لحسن كجديحي شرع يحدق في الجمهور الحاضر. وعلى خشبة المسرح المغمورة بالأضواء في مواجهة الجمهور الحاشد من مختلف الأعمار. يشد عوده الباهت ساتراً به بطنه الصغير، ماسحا حاجبيه الساقطين أعلى خديه، وكتفيه المجعدين بجلد محتقن. يتلصص بعينين ضيقتين، تبدوان عاشقتين للحياة، لكنهما في حقيقة الأمر كليلتان بدرجة تبعث على الحزن. يهمس لنفسه "استعد يا فنان. لا تجلس هكذا على الكرسي". سافر بعينيه بين الصفوف تواجهه الحشود الكبيرة، تأملها وهمس لنفسه " استعد". ظل صوته يخرج نحيلا من حباله إلى المدى المتوج بالصفير والتصفيق، وصهيل الشمس، وهواء سبتمبر الذي يهب من هناك بالحنين. عندما غمر الصفير القاعة شعر بالبرد والارتعاش، تقدم خطوات حتى وصل وسط المنصة. يحس الآن بالعرق يتسلل إلى مسامه دافعا بما بقي في جسده من حيوية إلى رأسه فيشعر بالانتشاء، يكشط أوتار عوده بأنامله متأملا الحاضرين. ثمة حياة أخرى يأتي بها القدر. وتذكر أيام شبابه، عندما كان يقف على خشبة مسرح المدرسة، يذهب ويعود مترنحا أكثر من مرة. يأخذ عوده الخشبي ناسيا نصه الغنائي، لتعلو الصيحات وهتافات أصدقائه الصغار. سبح بذكرياته حتى تجاوز حيطان القاعة. ليرى من مكانه صباه، لكنه سمع الصخب يأتيه مختلطا وزاعقاً، ليستفيق تحت ارتفاع الصفير الذي يعلو في الهواء جانحا، وثابتا في الريح. سبح مسافة أخرى، وشعر بغياب الحاضرين. واصل السباحة ثم بغتة، وقف بطوله توازنه حركة قدميه ويديه. بدأ الرجل يغني بصوت حسن، أغنية شجن من زمن قديم، ثم عاود السباحة. فوجئ بأنه ابتعد عن القاعة، غاب الصياح، وشعر بوحدته مع العود، ولاحت له عيون الحاضرين محملقة، امتلأت أدناه بأزيز قوي، حينها أدرك أنه ابتعد كثيراً. أخذ شهيقا عميقا، وتكاثف إحساسه بالزمن، وغذت روحه نوازع المجانين، وصعدت عبر شيخوخته المتأخرة، التي تحاول اللعب مع الزمن. "تغني على الخشبة؟ " أدرك بالفعل نيته، واستسلم لرغبته في الشدو. مضى يغني ساحرا الحاضرين و جسده خلفه، يرى انفلات يديه ، ويقاوم اندفاع أنامله بإرادة زرياب زمانه. لما تعب كف عن الغناء. انقلب إلى الجمهور قليلا ثم بدأ يدندن. صمت القاعة جعله يغرق في رهبة عميقة، كف عن الدندنة وبدا له الأمر غريبا، ومدهشا، " أن يفعل ما كان يفعله منذ سنين عدة" ؟ شعر كأنه يستيقظ على لحظة فرح.. اكتشاف.. هل كان يختبر عمره؟. أم كان يحاول من غير عزاء اختلاس لحظة من زمن قديم ولى؟. "لقد سافر بفكره بعيدا، وهو لا يضمن النتائج على أية حال". عاد وانحنى على عوده، وطفق يشدو ويشدو. راقب العيون وهي تحملق ناحية "يديه". تألمت عيناه فأغمضهما، وتكاثف بوعيه صوت شدوه الحنين. عاد فواصل الغناء باطراد ناحية زوايا القاعة. كان الجو يشحب أمام عينيه فيما يثقل عليه جسده، ودوار في رأسه يجعل مساحة الأفق تختلط عليه. خاف من النسيان، ومن ضياع ذاكرته فيضل على المنصة. زاد من ترانيم عوده ، لكنها كانت ترانيم واهنة، وبدأ الندم يضرب قلبه الجانح. اشتد تعبه، وأدرك أن زمن دوره لا يزال بعيدا، وانتفض قلبه في صدره، وبدأ يسمع صوت لهاثه. أدرك أن الشيخوخة تيار يندفع في العروق، يأتي من أعمق الأعماق بالهزيمة والخسران. تغيرت الصورة، أم أن الحالم أفاق على بؤس الواقع؟.. صورة تموج ملامحها بالاضطراب والعنف وتبعث على القلق. كان الوقت معلقا، واللحظة تثير في النفس مشاعر شتى تجاه الموقف الغريب، خليط من الشوق والريبة يحفزان على الاقتراب، والحذر. وتذكر أن مجرد ادعاء الإنسان معرفة شيء من قراءة الكف كان يوفر له شأن مرموق بين المتطفلين. ! ولما سقط هذا الشأن، لما سقط الكابح، انطلقت أسئلة البشر الروحية عمياء بلا دليل. ليتلقفها الدجالون المهووسون أو الراغبون في سحق الروح الفنية حتى أعمق أعماقهم. رآهم ينبجسون من القاعة المظلمة. رجال، نساء و صبيان كأحفاده، ينتشرون بين الكراسي، وكأنهم جراد على موعد.