كلية الآداب والعلوم الإنسانية- مكناس. يقوم نظام إملاء العربية، للتفريق بين الحروف دونما حاجة إلى الإكثار من الرسوم والأشكال، على ما يعرف بثنائية الإعجام والإهمال؛ وهي وسيلة للتفريق بين الحروف المتشاكلة التي لا يميزها إلا النقْط (الإعجام) أو غيابه (الإهمال). فللتفريق بين الدال النطعية والذال اللثوية نلجأ إلى إثبات نقطة فوق الثانية فتسمى معجمة و حذفها من فوق الأولى فتسمى مهملة. والإعجام من الأضداد، وهي الألفاظ الدالة على المعنى وضده.والحقيقة أن الضدية تستفاد من السياق لا من اللفظ مجردا. فالإعجام، من حيث دلالة الصيغة، جعل الشيء معجما غير مبين، وهو أيضا إزالة العجمة واللبس عن الشيء أو اللفظ، ومن هنا كان نقطُ أبي الأسود الدؤلي المصحفَ أو إعجامُه إياه إزالةً لأي لبس يعترض قارئه أو تاليه من المولدين ومن تبعهم من متعلمي اللسان العربي. مناسبة هذا التقديم قيام الإصلاح الجامعي على ما يعرف بلجنة الخبرة أو الخبراء؛ وهم، والله أعلم، أساتذة جامعيون يعهدُ إليهم النظر في مشاريع التكوين التي يقدمها الأساتذة الباحثون من مختلف الشعب والكليات لتحظى بالقبول والاعتماد، ويكون لهم القول الفصل في قبول ما يقبل ورفض ما يرفض من المشاريع والمقترحات. وهذه اللجنة مبهمة، معجمة غير مُبينة، لا نعرف عنها لا الأصل ولا الفصل. فأهل العقد دون الحل في الوزارة الوصية يدثرونها بدثار السرية والتعمية دثار مكونات مشروب كوكاكولا العجيب. غير أن الناظر في اشتغال هؤلاء الخبراء، وليكن اشتغالهم بمسلك الدراسات العربية المقدم من شعبة اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب بمكناس نموذجا، يحار في كونهم خبراء كما هو مظنون فيهم أم مجرد خبزاء، لعلهم لا يكادون يحسنون الخبز بله الخبرة؛ وهم على هذا القول أصحاب خبزة لا أصحاب خبرة. فإن كانوا من الأولين فهم "بخبيزتهم" كما نقول في عاميتنا العربية، وإن كانوا من الآخرين فإننا لم نر أثرا للخبرة والتخابر إلا ما كان من إيصال الخبر واستلام الخبز (ولينظر المرء إلى صلة الإعجام بالإهمال!). لقد عهد إلى هؤلاء الخبزاء/ الخبراء، وضع تصور لما ينبغي أن تكون عليه مسالك المقاربة الجديدة التي جاء بها المخطط الاستعجالي، والتي قيل عنها إنها المنقذ من ضلال التيه والزيغ اللذين لازما الإصلاح منذ الشروع فيه.وهي الصيغة الثالثة في بضع سنين. ولم نسمع أن الفرنسيين الذين قلدناهم في الإصلاح الجامعي قاموا بهذه التعديلات التي قمنا بها نحن في هذا الظرف الوجيز. فهل تجاوز المريد الشيخ أم أن الزيادة في العلم نقصان منه؟ لا نريد الخوض في ملابسات اقتراح المسالك وطلب اعتمادها؛ فهذا أمر خاض فيه غيرنا فأجاد وأفاد. وإنما مرادنا من ذلك الوقوف على صحة المصادرة التي صدرنا بها هذا الكلام، من أن المرء لا يكاد يتبين الخبرة من الخبزة ولا الخبراء من الخبزاء. والخَبْز،كما جاء في المعاجم المعتمدة، الضرب بمجامع اليد، فهم يضربوننا ويضربون الجامعة؛ والضرب إما يفضي إلى الموت وإما يؤدي إلى عاهة مستديمة؛ عافى الله الجامعة والجامعيين من الموت أو العاهة، فما بيننا منتشر كاف واف. والخَبْز في عرفنا وفي عاميتنا فعل شيء كيفما اتفق؛ ولعل هذا المعنى ما ينطبق على الجامعة