ذ : لحسن كجديحي فعلى مدى هذا الزمن الذي قضيته في القراءات والأبحاث متجولا ومراقبا سير الحياة من حولي, أتابع وسائل إعلامه, تكونت لدي قناعة شخصية أن هذا التوجه التربوي يسير إلى نوع من المتغيرات التي سوف تبدل من صورته إلى درجة كبيرة, ويمكن القول إن صورة واقعنا التربوي كتجسيد حي قائم على التسرع في اتخاذ القرارات والتغييرات الطارئة، كلما تغير مسؤول بحجة إعداد فريق قادر على تحمل المسؤولية في سبيل التحول. وهكذا تتكرر الظاهرة والضحية بالدرجة الأولى هم فلذات أكبادنا.المادية العقلانية في سبيل التحول, اعتقد هذا المسؤول بصورة أو بأخرى أنه مركز الكون, لأنه يحتوي على عناصر من القوة والمعرفة تعطيه القدرة على التحكم في عالمنا المعاصر تربويا , هذه القناعات التي سادت السنوات الماضية في سبيلها إلى التغير الآن, وينبغي مناقشة في أكثر من مستوى مغزى هذه الاختلافات بين عقد مضى كان طابعه الثقة والثبات, وهذا العقد الحالي ذي المزاج الجماعي المتوتر, من المفارقة والقيم المتغيرة, الذي تعيشه مدارسنا الآن, وهو الأمر الذي يهددنا بفقد التحكم في مساراتنا التربوية والأخلاقية. ربما لا ينصب اهتمامنا الآن على الجيل الأول من الفئات المتعاقبة منذ التسعينات , فهؤلاء لا توجد أمامهم فرص كبيرة للنمو أو الحركة, وهم يقضون معظم حياتهم في هذا الواقع الجديد غرباء ثقافيا, وفقراء ماديا, عاجزين عن الاندماج في هذا المجتمع الجديد فضلا عن الانصهار فيه, لذا تبقى هذه المجموعة في قاع المجتمع, أما الشريحة العليا من هذه الفئات والتي تحتوي على حملة المؤهلات العلمية؟ والمادية المرتكزة على النفوذ والمال (مسؤولون,أصحاب القرار، أصحاب سلطة سياسية واقتصادية...), فهذه الفئة تجد لها مكاناً وسط جموع الطبقة الوسطى, وتبقى رغم ذلك محملة بتراثها الثقافي؟ وسلوكها الاجتماعي والديني بصورة يصعب التخلص منها. ويجب أن نذكر أن الفضل في إنجاح السياسة التعليمية ينبغي أن يعود إلى العملية التعليمية المسؤولة التي ينبغي وضعها على أسس تتجاوز الاختلافات الضيقة وتحث على التفاعل بين الأشكال التربوية المختلفة ولا تميز بينها, وإلى الدور النشط والفعال للإعلام الملتزم بكل أنواعه.وبعبارة أوضح ينبغي استحضار الديموقراطية،وليست أية ديموقراطية، إنها الديمقراطية ولمستها السحرية, وهي تتجلى في المجتمع المتزن عندما تعطي أقصى الضمانات للحريات المدنية, وإذا كنا نتحدث في واقعنا عن حاجتنا إلى الشفافية في تعاملنا مع الأمور العامة فإن الحقيقة هنا عارية إلى درجة تثير الذهول. وإذا كنا نحلم بالنقد الواضح والصريح لكل عيوبنا فإن الأمور كلها هنا موضوعة تحت المجهر, والأخطاء التي نراها عندنا عادية جدا ونعدها جزءا من تجاوزات أي نظام, تعد هناك أخطاء فادحة لا يمكن السكوت عنها. ولا أعني هنا أن المجتمعات الأخرى كلها مجتمعات مثالية, فاليوتوبيا لم توجد بعد, ولكنها بالتأكيد قد استفادت من تجارب بعضها البعض ( الآخرين ), بل واستفادت من تجاربها الشخصية. فالممارسة الحقة للديمقراطية لا تضمن الحريات المدنية فقط ولكنها تحض على قيم العدالة والتوازن بين أطراف المجتمع. وقد ساهم في إذكاء هذا الأمر تلك الدرجة من ( قبول الآخر ) التي تتميز بها تلك المجتمعات, وهي مسألة تعود في جذورها إلى الفكر المتحرر والمحب للإنسان, إنها محاولة لفهم الآخر كنسق متكامل يتضمن قبول لغته وعاداته وتوجهاته وكذلك معتقداته الدينية ومحاولة فهمه في هذا الإطار. وقد تساعد هذه النظرة إلى حد كبير على دراسة بعض السلوكات المغايرة لكافة أفراد المجتمع وفهمها بل والتغلب عليها أيضا. وهكذا تكتسب القدرة على الفهم والاستيعاب. إن الفكرة التي تزداد شيوعا, يوما بعد يوم, من ضرورة التعامل مع السياسة ( بنظرة نسبية ), أو ما يسمى أحيانا بالمرونة أو بضرورة التأقلم , أو مجاراة روح العصر, ومزايا التغير في عالم لا نمل من تسميته( بالعالم المتغير), وضرورة نبذ التحجر والتزمت... الخ, إن كل هذه النعوت كان لابد أن تبدو غريبة كل الغرابة لرجل مثلي حيث لم يكن ليدور بخلدي قط أي شك في أن المبادئ الأخلاقية الصحيحة صحة مطلقة, لا تحتمل مرونة, ولا يعني التمسك بها تحجراً أو تزمتا, ولا تتطلب تغيرا مهما كان العالم متغيرا, ولا تحتمل الاستثناء, بل هي تموت بالاستثناء, وتقتل بالمرونة, والقول بغير ذلك ما كان يستحق إلا الاحتقار.كما أن الكرامة الشخصية أهم من المنصب ومن المال, وأن الإهانة لا يمكن قبولها, أيا كان الشخص الذي يوجه الإهانة إليك, وأيا كان الثمن الذي سوف يكلفك رفضها, ومنها أن العدل في معاملة الناس ضروري ولو أدى إلى الإضرار بشخص قريب إليك أو عزيز عليك, ومنها أن النفاق رذيلة, مهما كان الدافع إليه والعائد منه, وأن الثناء إذا كان من باب النفاق أمر كريه وغير محتمل حتى إذا كان هو نفسه الذي يوجه إليه الثناء, وأن رضاك عن نفسك أهم من رضا الناس عنك, وأن الحق يجب أن يقال حتى لو ترتب على قوله ضرر لقائله, وأن الحق يستمد قوته من ذاته وليس من شخصية قائلة, ومن ثم فإنه يجب أن يحترم ولو أتى على لسان شخص بسيط غير ذي نفوذ, وأن الظلم يجب أن يعترض عليه ولو أتى من صاحب السلطة. وأن الكرامة العقيدية والكرامة الوطنية أهم من المعونات الاقتصادية, وأن مصلحة الوطن يجب أن تقدم على المصلحة الشخصية: فالموقف الأخلاقي لا يستند إلى أدلة منطقية, بقدر ما يستند إلى إحساس داخلي. فنحن نعيش في اليومي الذي كادت تختفي فيه من الاستعمال اليومي كلمات مثل الفضيلة والرذيلة, والخير والشر, وحل محلها كلمات المصلحة والمنفعة, المكسب والخسارة, العمل المنتج وغير المنتج...