لم يستقبل قرار منح جائزة نوبل للسلام للرئيس الأمريكي بكثير من الارتياح. فقد ظهر متسرعا، ومكافئا للنوايا والوعود، أكثر من تقييم لأعمال ملموسة. فما زال الرئيس الأمريكي في حالة من الانتظار والتربص، ولم يتخذ قرارات من شأنها أن تشكل قطيعة فعلية مع ممارسة الإدارة الأمريكية السابقة. في الواقع، منذ وصول الرئيس باراك أوباما إلى الرئاسة في الولاياتالمتحدة، يسود الاعتقاد أن صفحة جديدة تكتب في العلاقات الدولية، على الأقل من حيث الخطاب الذي ابتغى رسم صورة جديدة للولايات المتحدة و مكانتها في العالم مغايرة لتلك التي نقشها الرئيس السابق بسياسته القائمة على القوة و الاستفراد والغطرسة. لقد تعددت الإشارات عبر الخطابات المهيكلة في مناسبات متعددة آخرها الجمعية العامة للأمم المتحدة تبشر بضرورة مقاربة جديدة للعلاقات مع مختلف المجموعات المكونة للنظام الدولي أو للتحديات التي تواجهها الإنسانية برمتها. فعلا، لقد شكلت دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما صاحبها من قمة رابعة لمجلس الأمن، وقمة الدول العشرين مؤشرات على هذا المنحى، حيث يبدو واضحا أن شيئا ما يتغير، لكن مازال لم يأخذ حجمه النهائي. لكن يتأكد يوما عن يوم أن الإدارة الأمريكية تدرك جيدا أنه لا مناص لها من التخلي عن سياسة الاستفراد و الغطرسة و إنكار الآخر إذا أرادت أن تحافظ على موقعها الريادي، و إذا أرادت فعلا أن تساهم في ضمان حق البقاء بالنسبة للكون. فالنظام الدولي يشهد تنامي مخاطر جديدة، كما هو الشأن بالنسبة للمخاطر المناخية و البيئية والكوارث الطبيعية و تغير طبيعة الصراعات، الأمريكي، في نفس الوقت، فإن واقع القوة بدوره يشهد تحولات عميقة بصعود دول جديدة لا سيما في المجال الاقتصادي، و بتراجع الهيمنة الأمريكية. لذلك فإن هاجس السياسة الأمريكية على ضوء الممارسة السالفة إنما يكمن في البحث عن الاستراتيجيات الأكثر ملاءمة التي تسمح للولايات المتحدة بالمحافظة على موقعها الريادي مع إشراك باقي القوى التي تنازعها تلك الريادة. وهو الأمر الذي يتجلى سواء من خلال أدوات الاشتغال أو من خلال القضايا المعقدة التي تواجهها. 1- دبلوماسية ذات هندسة متنوعة تعقد المشكلات التي يتخبط فيها النظام الدولي بين ما هو سياسي أمني و اقتصادي و إيكولوجي فرض ضرورة البحث عن آليات أكثر تمثيلية دون أن تكون ديموقراطية وربما أكثر نجاعة لمواجهة المشكلات القائمة. ففي الوقت الذي تحتفظ فيها الآليات الكلاسيكية، الجمعية العامة، المنتديات الكبرى، كما هو الشأن بالنسبة لمؤتمر كوبنهاغن المقبل حول البيئة، فإننا نلاحظ بروز أدوات أكثر نخبوية لمحاولة البحث عن حلول لمشكلات معقدة. فالملف الإيراني يتم إدارته من طرف ما يسمى بمجموعة الستة و هي المكونة من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا. وهذا الاختيار يمليه انخراط هذه الدول في القضايا الأمنية و المخاطر المترتبة عنها. لكن هذا الإطار لا يلغي مطلقا الأدوات الأخرى كما هو الشأن بالنسبة لمجلس الأمن الذي يبقى الإطار النهائي لتقييم التزامات إيران النووية، و بالتالي اتخاذ الإجراءات المناسبة، ولا الوكالة الدولية للطاقة الذرية التي يقع عليها عبء إثبات خرق دولة ما للالتزامات