تصعيد خطير.. تقارير عن توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    الأخضر يفتتح تداولات بورصة الدار البيضاء    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    ترامب يؤكد التصدي للتحول الجنسي    حداد وطني بفرنسا تضامنا مع ضحايا إعصار "شيدو"    "إسرائيليون" حضروا مؤتمر الأممية الاشتراكية في الرباط.. هل حلت بالمغرب عائلات أسرى الحرب أيضا؟    من يحمي ادريس الراضي من محاكمته؟    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا    توقيف شخص بالبيضاء بشبهة ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير        تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تاريخ الكتابة العربية
-عَهْدُ عُثمان بن عَفَّان (644 / 656 م): - مِنَ القُرآن إلى المُصْحَف.
نشر في طنجة الأدبية يوم 10 - 04 - 2009

لعل أهمَّ ما يميِّز عهد عُثمان هو أنه عرف أكبر عَملية تَدوين عرفها العرب حتى ذلك التاريخ. ليْس من حيْث الكم و لكن من حيْث النَّتائج الَّتي ستُسفر عنها هذه العملية.
ففي عهده توسَّعت أرض الإسلام لتشمَل ليبيا و أفغانستان و أجزاء من باكِستان... و منذ بِداية عهده ستتأكَّد الحَقيقة الَّتي كانت قد بدأت في الظُّهور منذ عهد عُمر بن الخطّاب. هذه الحَقيقة هي أنّ عدد المُسلمين العرب أصبح أقلَّ بكَثير من عدد المُسلمين غيْر العرب. و هو ما طَرَحَ مُشْكِلَةً كَبيرة و هي: من أيْن سيأخُذ هؤلاء دينهم؟
حَقيقة أُخرى ظهرت بعُمْقٍ و هي كانت قد بدأت في أوَّل عهد أبي بكر وهي كَثرة المُتوفِّين من الصَّحابة الَّذين كانوا يُعْرَفُونَ بِ " الْحُفَّاظِ " أيْ الَّذين كانوا يحفَظون القرآن. و الأَحْياء منهم تفرَّقُوا في البُلدان.
و بما أنّه, منذ عهد عُمَر بن الْخَطَّاب، كانت تُنَظَّمُ مُسابَقات في حِفْظِ القرآن للأطفال، فقد بدأت تظهَر قِراءات مُخْتَلِفَة للقرآن.
كل هذه الأسباب شجَّعت الخَليفة عُثْمان على إكمال العمل الَّذي كان أبو بكر قد بدأه. و قد عيَّن لَجنة من " كُتَّاب الْوَحْي" برآسة الصَّحابي" زَيْد بن ثَابِث "
هذه اللَّجنة أكملت العمل السابِق و أنتجت لنا "الْمُصْحَف" بالتَّرتيب الَّذي نعرِفه اليوم. أيْ القُرآن الَّذي أُنْزِلَ على رسول الإسلام و لكن على شكل كِتاب بيْن دَفَّتَيْن. هذا "الْمُصْحَف" كُتِبَتْ منه نُسَخَ كَثيرة و أُرْسِلَتْ إلى أهم المُدن في تلك الفترة. و تُعرف هذه النسخ في كُتب التاريخ تحت إسم " الْمُصْحَفُ الإمام". و إن كنا لا نعرِف كم هو عدد المَصاحِف الَّتي استُنْسِخَتْ انطلاقا من هذه النسخ الأصلية، إلا أنَّه يُمكن القول إِنَّ عددها، مع توالي الأيام، كان كَبيرا جدا.
- عَهْد عَلِي بْن أَبِي طَالِب (656 / 661 م)
لم يكن عهد عَلِي فترة استقرار سِياسي و لم يشهَد تَوسيعا يُذْكَر للدولة الإسلامية، إلا أنَّ المَصادِر العربية تَكاد تُجمع على أنَّه العهد الَّذي بدأ فيه وضْع الخطوات الأولى للنحو العربي، كما سنرى ذلك في الفصل الثاني من هذا البحث. و قد شهِد هذا العهد كذلك ضَرْبَ عُملة إسلامية ( درهم فضي) عليها بعض الكِتابات.
ج - نُصُوصٌ و خُلاَصَاتٌ
أثناء عملية البحْث في هذا المَوضوع استطعنا جمْع نُصوص كَثيرة تَعود إلى هذه الفترة. النصوص الَّتي أمكن استغلالها، بفضْل وُضوحها, سنعرِضها في هذه الفَقرة قبل التكلُّم عن مجموعة من الخُلاصات المُستنتَجة منها. هذه النُّصوص هي:( أُنْظُر اللَّوَحات المُرافِقة)
أَوَّلاً: رِسالة مَنسوبة إلى رَسول الإسلام
ثانِيا: شاهِدة قبْر عبد الرحمان بن خَيْر الحِجْري تعود إلى سنة 31 ه / 652 م
ثالِثا: مُصْحَف مَنسوب للإمام علي بن أبي طَالِب: س15 (الحِجْر) آ 18-27.
