الانقياد والخضوع والقناعة، تصبح رهيبة ومخيفة فتكمم العقول قبل الأفواه، وتنحصر المخيلة في وظائفها الأولى، مكتفية بالحفظ والتذكر، ويصبح المواطن كائنا انفعاليا وآليا، فالخوف يسيطر على باقي قوى النفس، ليصبح السياسي مخيفا، ويصبح كل من لا يخيف غير جدير بالاحترام، فعندما يسود الاستبداد والطغيان يصبح المثقف الحلقة الأضعف، بينما حين تسود الديموقراطية تتخلص السياسة من شوائب ليست منها، فيضيق مجالها ولكن تصبح قيمتها عالية، وتصير الحرية مبدأ ومنطلقا وليس مجرد موضوع لمديح ومناجاة، ويصبح الهم الثقافي هما مجتمعيا، وتصبح الثقافة أكبر من حقيبة وزارية أو منصب في مؤسسة ثقافية..إذ تصبح الأصل، ويصبح المثقفون سلطة ترتبط الثقافة ارتباطا عميقا بالديمقراطية والديمقراطيين، لاعتبارات متعددة، منها أن الديمقراطية هي الانفتاح الخلاق لفضاء عام متسم بالحرية، فيه تتلاقح الأفكار والآراء والإبداعات وتتواشج بالشكل الذي يجعل الخاص مُنْدَغِماً في العام دون أدنى تناقض. كلما كانت الديمقراطية متجذرة في التربة الاجتماعية والسياسية والفكرية، كانت الثقافة أقرب إلى إمكانية التعبير عن هذا التعدد الذي يََمُور به المجتمع، لأن الثقافة ليست سوى مجموع الإنتاجات الفكرية التي تتناغم مستوياتها وتحديداتها الثلاثة: المستوى الفردي المرتبط بعطاءات الأفراد، أي المثقفين، وقدرتهم على الاستمرار في تثقيف ذواتهم، والمستوى الجماعي المرتبط باللحظة التاريخية والسياسية، التي تُلفي جماعة من المثقفين نفسها داخلها، منذورة للانشغال بقضايا الثقافة الوطنية والدولة الديمقراطية، والمستوى الإنساني الذي يربط أي ثقافة خلاقة بالإنسانية ككل، بعيدا عن الانتظامات الهوياتية العرقية، الدينية والعقائدية. هذه المستويات الثلاثة حين تتواشج وتتداخل داخل فضاء ديمقراطي، كثيرا ما تفرز مثقفين أساسيين، وتفرز ثقافة فاعلة في زمنها وسياقها التاريخي، ثقافة تسهم بشكل فعال في بناء الديمقراطية، من حيث هي العامل الأساس لتحقيق أي تنمية اقتصادية، وتطور حضاري، وانفتاح فعال على ثقافات الآخر لاستيعابها والتفاعل معها، وليس للتناقض معها تناقضا صراعيا وعنيفا، قد يكون أحيانا كثيرة لا طائل من ورائه، لأن ثقافة الآخر المسلح بقوى العولمة تجد دائما ممرات ملائمة للتأثير فينا، شئنا ذلك أم أبينا ليس هذا الارتباط بين الثقافة والديمقراطية معطى جاهزا ونهائيا، ولكنه علاقة في حالة صيرورة دائمة، علاقة منذورة باستمرار للتطور والنمو والاكتمال لا تمنح إجابات، بل تطرح أسئلة. العلاقة بين الثقافة والديمقراطية ليست معطى جاهزا قلنا إن العلاقة بين الثقافة والديمقراطية ليست معطى جاهزا ونهائيا، ولكنها تظل دوما قيد البناء والاكتمال من طرف أفراد حاملين لوعي حاسم بضرورتها وحتميتها، لأن الثقافة الحقيقية المتفاعلة مع محيطها الخاص والعام، الوطني والإنساني، لا تبنى بدون ديمقراطيين، ينطرحون في عقدة تناقضات تاريخية ما، باعتبارهم مؤشرات دالة على إمكانية تحقق هذه العلاقة. نتحدث هنا طبعا عن أفراد يتم استدعاؤهم كذوات فاعلة تاريخيا في سياقات محددة، ومساهمة في بناء الممارسات الديمقراطية. هناك