المنصوص عليها في معاهدة منع الانتشار النووي. حدة الأزمة الاقتصادية فرضت إقرار آلية جديدة للتفكير و التقرير في الإجراءات القمينة بإخراج العالم من الأزمة العميقة التي يتخبط فيها منذ انفجار ما عرف بقضية الرهون العقارية في الولاياتالمتحدة و ما أفرزته من إفلاسات و تدهور مختلف القطاعات الاقتصادية. يبدو أن مجموعة العشرين سائرة نحو التحول إلى المنتدى الرئيسي للتعاون الاقتصادي. فقد بات واضحا أن مجموعة السبعة التي كانت تضم الدول الأكثر غنى لم تعد ممثلة للتوازنات الاقتصادية الجديدة. فلا يمكن التفكير في الاقتصاد العالمي دون الأخذ بعين الاعتبار دور دول ضخمة كالصين والهند و الدول ذات الاقتصاديات الصاعدة. يراد شرعنة هذا المنتدى اعتبارا لكونه يمثل دولا تستأثر بأكثر من 80 % من الناتج القومي العالمي. نحن أمام آلية أكثر تمثلية بالمقارنة مع مجموعة السبعة و لكنها ليست أكثر عدالة. فالدول السائرة في طريق النمو تبقى ضعيفة التمثلية في الوقت الذي يكثر الحديث عن التنمية المستدامة و الاستقرار والأمن. السؤال المطروح حول هذه الآليات لا يرتبط بمشروعية وجودها. فهي واقع قائم، لكن أهم من ذلك ينتصب السؤال حول نجاعتها في حل المشكلات المعقدة القائمة، و التي تتواتر في أغلب الاجتماعات، فقمة مجموعة العشرين التي التأمت في بترسبورغ بالولاياتالمتحدة لم تخرج بقرارات حاسمة فيما يتعلق بمواجهة الأزمة الاقتصادية. فما زال التضارب قائما حول صحة الاقتصاد العالمي و أفق استرجاعه لعافيته. إن حدود مثل هذه الآليات تكشف بالملموس عن صعوبة التغيير التي تطمح إليه الإدارة الأمريكية و مدى مصداقية الوعود التي قدمها الرئيس الأمريكي لإعادة رسم موقع الولاياتالمتحدة، و بالتالي لإقرار شروط أكثر ملاءمة للتخفيف من حدة التوترات التي تعتور المسرح الدولي. 2 - قضايا سياسية معقدة يتفق الكثيرون على أن باراك أوباما من الرؤساء الذين يتسلمون السلطة في ظرفية صعبة، لكن، من جهة أخرى، فإن مشروعه يحمل الكثير من الآمال و الآفاق بالنسبة لتسوية بعض القضايا المستعصية. بيد أن بداية الممارسة تكشف عن وجود مقاومة واضحة في الملفات المطروحة. فأفغانستان وفلسطين وإيران تمثل مختبرات حقيقية لمدى مصداقية الوعود التي قدمها خلال الحملة الانتخابية. منذ نهاية السبعينات، تحولت أفغانستان إلى واجهة للصراع العالمي. فعلى أرضها اندحرت القوات السوفياتية، وتحولت إلى قاعدة للتطرف بانتصار حركة طلبان المساندة من طرف القاعدة التي تمثل نموذجا لما يسمى بالفاعل الجديد غير المؤسساتي، و التي استطاعت أن توجه ضربة موجعة للولايات المتحدة بفعل الأعمال الإرهابية في شتنبر 2001 . على خلاف ما كان يعتقد من أن الانهيار السريع لنظام طالبان سيؤدي إلى تطبيع أفغانستان وفق تضور أمريكي غربي، فإن الأمور لم تسر على هذا المنوال. فالخيارات التي نهجت خلال عهد الإدارة السابقة لم تفض إلا إلى إعادة نهوض هذه الحركة التي لم تعد تنشط فقط في أفغانستان، بل امتدت ظلالها إلى باكستان التي تعتبر حلقة أساسية فيما يعرف بالحرب ضد الإرهاب. قوات التحالف تصطدم يوما بعد يوم بحقيقة سقوط ضحايا في صفوفها. وبصمود حركة طالبان و تقدمها. بالمقابل فإن احتمالات تحقيق النصر تتضاءل. و