رابِعا: مُصْحَف مَنسوب للإمام علي بن أبي طَالِب: س 7 (الأعراف) آ 1-8.
خامِسا: مُصْحَف مَنسوب للإمام الحُسيْن بن علي: س 18 (الكهف) آ 81-82
سادِسا: مُصْحَف مَنسوب للإمام الحَسَن بن علي: س 36 (يس) آ 37- 38.
سابِعا: حُروف عربية مَأخوذة من شاهِدة قبْر عبد الرحمان بن خَيْرَ الحِجْري.
من خلال استقراء هذه النُّصوص و مُقارَنتها يُمكننا الخُروج بالاستنتاجات التالية:
أوَّلاَ: ليْس هناك فرْق كَبير بين الكِتابة في الجاهلية و الإسلام و كِلاهما يُشبه الكِتابة النبطية من وُجوه كَثيرة.
ثانِيا: كَثرة الكِتابة أدخلتْ بعض التطوُّر و الوُضوح على الكِتابة و بعض الحُروف أصبحتْ مُستقيمة.
ثالِثا: ظُهور الإِعْجام ( نَقْط الحروف) و لكن بشكل غيْر مُنظَّم و غيْر مَنهجي.
رابِعا: كَثرة الاستنساخ من "المُصحف الإمام" ساعَد كَثيرا على تطوُّر الكتابة و خُصوصا في العصر اللاحِق أي العصر الأُمَوِي.
ثالِثا: الكِتابة في العَصْر الأُمَوِي (40-132 ه /661-750م)
يُمكن القول، بكَثير من الأمانة العِلمية، إنَّ العصر الأُمَوِيَّ هو عصر كَثرة المُسلمين غير العرب. عصر تَنظيم الدوْلة.عصر كانت فيه الدولة عَربية أكثر منها إسلامية، عصر ضَرْب الدِينار و الدرهم الإسلاميين. عصر بداية تَدوين الحَديث النَّبوي بشكل جَماعي و مُنظّم، على يد مُحمَّد بن شِهاب الزَّهْري سنة 80 ه /700 م....
ليس غَريبا على عصر عرف كُلَّ هذه الأشياء و غيْرها أنْ يخطُوَ خَطوات كَبيرةً في تَطَوُّر الكِتابة العربية. و فيما يخُصّ مَوضوع بحْثنا عرَف هذا العصر ظُهور "النَّقْط / الشَّكْل" و بداية الخَطوات الأولى في النحو العربي مع "أَبِي الأَسْوَد الدُّؤََلي" و تَلاَمِيذه.
أ- ظُهور الشَّكْل / النَّقْط في الكِتابة.
كانت اللُّغة العربية, حتى العصر الأموي، تُكْتَبُ بدون الحَرَكات ( المُصَوِّتات) القَصيرة بل فقط بالحُروف. و حتى هذه الحُروف لم تكن مَنقوطة. و مع ذلك لم يكن هذا الأمر يطرَح أدنى مُشكِلة للعرب الأقحاح الَّذين تربَّوْا في بِيئة عربية خالِصة. و لكن أبناءهم الَّذين وُلِدُوا في المُدن و عاشُوا مع غيْر العرب - و كذا المُسلمين من غيْر العرب - كانوا يجدون صُعوبات كَثيرةً في القراءة و الكِتابة، و خُصوصا قِراءة وفهم النُّصوص الدينية المُؤسِّسة، من قُرآن و سنة. ف "المُصْحَفُ الإِمَامُ"، الَّذي كُتِبَ بدون نُقَطٍ و لاَ حَرَكات، كان يطرَح مَشاكِل، أكثر مما يُعطي من حُلول. ففي العصر الأموي أصبح الوعي كَبيرا، خاصة عند العلماء و رِجال الدولة، بِضَرورة إدخال بعض التَّعديلات على الكِتابة. و ذلك لتَسهيل القراءة و الفهْم على الناس و خاصة المُسلمين من غيْر العرب، و هم الأغلبية الساحِقة. لقد كان ذلك هو الدافِِع الحَقيقي لظُهور الشَّكْل / النَّقْط.
- ما مَعْنَى الشَّكْل / النَّقْط؟
إذا أخذنا القاموس و بحثنا عن مَعنى كلمة "شكل" فإنَّنا سنجد:
- شكَِل الحَيَوان: أيْ قيَّده و رَبَطَه من رِجليْه. = شكَل: قَيَّد و رَبَطَ لكي يمنَع من الهَرَب. = شِكال: الحبل الَّذي نربِط به الحَيَوان. = أَشْكَل الأمْر: أصْبَحَ غامِضًا. = شَكْل: هيْأة خارِجية.