دوما رهانات تراهن من خلالها الديمقراطية على الثقافة الكفيلة بتمرير قيمها ومبادئها إلى أكثر عدد من الناس داخل المجتمع، لأن المسألة الديمقراطية ليست مرتبطة فقط بما هو سياسوي في السياسة، ولكنها تربية وسيرورة وتعلم، وتأويلات فكرية ومعرفية من الضروري استيعابها، أولا، من طرف المثقفين الحاملين لوعي فعال، قبل نشرها داخل المجتمع وتمريرها لأكثر ما يمكن من الفئات والشرائح الاجتماعية. من الضروري هنا التأكيد على أن كل سياق سياسي محدد إلا وينتج مثقفين ملائمين له، وعلى مقاسه، لأنهم لا يتمايزون عن التربة التي فيها نبتوا ومن مكوناتها تغذَّوا. كلما كانت التربة السياسية والتاريخية متسمة باستتباب الحريات الفردية والجماعية وسيادة منطق الحوار والتفاوض والاعتراف المتبادل، المنطق الذي يعكس علاقات اجتماعية إيجابية ويضفي الشرعية على الفَعَلة داخلها، كانت الأسباب والدواعي لتأسيس ثقافة ديمقراطية موجودة وصالحة للاستثمار. من نافل القول التأكيد على أن الاستبداد السياسي، وانعدام أجواء الحرية وتداول الأفكار، غالبا ما يؤدي إلى سيادة ثقافة استبدادية تشرعن القمع وتنظر للكثير من الاستثناءات المانعة لكل مظاهر الحريات، وهي التنظيرات التي ينتجها في الغالب الأعم مثقفون فاشيون يرون الاستبداد وسيادة الرأي الواحد داخل المجتمع الحل الأمثل لبناء هوية متراصة لا صوت يعلو فيها فوق صوت المستبد، ولقد حدث شيء كثير من هذا مع تيار المثقفين المؤمنين بالقومية العربية، الذين سرعان ما سبَّحوا بكاريزما الزعماء الضرورة وشرعنوا سلطتهم وارتموا في أحضان مخابراتهم وتمويلاتهم الريعية. لقد بدأت الديمقراطية الحديثة في الظهور منذ مدة طويلة داخل المدن التجارية الكبرى، لكن ابتكارها الحقيقي كرؤية جديدة للسياسة، واقتراح لتغيير جذري للنظام السياسي، لم يبدأ إلا مع القرن السابع عشر، إذ لم تبدأ في فرض نفسها إلا داخل طقس سديمي، مليء بالعنف والحروب الأهلية، كما حدث في إنجلترا، والهجومات الحادة على التيارات السياسية والمنظرين الحاملين لأفكار جديدة. لم تكن الديمقراطية الحديثة مجرد استعادة بسيطة لنموذج الديمقراطية اليونانية، بل زلزالا هز كل شيء، ونقطة تحول وتقدم في اللحظة التي كان فيها العالم الفيودالي قد بدأ ينهار. لا يمكن هنا سوى الإشارة إلى مثقفين جازفوا ثقافيا وشخصيا، في إطار الحركات الديمقراطية، من أجل التفكير فيها، ومنحها شكلا وزخما، سواء كانوا فعلةً مجهولين مرتبطين بالحركات الديمقراطية كما في هولندا مثلا، أو مفكرين سياسيين معروفين أنتجوا نظرية الديمقراطية. لقد بنت الديمقراطية الحديثة، في سياق ذلك العصر، بعد الكثير من الصعوبات التي جابهتها والصراعات التي خاضتها، تحررا حقيقيا إزاء كل السلط الاستبدادية التي كانت تمتح شرعيتها، آنذاك، من السلط الدينية الكَنَسِيَة ومن الأسر الملكية والهيمنة الفيودالية والمقاومة الصارمة التي مارستها السلطة البَطْرِيرْكِية. هذه الثقافة الديمقراطية، التي تم بناؤها بصبر ودأب من طرف مثقفين ديمقراطيين حقيقيين، هي التي اتخذت في عصرنا الحالي شكل الديمقراطية التمثيلية المدعومة بالاقتراع