الشك ينتشر حول قدرة الإستراتيجية الأمريكية و الحليفة على خلق الاستقرار في أفغانستان. و بالرغم من إصرار اوباما على مصيرية الحرب في أفغانستان لدح الإرهاب، فإنه لحد الساعة مازال مترددا في الإستراتيجية الأكثر فعالية الواجب اتباعها. فالقيادة العسكرية لا سيما في أفغانستان تعتبر أنه لا مفر من إضافة قوات جديدة حتى يتسنى وقف زحف قوات طالبان. هذا الطلب لا يجد ارتياحا خاصة في الوقت الذي تتراجع المساندة لهذه الحرب التي يعتبر الكثيرون أنها انحرفت عن هدفها. فالانتخابات الرئاسية الأخيرة و ما رافقها من خروقات طرحت أمام الحلفاء إشكالية التعامل مع رئيس مشكوك في نزاهة انتخابه، وبالتالي في مصدر شرعيته. هناك اقتناع أن المطلوب ليس فقط دعم القوات / ولكن تبني إستراتيجية متكاملة تأخذ بعين الاعتبار حقائق الأرض . من بينها أنه لا يمكن ربح المعركة فقط باستعمال القوة بشكل أعمى. فالكثير من الغارات التي خلفت قتلى في أوساط المدنيين زادت من السخط الشعبي على قوات الحلف الأطلسي، و بالعكس رفعت من شعبية حركة طالبان . فضلا عن ذلك، فالحضور الغربي لم توازيه إصلاحات حقيقية سواء على مستوى الحكامة أو على صعيد الحياة اليومية للمواطن. فهل يملك الرئيس الأمريكي تصورا فعليا لما ينبغي القيام به. مازال الكل ينتظر محتوى الإستراتيجية الجديدة، حتى لا تتحول أفغانستان إلى فيتنام جديد بالنسبة للولايات المتحدة. فالإدارة الأمريكية والحلفاء يرفضون قبول الانسحاب من أفغانستان بدون نصر، لأن ذلك معناه الانصياع للإرهاب، و بالتالي ترك المجال فارغا أمام قوات طالبان المساندة من طرف القاعدة. و لا يتعلق الأمر فقط بأفغانستان، بل قد يتعداه إلى باكستان التي أصبحت إحدى الحلقات الرئيسة في هذا الصراع الذي يكشف الكثير من الأبعاد المرتبطة بالإرهاب و السباق نحو التسلح النووي و تداعيات كل ذلك على مستقبل السلام العالمي. المواجهة مع الإرهاب و التطرف تمر حتما عبر إيجاد تسوية للقضية الفلسطينية التي تمثل أحد مظاهر الحيف و الظلم ضد شعب بكامله . لا شك أن الرئيس الأمريكي كان أكثر تقدما في تشخيصه لهذا الصراع. فبمجرد تسلمه للسلطة فقد قام بتعيين روبرت متشل الذي قام بدور حاسم في الأزمة الايرلندية ليتولى عملية أعادة تحريك المفاوضات . في نفس الوقت، فقد طالب إسرائيل بشكل واضح وقف الاستيطان لخلق أجواء الثقة بين الطرفين تمهيدا لإعادة تنشيط المسلسل التفاوضي الهادف إلى إفراز الدولة الفلسطينية المرتقبة. لكن هنا أيضا، و كما كان منتظرا ، فإن تصور أوباما يصطدم بتعنت إسرائيل. فهي ترفض تجميد الاستيطان وقبول سقف زمني لقيام الدولة الفلسطينية و عودة اللاجئين، و قبول القدس كعاصمة لفلسطين. و في نفس الوقت تصر على ضرورة اعتراف الطرف الفلسطيني بالطابع اليهودي لإسرائيل كشرط لإعادة تحريك المفاوضات. وواضح أن هذه الشروط التعجيزية تهدف إلى عرقلة كل تسوية نهائية لهذا الملف على أساس قيام دولة فلسطينية. كيف يمكن للإدارة الأمريكية أن تتجاوز هذا التعنت الإسرائيلي. من الواضح أن الإدارة الأمريكية ترفض القبول بفشل المباحثات، ولكنها في نفس الوقت تراهن على الضغط على الجانب الفلسطيني و العربي لدفعه إلى القبول بالتفاوض بدون شروط مسبقة، أي بصيغة