إذا ترَكنا القاموس و بحثْنا عن مَعنى الشكل في اللُّغة ( الاصطلاح) فإنَّ كلمة " شكْل" تَعني إِزالة الغُموض و اللُّبس عن الكَلمة و تَفادي الخطأ (التَّصحيف) في القِراءة. إذاً الشّكل هو تَقييد للمعنى لكي لا يهرُب أو يختلط بمَعنى آخَر. و الشَّكل بهذا المَعنى، أي حَركات ونُقط عَلَى أو تحت الحُروف، مَوجود في الكِتابة السريانية و العبرية و لكنه غيْر مَوجود في الكِتابة النَّبَطية الَّتي هي أصل العربية.
- متى بدَأ الشَّكل / النَّقْط؟
لا نعرِف بالضبط متى بدَأ الشكل في الكِتابة العربية، و لكن لدينا نُصوصًا كَثيرةً تُرجعه إلى عصر الصَّحابة و التَّابِعين. فهذا "أبو عَمرو الداني"، و هو أحد أكبر المُتخصِّصين في القُرآن إنْ لم يكُن أكبرهم على الإطلاق وفي كل العُصور، يقُول في كِتابه " المُحْكَمْ في نَقْطِ القُرآن" ص 2 نَقْلا عن "الإِمام الأَوْزَاعِي" " سمِعتُ قَتَادة يقُول عن الصَّحابة: " بَدَؤُوا فَنَقَطُوا, ثُمَّ خَمَّسُوا، ثُمَّ عَشَّروا". و مَعلوم أنَّ قَتَادة هو " تابِعي" أيْ عاشَر مَجموعة من الصَّحابة. و معنى النص أنَّ الصَّحابة كانوا يضعُون النقط كَحَركات على الحُروف في المَصاحِف الَّتي كانوا يستعملونها. و هذا "القَلقشندي" في " صُبْح الأعشى..." ج 3 ص 155 يقُول: " كان الصَّحابة قد جَرَّدوا المَصَاحِفَ من الشَّكْل". و في نفس المَعنى أورد الأستاذ صُبْحِي الصَالِحِ قَوْلةً لعَبْد الله بن مَسْعُود، و هو من أوائل المُسلمين و كِبار الصَّحابة، يقُول فيها " جَرِّدُوا القُرآن و لا تَخْلِطُوه بِشَيْءٍ ". و في نفْس السَّياق يُزوِّدنا ابْنُ أَبِي دَاوُود السِّجِسْتَانِي في كِتابه " المَصَاحِفُ" ج 4 ص 141 بِنص عن الْحَسَن بن علي ( حَفيد رَّسول الإسلام) فيَقول إنَّه "كان يَكْرَهُ تَنقِيطَ الْمَصَاحِفِ بالنَّحْوِ". كل ما سبَق يُعْتَبَرُ دَليلا بالمُخالَفة إِذْ كَيْف يُمكن أن يكرَهوا النَّقط و كيْف لهم أنْ يُزيلُوه إذَا لم يكُن مَوجودا.
و يؤكِّد أبُو عَمْرو الدَّانِي، دائما في " الْمُحْكَم..."، أنَّ ذلك كان عادة عندهم منذ القَديم وأنَّهم كانوا يستعملون الألوان المُختلفة، فيقُول في ص 19:" إنَّ أَهْلَ المَدِينَةِ فِي قَدِيم الدَّهْر و حَدِيِثِهِ, قَدْ اِسْتَعْمَلُوا في نَقْطِ مَصَاحِفِهِمْ الْحُمْرَةَ و الصُّفْرَةَ. فَأَمَّا الْحُمْرَةُ فَلِلْحَرَكَاتِ و السُّكُونِ و التَّشْدِيدِ و التَّخْفِيفِ. وَ أمَّا الصُّفْرَةُ فَلِلْهَمْزَاتِ خَاصَّةً"
بعْد كلِّ هذه النُّصوص، و إنْ أصبحنا متأكِّدين أنَّ الشَّكْل، أيْ وضْع نِقَاط، كَحَركات قَصيرة، فوق أو تحت الحُروف بألوان مُخْتلِفة، كان مَوجودا في عهد الصَّحابة خُصوصا في المَصاحِف. فإنَّنا لا نعرِف بالضبط هل كان هذا مَوجودا قبْل" المُصْحَفِ الإِمَام" و لا من أين أخَذ العرب الشَّكل.