العام، أي ديمقراطية برلمانية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدولة الوطنية، وحاملة لمشروع سياسي من شأنه صياغة المصلحة الوطنية العامة والتعبير عنها. إنها منظور فعال لعقلنة الممارسة السياسية، حيث يصير ممكنا دائما تأسيس الشرعية انطلاقا من أسس ومبادئ جديدة وإعادة ابتكارها. منعطف الديمقراطية الحديثة لقد شكلت بداية الألفية الجديدة نوعا من المنعطف بالنسبة للديمقراطية الحديثة، التي تلبست بشكل قوي مسوحَ الليبرالية المتوحشة الواقعة تحت هيمنة السوق والرأسمال. إن ما تم ابتكاره عند بزوغ الرأسمالية وتطويره، قد بلغ الآن حدوده القصوى، كما تدل على ذلك سيطرة القوى الاجتماعية المهيمنة على أدواته وآلياته، ضمن نسق عام الغاية منه هو المزيد من التحكم والقمع المساوق للرأسمالية. يعرف النظام الرأسمالي الديمقراطي أزمة عميقة، لأنه استنفد الكثير من قواه التحررية، وزخمه الحضاري، وساهم بشكل جلي في نشر الدمار والحروب، لكنه مازال حيا رغم ذلك. إن الرهان المطروح اليوم هو إعادة تفكير عميق في المسألة الديمقراطية، التفكير فيما ستكون عليه ديمقراطية حديثة، دون التخلي عن مكتسباتها السابقة. يبدو أن التجارب المتراكمة، سواء داخل الصراعات من أجل التحرر، أو داخل اختبار حدود الديمقراطية التمثيلية، تسمح لنا بالقول بأن الديمقراطية الليبرالية قد استنفدت الكثير من فضائلها وسماتها الإيجابية، لا لعيب داخلي فيها، أو لأن القوى الاجتماعية المهيمنة داخل الرأسمالية قد استحوذت عليها، بل لأنها لم تعد في مستوى عالمي. هنا بالذات ينطرح الدور الرئيس للمثقفين، أي في إعادة تفكير الديمقراطية عميقا، وابتكار شكل سياسي جديد، في تناغم مع حاجات المواطنين العاديين لممارسة التأثير في صيرورة العالم. وغالبا ما تكون أوساط المثقفين متشائمة وحذرة إزاء الديمقراطية، لاعتبارات قد ترتبط بنوع من الحذر المنهجي النظري، الذي قد يتحول هو الآخر إلى حذر من الشأن السياسي نفسه، ضمن نوع من القبول المجاني بتقسيم موروث ومحافظ بين الثقافة والسياسة، يقصي المثقف كلية من دوائر القرار السياسي، أو يستحضره فقط ضمن الوظيفة المحددة له في الأنظمة الديمقراطية كوصي للسلطات. إن الحديث عن الثقافة الديمقراطية لا يعني بالضرورة المثقفين وحدهم، بل العديد من المستويات والشرائح الاجتماعية التي تلفي نفسها في لحظة ما داخل هذه التعبيرات الملموسة عن الطموحات الديمقراطية. لقد رأى الكثير من الدارسين بأن الديمقراطية ليست نظاما ساكنا، بل متغيرا متحولا باستمرار، أي نظاما يشكل الصراع عصبه الأساس، باعتباره صراعا إيجابيا فعالا بين فعلة يتفاوضون ويتداولون الأفكار والتصورات وأنماط الفعل. ستكون الثقافةُ ديمقراطيةً فقط في الحالة التي تسمح فيها للعدد الأكبر من الناس باستعادة الوعي بانتمائهم الإنساني ككل، وبعلاقاتهم الطبيعية مع الطبيعة والمجتمع والسياسة والحياة. إنها الثقافة التي ستمنح الناس القدرة على العيش والاستمرار في البقاء والحفاظ عليه، لأن القدرة على الحياة مرتبطة ارتباطا وثيقا بطريقة التعامل السياسي مع مسألة المواطنة، باعتبار ارتباطها الوثيق بحياة