تساءل: "من أين يخرجون؟ ". كانوا يقتربون منه حتى شكلوا حوله حلقة. كانوا يتأملونه بصمت، ويحدقون في هذا الكائن الخرافي بدهشة، ويتبادلون النظرات. انتابه القلق والتوجس عندما رأى ثباتهم المطلق، وعيونهم المندهشة التي تنظر إليه بغير تصديق، شعره الأشيب، ووجهه المغضن، وحاجباه الساقطتان، وجسمه النحيف كورق الصفصاف. "هيه.. قضيت أيامك يوما بيوم.. مطاردا تلك التفاصيل الصغيرة التي لا طائل من ورائها، والتي تحاول من خلالها استعادة الأيام، فما الذي يراه فيك الصبيان؟ خاف أن يصرخوا في وجهه، واشتدت ضربات قلبه، أحس كم هو طاعن في السن. كم هو رجل عجوز يبعث على الحزن، وأنه قادم من زمن آخر. سمع أصداء موسيقى تعلو في أنحاء القاعة، تدوي بلحن راقص. ما من شيء عرقل قط الاحتفال الذي أقامه منذ عهد بعيد، سوى وهن الكبر الذي أصابه، إذ كان يتم في كل حفل زمن دوره، وإن كان المحتفل الوحيد به لسنوات طوال هو عمره اليائس، ورغم أنه كان في بداية عهده حسن المظهر، إلا أن تلفا أصابه من الداخل، فقد عصفت به أحداث السنين، وأذهلته عن نفسه بصفة دائمة حتى أن ذوي الميول الضيقة في المهنة وجدوا أنفسهم أحيانا يتخيلون ما كانت عليه هيئة الرجل قبل أن تمضي به السنين. لقد كان شابا غضا يكاد يبلغ العشرين ربيعا، رأسه خال تماما من المشاكل، وجد نفسه يعدو مع رفاقه عبر زقاق في حيه في أول مواجهة له مع الفن، إلا أنه لم يستطع أن يستجمع داخل نفسه الإحساس المناسب الذي يتلاءم معه. لقد توقع أن يصدر عنه شعور قوي عارم بالفزع أو بالبهجة، لكنه في الحقيقة أحس فقط بلدغة مسمار في حذائه راح يخزه كلما أنزل قدمه على الأرض، وكان اليوم باردا إلى الحد الذي جعل تنفسه واضحا، وتعجب للحظة من نقاء أنفاسه وسط ما يحيط به من إحباط وتدهور.، وطفق يجتاز كالرمح المسدد مخترقا سيل الرجال والنساء والصبيان المتدفق بسرعة عبر القاعة، وأدار رأسه قليلا ناحية اليمين وهو يجفل من الألم، فرأى روح صبي بالقرب منه يطير بعيدا، وقبل أن يستوعب الصدمة اختفت بقية روح الصبي التي بدت مثل طبق حساء مقلوب، وجرى الجسم الخالي من الروح في رشاقة وقوة وعناد دون توجيه، متجاهلا أن أنسجة هذا الأخير تتساقط وتنزلق خلف ظهره. المدهش ليس هذه الصورة في ذاتها، بل اقتحامها لزوايا القاعة في هذا الوقت القصير بعد انهيار زرياب زمانه وكأنها كانت تعد عدتها. وقد كان المساء واعدا بمزيد من الغرابة. أما أن يهان فنان، بهذا الشكل فهذا شيء مرعب. وأخشى ما أخشاه أن ينتفض في ردة فعل عنيفة ثأرا لكرامته المهدرة.. ليلة صعوده على الخشبة. إن بدنه لم يرتجف بالفعل كما ارتجف في تلك الليلة، ولا هو أحس حقا، من قبل ، بأي إحساس يتجاوز أبدا ما أحسه في تلك الليلة. وتذكر. تذكر الخزي والشقاء اللذين استدعاهما هذا الموقف في أعماقه. القشعريرة تصعد أعلى ظهره إلى كتفيه وذراعيه حتى تصيب أصابعه بالخدر، الفراغ البارد في جوفه، الذي عليه أن يحكه، يضغطه بقدر يحتمله - ليلة الصعود : عندما فر يهبط سلم المسرح المظلم إلى فناء السراب القاتل. ... ترك عقله يتسلل من أي مدخل يحلو له من مداخل كهف الذكريات، شاهد نافذة تطل على غار يعلم أنه مملوء بالألماس، وكان ثمة شخص ما في اللحظة ذاتها يتحدث بنعومة خارج الباب.. طأطأ رأسه الذي ازدحم بالتواريخ، واستند بمرفقيه على ركبتيه وغرق في فكره. قال: "الحياة غامضة، وتدعو إلى الأسى". ثم همس: "إنها تذهب مرة ولا تعود". فهل داست عجلات الوقت، وبعنف، روح هذا الفنان المغمور؟ أسأل نفسي وأنا أهم بالرحيل مستطلعا من جديد، وبلا ارتواء، جوانب القاعة، وأحبس مشروع الإجابة لعلي أخرج بإجابة أعمق. فهل ثمة تشابه بين زمن الصبا والزمن الحالي في اللحظة الراهنة؟ وتذكرت حينها أبيات للشاعر الروسي "بوشكين" : " تظل قيثارتي تغني للشفقة الحبيبة وفي عصور التوحش أشدو لحرية الإنسان وإن ظلت الرحمة