- الشَّكل / النَّقْط: من أين جاء؟
كنا قد ختمنا فَقرة سابِقة بقولنا إنَّ النبطية لا شَكْل فيها. فهل يُمكن أنْ يكُون العرب قد أخَذوه من العِبْرِية و السُّرْيانية؟
تُفيد الدَّراسات المُتخصِّصة أنَّ اللغة العِبْرِية استعملت الشَّكْل بِوضْع النُّقط على الحُروف لتَوضيح الحركات القَصيرة و تسهيل القِراءة، و ذلك منذ القرن الخامِس المِيلادي. و بما أنَّ اليَهود كانوا يسكُنون في مُختلَف أنحاء الجَزيرة العربية منذ قُرون طَويلة، فلا شيء يمنَع من مُحاكاة الكِتابة العبرية خُصوصا وأنَّ مُسلمين كَثيرين كانوا يعرفُون هذه اللُّغة فهْما و كلاما و كِتابة منذ عهد النبي الَّذي كان قد أمر " أَبُو خَارِجَة" بتعلُّمها.
نفس الاحتمال يَبقى وارِدا فيما يخُصُّ السريانية. و إنْ كان الميْل عُموما هو أكثر إلى هذه الفَرَضية. لكون العرب المَسيحيين في شمال الجَزيرة، و ما أكثرهم في تلك الفَترة، كانوا يعرِفون اللغة و الكِتابة السريانية. بل النبي نفسه كان قد أمَر " زَيْد بْن ثَابِث" بتعلُّم السُّرْيانية.
لكن الأكيد هو أنَّ الشَّكل بهذه الطَّريقة لم يكُن مُنظَّما و لا إجباريا بل بقِي مَسألة شَخصية فردية دون أنْ يتحوَّل إلى ظاهِرة عامة. و الدَّليل على هذا هو أنَّ نفس المُصْحَف، كتَبه نفس الشَّخص، نجده غيْر كامِل الشَّكل. و يبقى السُّؤال هل يُمكن أنْ نَشكُل لُغة، بشكل مَنهجي و منظَّم، و هي لا تتوفَّر على نحو و قواعد؟ هذا السُّؤال سيُحاول " أَبُو الأَسْوَد الدُّؤَلي أنْ يُجيب عنه.
ب- أَبُو الأَسْوَد الدُّؤَلِي ( تُوفِيَ 69 ه/ 689 م) و تَعميم الشَّكْل.
لم يكن " أَبُو الأسْوَد الدُّؤَلي" عالِما يَعيش خارج المُجتمَع، بل سُكناه في جَنوب العِراق حيْث عدد كَبير من المُسلمين غيْر العرب، مكَّنته من التعرُّف عن قُرب على المَشاكل اللغوية الَّتي كانت تُواجِه هؤلاء الراغِبين في مَعرِفة أُمور دِينهم. هذا الواقِع جعله مُستعِدًّا لكي يفعَل شيء يسهِّل به على الناس، إلى أنْ وقعتْ له حِكايتان: الأُولى مع ابنته و الثانية مع مُسلم غيْر عربي.
- مع ابِنته.
تَحكي المَصادِر التاريخية أنَّ " أبا الأسود" كان في بيْته، فدخلتْ بنته و قالتْ: " مَا أَجْمَلُ السَّمَاءِ" برفْع كَلِمة "أجملُ" فاعتقد "أبو الأسود" أنَّها تسأَله. فَأَجاب قائلا:" نُجُومُهَا" أيْ أنَّ النُّجوم هي أجمل شيء في السَّماء. و لكنّ بنته ردّتْ عليه قائلة: " أنا أتعجَّبُ و لاَ أسأَل". فقال لها: " قولي "ما أجملَ السَّماءَ" وافتَحي فمكِ."
لقد وصلتنا هذه القِصّة بجُمل و تَعابير مُختلِفة لكن النَّتيجة تَبقى واحِدة دائما. و هي أنَّ أبناء العرب الَّذين وُلِدُوا خارِج الجَزيرة العربية و اختلطوا بغيْر العرب، بدؤُوا يفقِدون اللُّغة العربية، و أصبحوا غيْرَ قادِرين على التَّعبير السَّليم، وذلك يؤدِّي إلى اختلاط المعاني. إنَّ الهوية العربية أصبحت في خطر حتى من أبنائها. و إذا ضاعتْ اللُّغة الَّتي هي أساس الهوية العربية فإن الدِّين بدوره سيَضيع. هذا هو ناقوس الخطر كما فهِمه " أبو الأسود الدُّؤَلي".
- مع مُسْلم غيْر عربي.
تَحكي المَصادِر التاريخية أنّ "أبا الأسود الدُّؤلي" سمِع مُسلِما غيْر عربي يقرَأ الآية 3 س 9 (التوبة) بطَريقة خاطِئة قلبتْ المَعنى تماما و جعلتْه مُستحِيلا. فلآية تقُول " ...أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ" و المعنى هو أنَّ الله و الرّسول يتبرَّآن من المُشركين. و لكن الرجل قرأ: " ...أنّ الله بريء من المشركين و رسولِه" أيْ أنَّه و ضع الكَسْرة تحت حرف اللام في كلمة "رسولِه" بدلا من الضمة. و بذلك أصبح المعنى أنّ الله يتبرَّأ من المُشركِين و من الرَّسول أيضا و هو شيء مُستحيل قُبوله.