والجامعيين منذ الاعليلاء إلى زمن الاخشيشان. فقد ورد في الحديث الشريف: اخشوشنوا فإن الحضارة لا تدوم؛ ودوام الحال من المحال. والناظر في المسلك الموجه إلى شعبة اللغة العربية يقف على تجليات الخَبْز والدَّبْز. فقد تفتقت عبقرية الخبزاء عن اقتراح مسلك أشبه بملاءة الخباّز وقد علقت بها العجائن. وجاء ردهم عن المشروع المقدم للاعتماد مؤكدا ما سبق ذكره، وسنقف عند بعض النماذج: فقد جاء في "المسلك النموذجي"، ولعله المسلك المعتمد في أم الجامعات المغربية، وحدة في الفصل الأول وَسَموها بمدخل إلى اللغة وعلومها وجعلوا من أهدافها "تعريف الطالب بمجالات البحث اللغوي عند العرب القدماء وتقريب الطالب من مناهج البحث اللغوي قديما وحديثا..." وإلى جانب مجزوءة مدخل إلى علوم العربية (وعلوم العربية لا تنحصر في علمي الصرف والنحو كما هو مبين في المسلك النموذجي) أقحموا مجزوءة المدخل إلى اللسانيات فيها مزيج من "سوسير" و"يالمسليف" و"شومسكي" ثم مدرسة براغ. بل إنهم اختاروا من النحو التوليدي نموذجه الثاني المتمثل في مظاهر النظرية التركيبية (1965)، وأخذوا منه مفهومي القدرة والإنجاز اللذين أوردهما شومسكي في المقدمة المنهجية للنظرية المعيار. فهل هذا مدخل إلى اللسانيات؟ أم مخرج منها؟ أم مستقر فيها؟ أم ماذا؟ ومن ذلك اقتراحهم في الفصل الرابع الأدب العربي والآداب العالمية عنوانا للوحدة 16 المكونة من مجزوءتي ترجمة النص الأدبي والأدب المقارن والصوريات، ثم إعادة اقتراح العنوان نفسه (الأدب العربي والآداب العالمية) في الوحدة 23، الفصلِ السادس من مسار الدراسات الأدبية بنفس الأهداف والمحتويات. والأدهى من هذا كله ما جاء في الرد الأول من لجنة الخبزاء/ الخبراء على المشروع الذي قدمته شعبة اللغة العربية والذي انطلقت فيه مما ورد عليها من هذه اللجنة. فلم يجدوا ما يملأوا به صحيفتهم إلا أن يعيبوا عليها اقتراح كتاب "سوسير" المحاضرات (1916) في الفصل الخامس ضمن مراجع إحدى المجزوءات. فكأن القوم لم يميزوا بين المرجع وبين الكتاب المقرر. وعلى هذا لا ينبغي أن يدرج كتاب "سوسير" في مراجع بحث للإجازة أو الدكتوراه بحجة أنه مبرمج في السنة الأولى أو ما شابه ذلك. ومنه أيضا اعتراضهم على تغيير عنوان الوحدة 16 من الأدب العربي والآداب العالمية إلى الأدب المقارن العنوان الأنسب. فهل الأدب المقارن إلا تناول لعلاقة الأدب العربي بالآداب العالمية وإبراز للصلات بينهما من خلال عملية التفاعل عن طريق الترجمة أومن خلال الدراسات المقارنة كما جاء في المسلك المعيار؟ فلا نعلم للأدب المقارن تعريفا غير ما سبق ذكره ! إن ما ذكر غيض من فيض. وفيه مَنْبَهَة على بعض أسباب تردي الجامعة المغربية وتقهقرها في ترتيب نظيراتها العالمية. لقد رسم التقرير الأخير صورة قاتمة للجامعة والجامعيين، ومع ذلك يريدون أن يطبقوا، بمن لم تعد الجامعة تستهويه ولا مكانته الاجتماعية تحفزه على البذل والعطاء ويتحين الفرصة لترك وظيفته، صيغة ثالثة من الإصلاح ما يزال من قلدناهم في الصيغة الأولى منه. والفارق بيننا وبينهم أنهم لا يقدمون على خطوة حتى "يحسبوا لها ألف حساب". أما نحن فكنا على شفا حفرة فخطونا خطوة جبارة إلى الأمام، إلى قعر الهاوية.