أخرى الانخراط في المنطق الإسرائيلي وفي إملاءاته المحكومة ببرنامج اليمين المتطرف الإسرائيلي. لذلك يبدو من الصعب الوصول إلى تسوية في الأمد المنظور . يمثل البرنامج النووي الإيراني تحديا لا يقل تعقدا بالنسبة للإدارة الأمريكية و الغرب. فمن جهة تصر إيران على الطابع المدني لبرنامجها. وذلك ما تشكك فيه مختلف التقارير الغربية التي تزكي الرغبة الإيرانية في الارتقاء إلى مركز قوة نووية إسوة ببعض القوى الإقليمية كالهند و باكستان وإسرائيل التي لا يناقش أحدا امتلاكها للسلاح النووي. في هذه المواجهة تستفيد إيران من عاملين أساسيين: يتمثل الأول في مركزها كقوة إقليمية لا مناص منها في اللعبة الجارية في منطقة الشرق الأوسط و الخليج. ومن جهة ثانية من الانقسامات وتضارب المصالح داخل مجموعة الستة / حيث لا تتحمس الصين وروسيا لرغبة بعض الأطراف في التصعيد من خلال فرض عقوبات، ولما لا توجيه ضربة عسكرية لإيران كما تدافع عن ذلك إسرائيل التي تحرض العالم ضد إيران خاصة بعد أن قامت هذه الأخيرة بإطلاق صاروخين بعيدي المدى قادرين على الوصول إلى إسرائيل. لحد الساعة، وفي انتظار ما ستسفر عنه مفاوضات جنيف، فإنه لا يظهر كيف ستقبل إيران بالتخلي عن برنامجها النووي، وهي التي استطاعت لحد الساعة أن تجيد المراوغة و أن تواصل مخططها النووي. بالنسبة للإدارة الأمريكية والغرب، فإن المأزق يظل مطروحا ويتمثل في كيفية إرغام إيران على تجميد برنامجها، مع ضمان مساهمتها في تدبير الأزمات التي تعرفها منطقة الشرق الأوسط والخليج، والتي يعرف الكل أنها فاعل أساسي في ديناميتها. ينظر البعض إلى مفاوضات جنيف على كونها مفاوضات الفرصة الأخيرة. فإيران لا يمكن أن تستمر في هذا النهج إلى ما لا نهاية. فهي تدرك أن الإدارة الأمريكية تسعى بشكل حثيث إلى استمالة الصين وروسيا إلى مقاربتها، كما فعلت عندما قررت منذ أيام تجميد نسر صواريخها في بولونيا و تشيكيا وهو ما آثار ارتياحا في روسيا التي ترفض بشدة إستراتيجية الحلف الأطلسي في أوربا. لذلك في حال فشل هذه الجولة الجديدة من المفاوضات، تبقى إيران أمام احتمالات العقوبات التي يشكك الكثيرون في فعاليتها لعدة اعتبارات من بينها إمكانية إضعافها خاصة من طرف الأطراف غير المتحمسة لها، و التي ترتبط بعلاقات اقتصادية مع إيران. لكن علاوة على ذلك فإن احتمال قيام إسرائيل بتوجيه ضربة عسكرية لتدمير المنشآت النووية يبقى بالرغم من الصعوبات اللوجستيكية التي تحوم حولها، و كذا انعكاساتها السياسية، ومن بينها جعل الإدارة الأمريكية أمام محنة كبيرة، و ربما ستشكل ضربة في وجه جهود التصالح مع العالم العربي و الإسلامي . من الواضح جدا، أن الرئيس الأمريكي لا يوجد في وضع مريح. ففي كل الملفات التي تحدثنا عنها، فإنه مطالب باتخاذ قرارات واضحة . و لا يمكن أن يكتفي بشعارات عامة، أو بنوايا حسنة. فشعبيته بدأت تتآكل. و هو يدرك أن الزمن ليس في صالحه، بل أكثر من ذلك حتى داخل الولاياتالمتحدة، فإن فئات من الكونغريس ليست مقتنعة كثيرا باختياراته الخارجية وحتى الداخلية فيما يتعلق بمعالجة الأزمة الاقتصادية. لذلك، فإن الأيام المقبلة ستكشف أكثر عن طبيعة المنحى الذي ستسير فيه الإدارة الأمريكية. ولنا عودة للموضوع .