فسواء كانت هذه القصة صَحيحة أم لا، و كيْفما وقعتْ، فإنّ النَّتيجة هي واحِدة دائما. هناك مُسلمون غير عرب يبدُلون جهدا في تعلُّم اللُّغة العربية ولكنهم لا زالوا عاجِزين عن قِراءة و فهْم القُرآن بشكْل سَليم.
تُضيف المَصادِر أنّ "أبا الأسود"، بعد أنْ سمِع تلك القِراءة الخاطِئة، ذهب إلى الحاكِم و قبِل ما كان قد رفضَه من قبل. أيْ قبِل أنْ يقُوم بشَكْلِ القرآن شكْلا تامّا. و سواء كان ذلك الحاكِم هو "زِياد بن أَبِيهِ" أو الْحَجَّاج بن يُوسف " أو الخَليفة "عَبْد الْمَلِك بن مَرْوان " نفسه, فإنَّ هذا اللِّقاء و هذا التوافُق هو تماما ما يحتاجُه مَشروع "عِلْمِي" يتعلَّق بمَصير لُغة و دين. فالعالِم "أبو الأسود" يمثِّل السُّلطة الثَّقافية و الْعِلمية الَّتي ستُنجز المَشروع. و الحاكِم هو السُّلطة الحاضِنة للمَشروع و القادِرة على نشْره في كلِّ أنحاء الإمبراطورية الإسلامية. و لكن إذا بقِينا عند هذا المُستوى لا يُمكننا أنْ نفهَم تردُّد "أبي الأسود" في القِيام بشيء كل الناس يقومون به منذ عهد الصَّحابة و لكن بشكل غيْر مُنظَّم و غيْر مَنهجي.
أعتقد جازما أنَّ "أبا الأسود" لم يرفُض نَقط / شكْل القُرآن و لكنه رفَض تَوحيد النقط و خُصوصا فرْض طَريقته على الجَميع من طرف السُّلطة الحاضِنة.
زوّدتْ السُّلطة الحاضِنة "أبا الأسود" بثلاثين كَاتِبا خَطّاطا. و بعد أنْ جرَّبهم جَميعا, اختار "أبو الأسود" واحِدا فقط "لبَراعَته و فَصاحَته و جوْدة خطِّه".
و يروي لنا " أبو عَمْرو الدَّاني" في "المُحكَم..." ص3/4 أنّ "أبا الأسود" قال للكاتِب :" إذا رَأَيْتَنِي فَتَحْتُ شَفَتِي بالْحَرْفِ فانْقُطْ وَاحِدَةً فَوْقَهُ, وَ إِذَا كَسَرْتُهَا فَانْقُطْ وَاحِدَةً أَسْفَلَهُ, وَإِذَا ضَمَمْتُهَا فَاجْعَلِ النُّقْطَةَ بيْن يَدَيِ الْحَرْفِ، فَإِنْ تَبِعَتْ شَيْءً مِنْ هَذِهِ الْحَرَكَاتِ غُنَّةٌ فانْقُطْ نُقْطَتَيْنِ." و كان يُراجِع كلَّ صَفحة إلى أنْ أكمل نَقْطَ المُصْحَف.
من خلال هذا النص يكُون "أبو الأسود" قد أوجد حلاًّ لكتابة الفَتحة و الضمة و الكسرة و " الغُنَّة " أيْ التَّنوين. و بقِي السُّكون و المد و الشدة و الوصلة بدون حل.
و قد احتفظتْ لنا المَصادِر بنسخ من المَصاحِف مَنْسُوبَة إلى الخَليفة " عُثمان بن عَفَّان" مَنقوطة على طَريقة "أبي الأسود" اِستطعنا الحُصول على لوحتين منهما:
1- اللَّوحة الأولى هي قِطعة من سورة 61 (الصَّف) الآية 14. حيث يظهَر الشَّكل واضِحا.
2- اللَّوحة الثانية هي قِطعة من سورة 62 ( الجُمُعة) الآية 1-4 و يظهَر الشَّكل فيها أيضا.
ت - تَلاَمِيذُ أبي الأسود: ظُهُورُ الشَّدَّة.
بعد "أبي الأسود" أخذ تَلاميذه يسِيرون على خَطواته و يُحاولون ما أمكن تَعميم طَريقته في النَّقط، حتى تُصبح العملية مُوحَّدة بيْن أكبر عدد مُمكن من الناس، و من المُتعلِّمين. إنها عملية صعبة جدا، في دولة تمتدُّ من حُدود الهِنْد شرقا إلى المَغرب غربا، و من تُرْكيا شَمالا إلى السُودان جنوبا، مع غِياب قَنوات إعلامية و تَعليمية كالمَدارس و الجامِعات.