الأفراد. إن إحدى السمات التي ينبغي الاشتغال عليها هو اعتبار الحياة في بعديها الفردي والجماعي مسألة سياسية رئيسية. هنا ستكون القرارات المطلوب اتخاذها ذات طابع استعجالي على الأصعدة كلها (صعيد الإنتاج، صعيد الحياة، تحديد قيم الاستعمال، طريقة تصور وممارسة وجودنا الاجتماعي بمختلف أبعاده). ينضاف إلى كل هذا أن الثقافة الديمقراطية هي تلك التي يجب أن تخلق التقارب بين الحضارات، والاعتراف بأوجه التشابه والاختلاف بينها. هنا ستكون قوتنا الراهنة والمستقبلية، متعلقة جذريا، وعلى أعلى مستوى، بالشكل الذي سيتم به هذا التقارب، سواء عبر التدمير المتبادل لإسهاماتنا الحضارية المشتركة وترك الباب مفتوحا لعودة أشكال الهمجية والوحشية والعنف الأصولي المتطرف والحروب، التي لا نهاية لها، وردود الفعل العنصرية، أو عبر التلاقح الخلاسي النقدي، الذي يتم فيه تلقي ثقافات الآخرين والتفاوض مع حضاراتهم، أي عبر سياسة التلقي النقدي، والانفتاح على آخرين، والتعبير عن الرغبة في السلام، التي تمس حيوات الأفراد في ذواتهم وحياة الجماعة التي إليها ينتمون. الديمقراطية ونزاعات التحرر إن رهان الثقافة الديمقراطية لا ينفصل عن شيئين اثنين، تبعا لطبيعة الفعلة داخلها ونوعية المثقفين: إما تدعيم وتقوية علاقات وميكانيزمات القمع، أو على العكس، الدعوة إلى النزوعات التحررية والتعبير عنها وتدعيمها. هذا الرهان متعدد وحاسم، لأنه يشرط طبيعة العلاقات بين المواطنين وسلطة الدولة. وكما أن أشكال القمع تتغذى من بعضها البعض، وتنسج خطوطا تربط فيما بينها، عبر الإيديولوجيا والممارسات السياسية المهيمنة، فإن النزوعات التحررية مترابطة هي الأخرى فيما بينها. ليست الديمقراطية فضاء ساكنا، ولكنها ساحة مفتوحة باستمرار على التحديات والرهانات، وما دامت وظيفة المثقف ذات طابع نقدي بامتياز، فإن الرهان عليه من أجل إرساء دعائم هذه الديمقراطية على مستوى الأوعاء والعقليات وأنماط التفكير الخلاق والقبول بالاختلافات والاعتراف بها سيظل قائما دوما، مهما كانت سمة التشاؤم التي تطبع كتابات ومداخلات البعض.هنا بالذات يلفي المثقف نفسه موزعا بين النزعة الثورية والنزعة الإصلاحية، لأن الثقافة الديمقراطية تنهض على التفاوض والتداول وتبادل الأفكار والآراء، فمن الضروري التعامل مع السياقات التاريخية وتحليلها كما هي، أي انطلاقا من العناصر المكونة لها، بعيدا عل كل خطاب حماسي قد يلهب العواطف والمشاعر، ولكنه لا يطرح بدائل ملموسة. إن السمة الأساس لدور المثقف هنا ستكون إعادة ابتكار الديمقراطية، وهندسة أراضيها ومناطقها لمنحها مصداقيتها فكريا وعرفيا، قبل إضفاء هذه المصداقية عليها سياسيا وتاريخيا، وخصوصا بالنسبة لبلدان وجماعات بشرية ما زالت الديمقراطية حلما ووعدا بالنسبة إليها، وما زالت العوائق والممانعات الفكرية والعقائدية والسياسية تحول دون تحقيقها، كما هو الحال بالنسبة للعالم العربي، حيث ظلت الثقافة الديموقراطية باستمرار عرضة للتهميش والقمع، سواء من طرف السلط السياسية الحاكمة، أو من طرف أحزاب وحركات سياسية بارانوية لم تستوعب بعمق مفهوم الديموقراطية وممارستها.