و تذكُر المَصادِر على الخُصوص "يَحْيَى بن يَعْمُر" و هو تِلميذ "أَبي الأسود"، و كان قاضِيًا في مَدينة " مَرْو " الإيرانية حيث أشرف على نَقْط المَصاحِف على طَريقة أستاذه إلى أنْ تُوفِيَ سنة 90 ه / 709 م و هو لم يتجاوَز 45 سنةً من عُمْره.
و يبْرُز أيضًا " نَصْر بن عَاصِم"، و هو تِلميذ لِ "أبي الأسود" و لِ "يَحْيَى بن يَعْمُر"، الَّذي يسمِّيه "الجاحِظ" "نَصْر الْحُرُوف" وذلك، فيما نعتقد, لشِدَّة اشتغاله بها إلى أنْ تُوفِيَ سنة 89 ه / 708م.
ولقد حاوَل تَلاميذ أبي الأسود أنْ يُدخلوا تَحسينات على طَريقته في النَّقط. فنجدهم قد استعملوا الألوان لكي يُصبح النقط أكثر وُضوحا. و لكن كل جِهة كانت تختار ألوانها. ففي العِراق مثلا كانوا يستعملون اللَّون الأحمر لإظهار نُقط الشكل والهمزة في الوقت الَّذي كان فيه أهل "المَدينة" يضَعون نُقط الشكل باللَّون الأحمر و خصَّصوا اللَّون الأصفر للهمزة. أما الأندلسيون و المغاربة عُموما فقد أخذوا طَريقة أهل "المَدينة" وزادوا اللَّون الأخضر لإظهار ألف الوصل. و هذا الاختلاف دَليل كافٍ على أنَّ طَريقة أبي الأسود لم تتعمَّم.
و لكن الشَّدَّة حَظِيَتْ باهتمام كَبير في هذه الفترة. وقد قُدَّمَتْ مَجموعة من الحُلول لها. ففي مَرحلة أولى اختاروا قَوْسًا صَغيرا مَفتوحا نحو الأعلى لكي يستعملوه كشدَّة. فالشَّدّة بالفتحة كانت قوسا فوق الحرف مع نُقطة فوقه. و الشَّدّة بالضمة كانت قوسا فوق الحرف مع نُقطة على يساره. و الشَّدّة بالكسرة كانت قوسا تحته نُقطة يوضَع تحت الحرف.
و في مَرحلة ثانِية كان لابدّ من التَّخفيف بعض الشيء، فتمت إزالة النقطة عن الشَّدّة و أصبح القوس كافيا لوحده. و هكذا أصبحت الشَّدّة بالفتحة قوسا مَفتوحا نحو الأعلى يُوضَع فوق الحرف. و الشَّدّة بالكَسرة قوسا مَفتوحا نحو الأسفل تحت الحرف. و الشَّدّة بالضَّمة قوسا مَفتوحا نحو الأسفل يُكْتَبُ فوق الحرف.
و الجدول التالي يلخِّص المَرحلتين:
الشَّدَّة بالضَّمَّة الشَّدَّة بالْكَسْرَة الشَّدَّة بالْفَتْحَة
المَرْحَلَة الأُولَى
المَرْحَلَة الثَّانية
ج - بَعْضُ الْنُّصُوصِ الأُمَوِيَّة.(أُنْظُرْ اللَّوحات المُرافِقة)
ساعدتْنا الظُروف في الحُصول على مَجموعة من الوثائق الَّتي تعُود للعصر الأموي. وبالرغم من أهميتها الكَبيرة في مَوضوعنا إلا أنَّها و للأسف لا تتعدَّى سنة 72ه / 692م. و من مَجموع هذه الوثائق، اِخترنا ما يلي:
1- شاهِدة قبر مُعاوِية وهي تَعود إلى سنة 58 ه / 678م وهي من ستة أسطر قَصيرة و لا تتعدَّى ثَلاثين كَلمة.
2- شاهِدة قبر ثابِت بن يَزيد الأَسْعَدِي/ الأشْعَري وهي تَعود إلى سنة 64 ه / 684م و هي عِبارة عن إثني عشر سطرا أطولها يتكوَّن من خمس كَلمات.
3- النقش الداخِلي لقُبَّة الصَّخْرة و هي تَعود إلى سنة 72 ه / 692 م.
4- مَجموعة من الحُروف مأخوذة من عدد من البَرْدِيات تعود إلى فَترات مُختلفة من العصر الرَّاشِدي و الأموي.
و من خِلال هذه الوثائق و غيْرها يُمكن أن نَقول:
1- الكِتابة العربية أصبحت كِتابة سَرِيعَةَ و أكثر طَواعية.
2- كل الحُروف بدأت تأخُذ شكلها شبه النهائي الَّذي نعرفه اليوْم.
3- الألف كحرف مد طَويل لا يُكتب في وسط الكلمة.
4- بعض الكلمات جزء منها في آخِر السَّطر و الجزء الآخر في السطر المُوالي.
5- ظُهورُ بعض نُقَط الإعجام على بعض الحُروف لتَمييزها من بعضها في شاهدة السد و نقش قُبة الصخرة وغيابها تماما في شاهدة قبر ثابت والبرديات.
بصِفة عامة، و إلى حدود هذا العصر، هناك وضوح أكبر في الكِتابة العربية، و مُحاولات جادّة لتَطويرها و تَسهيلها مع عدم اِنضباط الجَميع لمُحاوَلات التَّوحيد. هذه الجهود في النَّقط ستعرِف شكلها النهائي في العصر العباسي الأوَّل على يد العالِم اللُّغوي الكَبير الخَلِيل بن أحمد الفراهدي.
رَابِعا: الْعَصْر الْعَبَّاسي الأَوَّل (132- 232 ه / 750- 846 م)
اجتمعتْ ظُروف كَثيرة و مُتنوعة في هذا العصر، ساهمتْ كلها في أنْ تأخُذ الكتابة شكلها النِّهائي الَّذي نستعمله حتى الآن. هذه الظُّروف نذكُر منها:
1- الإمبراطورية العباسية تُسيطر على كل الشرق الأدنى القديم: من المغرب غربا إلى حُدود الهِنْد شَرقا.
2- هذه الرقعة الجغرافية هي الَّتي عرَفتْ أعرق الحَضارات الإنسانية.
3- التُّجار المُسلمين يُسيطرون تقريبا على كل الطُّرق التَّجارية.
4- نقَل هؤلاء التُّجار تِقْنية صِناعة الورق من الصِّين و نشروها في العالَم الإسلامي. و الورق يُساعد على تطوُّر و انتشار الكِتابة و المَكتوب.
5- وجود إرادة سياسية قوية لنشر العلم و الاستفادة من الحضارات السَّابقة ابتداء من عهد الخَليفة "المأمون" العبَّاسي.
6- بفضل هذه الرِّعاية السياسية, ترجم العرب و المُسلمون, و في أقلَّ من مِئة سنة, كلَّ العُلُوم الَّتي كانت مَعروفة في ذلك الوقت عند كل الأمم.
7- ابتداء من هذا العصر، بدَأ العرب والمُسلمون يُدَوِّنُونَ كلَّ شيء عن تاريخهم. و هذا العصر يُعْتَبَرُ بحق بِداية "عَصْر التَّدْوين" أيْ بداية التحوُّل من الثَّقافة الشَّفَوِيَّةِ إلى الثَّقافة الكِتَابِيَّة.
8- اِنتشار عدد كَبير جدا من المَكتبات و الورّاقين في كل أنحاء الإمبراطورية.
لكن هذه الجُهود و هذه الظُّروف تَبقى بدون أية قِيمة مادامتْ اللُّغة الَّتي سنُترجم إليْها لا يفهَمها أكبر عدد مُمكن من الناس، و كِتابتها لا تزال تطرَح مشاكِل كَثيرة لمُستعمليها. إنَّ كل هذه الظُّروف المُساعِدة لا تُساوي شيء بدون لغة مَكتوبة بشكل مُوحَّد و مَفهومة من الجَميع. هذا هو السَّبب الَّذي جعل العُلماء يهتمُّون، أوَّلا و قبل كُل شيء، باللُّغة لأنَّها عِماد كل ثَقافة.
هذا التحوُّل في الثَّقافة العربية من الشَّفَوي إلى الكِتابي كان مُستحيلا بدون حل مُشكلة "الإعجام" و إعطاء حل نِهائي لمُشكلة الشَّكل / النقط. في الفَقرتيْن التالِيتيْن سنتطرَّق إلى ذلك مع تَقديم فَقرة "الإعجام" على فَقرة " الشَّكْل" لأسباب "ديداكتيكية" مَحضة.
أ- الإِعْجَام.
إذا أخذنا القاموس و بحثنا عن مَعنى كلمة "إِعْجَام" فإنَّنا سنجد:
= الإعجام: إِزَالَةُ الغُمُوضِ. وَهُو مَصْدَرٌ عَلى وَزْنِ " إِفْعَال " = أَعْجَمْتُ الْكِتَابَ: وَضَّحْتُهُ و أَزَلْتُ غُمُوضَهُ. = المُعْجَمُ= هو القَامُوسُ الَّذِي يَشْرَحُ مَعْنَى الكَلِمات. = الأَعْجَمِي: غَيْرُ وَاضِحِ النُّطْقِ وَالْكِتَابَةِ. = و الفِعْلُ هو أَعْجَمَ و عَكْسُهُ إِسْتَعْجَمَ أيْ أصْبَحَ مُسْتَغْلَقًا غَيْرَ مَفْهُومٍ. و نَقُولُ: إِسْتَعْجَمَ الْكِتَابُ أي إِسْتَغْلَقَ و لَمْ يُفْهَمْ.
الإعجام في القاموس هو الإيضاح و التَّفسير. و في الاصطلاح يَعني وضْع النُّقط فوْق أو تحت الحُروف ذات الرَّسم المُتشابه لتمييزها من بعضها. بهذه الطَّريقة وحدها حافَظت الكِتابة العربية على نفس رسْم الحروف الأربعة عشر، و ضاعَفتها بفضْل نُقَطِ الإعجام.
فعندما كَثُرتِ الْكِتابة و انتشر المَكتوب أصبحتْ الأخطاء في القِراءة شائِعة بكثرة. لا نقصد خطأ في إعراب الكلمة و تغيير حَركة آخِر حرف فيها, بل الخطأ في قراءة الكلمة نفسها أيْ ما يُعْرَفُ ب "التَّصْحِيف". و قد احتفظت لنا كُتُبُ التاريخِ ببعض النماذج من "التَّصحيف" و منها ما أدّى إلى مآسي إنسانية. سنورد مِثاليْن فقط:
- المِثال الأوَّل: حادِثة وقعتْ في عهد الخَليفة "عُثْمَان بن عَفَّان" الَّذي عيَّن حاكِما على مِصر. و في رِسالة تَعيينه جاءت الكلمة بدون نقط الإعجام في الجُملة التالية:" إذَا جَاءَكُمْ رَسُولي فاقْبَلُوهُ" و لكن الناس قرؤُوها: "فاقْتُلُوه". وهكذا تسبب غِياب نُقط الإعجام في قِراءة خاطئة و قتْل رجل بريء.
- المِثال الثاني: وقع في عهد الخَليفة الأُمَوي سُلَيْمان بْن عَبْد الْمَلِك (تُوفِيَ 99 ه / 718 م). ففي ردِّه على رِسالة من حاكِم يستشيره في مَجموعة من تِسْعة مَساجين, جاءت الكلمة التالية :" " بدون نُقط الإعجام في الجُملة التالية: " أنْ احْصِ المُخَنَّثِين" فقرأها الكاتِب " أنْ اخْصِ المُخَنَّثِينَ " فأخْصاهُم الحاكِم. و هكذا أيْضًا تسبَّب غِياب نُقط الإعجام في قِراءة خاطِئة
و في مأساة إنسانية.
و إذا كان هذا الحال في رسائل لا تتجاوز عادة صَفحة واحدة، فإنَّ كِتابا مِثل "المُصْحَف" على الرَّسم العُثماني، أي بدون نُقط الإعجام و لا حركات سيُؤَدِّي بدون شك إلى أخطاء كَثِيرة جدا في القِراءة، خُصوصا عند أولئك الَّذين لا يحفظُونه. و باعتباره الكِتاب المُقَدَّسَ و الأكثر قِراءة، فإنَّ مِثْل هذه الأخطاء لا يُمكن قُبولها.
العصر العباسي الأوَّل سيعرِف الظُّهُور المُنظَّم لنُقط الإعجام و الاستمرار في استعمالها إلى اليوْم. و هكذا كانت النَّتيجة الأُولى أنَّ الخلْط لم يعد مُمكنا بيْن الحُروف المُتشابهة في الرَّسم. و أصبح مُمكنا التَّمييز و بسُهولة، بين الحاء و الخاء والجيم ...إلخ. و النَّتيجة الثانِية كانت، هي إعادة تَرتيب الحُروف العربية حيث أصبحتْ كما نعرِفها اليوم.
و السؤال الَّذي يطرَح نفسه على بحْثنا التاريخي هذا هو: هل كان الإعجام مَوجودا في العربية قبل العصر العبَّاسي؟ الجواب هو " نعم ". فبالرّغم من كَوْن النبطية لا إعجام فيها، فإنَّ العربية عرفتْ نُقط الإعجام رُبَّما بتَأثير من السُّريانية أو العبرية.
ففي العصر الجاهِلي، و من خلال الشَّعر نعرِف أنَّ الإعجام كان يُسَمَّى " الرَّقْشُ". و في زمن النبي كان الإعجام مَعروفا تحت نفس الاسم " الرَّقش". ففي رِواية عن مُعَاوِيَة بن أَبِي سُفْيَان" جاء فيها: " كَتَبْتُ بيْن يَدَيْ رَسُولِ الله فقال لي: "يا مُعَاوِية أُرْقُشْ كِتابكَ" فقلتُ "و ما رَقْشُهُ يا رَسُولَ الله؟" فقال :" أَعْطِ كُلَّ حَرْفٍ مَا يَنُوبُهُ من النُّقَطْ". و في العهد الرَّاشِدي وصلتْنا بردِيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.