من هجير الواقع وبؤس العلاقات العامة يهرب بعض الناس إلى واحة الكتب. وضد جيوش الأرق والقلق الوجودي الذي يحاصر أسرة النوم، يتحصن البعض الآخر بجدار الكلمات وما يتدفق خلف أسوارها العالية من ينابيع حية. ومن لهيب المسافات الطويلة، يحجز بعض المسافرين لعقولهم في مقصورة الكلمات المكيفة، فينغمسون في إشكالات وقضايا وعقد وعلاقات وأفكار وسرود وإشراقات، يجدون أنفسهم بفضلها قد استطاعوا النفاذ إلى ما وراء قشرة الحياة، وأن المشاهد السريعة التي تتقاطر عليهم من النوافذ، ليست سوى جينيريك لما هو أعمق وأقوى وأكثر مكوثا فوق الأرض. القراءة مفتاح، والكلمات حياة، والكتب هي حظنا فيها من الهواء والبيوت والمدن والعمارة الاجتماعية والنفسية والسحرية. وإذا كان البعض يقرأ هروبا من واقع معين، محولا بذلك الكتب إلى ملجأ أو واقع مثالي، فإن البعض الآخر يقرأ في مواجهة ذلك الواقع، باحثا عن تمثل أعمق للإنسان والحياة ولتعقد العلاقات الاجتماعية. وكيفما كانت المقصدية الموجهة إلى القراءة، فإننا كثيرا ما نصادف في الكتب ما لا نتوقعه. وإذا كان القارئ العام يستطيع أن يتسامح مع هفوات البناء وخطابية اللهجة وتهافت التركيب والصياغة، من موقع انبهاره بمهمة التأليف وما تؤسس له، في الوجدان العام، من وضع اعتباري سحري، فإن القارئ الخاص يصبح أكثر قسوة على الكلمات، عندما تتراصف على الأسطر بين دفتي كتاب، دون أن تفي بوعودها الفكرية والجمالية المنتظرة. ليس الوفاء بالوعد احتراما لأفق انتظار القارئ بالمعنى الذي حددته جمالية التلقي. وأتصور أن أكثر الأصدقاء سوءا هو الكتب التي تدغدغ مشاعرَ القراء وتُدَلك أعصابَهم بمراهم الرومانسية والإشباع العاطفي والحذلقات التعبيرية التي تخفي عجزا عن الاختراق والتحويل والمفاجأة. الوفاء بالوعد مطلب فني عسير، يقيم خارج الجاهز على مستوى الثقافة وحدود الجنس الأدبي، ويتحصن بالمعرفة والذكاء والمغامرة والموهبة التي تتغذى، باستمرار، على الأعمال الكبرى في الإبداع والفن. سؤال التأليف والفن أصبح، في الواقع، جزءا من عملية التأليف ذاتها. لذلك، كثيرا ما تلتفت كلمات الأدب إلى نفسها، فتقول عالمها الخاص، وتتساءل، في آن، عن منطقها وبنائها وجدواها وطبيعة قارئها. ولم يعد هذا الأمر منحصرا في النقد، بل شمل أيضا الأدب الظافر كالرواية والمسرح والسيناريو، وامتد كذلك ليشمل، منذ فترة بعيدة، الشعر والسرد القصصي والتخييل الذاتي. ولم يُحَفز هذا النوع من الكتابة فقط بمطلب تحديث الشكل، وإنما تأثر أيضا بنزعة ارتياب وبفانتازمات السخرية واللعب والباروديا التي تنسب الحقيقة الأدبية وتغذي لدى القارئ، ليس فقط رغبته في المعرفة والاستبطان، وإنما أيضا ميله إلى الشك والسؤال والتفكيك وإعادة النظر. وإذا كانت الكتابة تتصرف تجاه الأجناس الأدبية وفق هذا المنطق، على مستوى التأليف، فإن القارئ ينبغي أن ينصت بدوره إلى نزعة الارتياب العميقة، التي تأتيه من وراء التشييدات الأدبية والفنية. فالقارئ لا يسلم فقط بممتلكات الكُتب، وإنما يحاورها وينزع عنها هالة القداسة. فليس التأليف خلاصا مثاليا مشبعا بالقيم الخالدة، وليست القراءة إعلانا عن حسن نية تجاه استواء الكلمات وكمالها الفني المزعوم ونقائها المفترض. الكتابة والقراءة ينطلقان من حوار وأسئلة وينتهيان إليها. والكتب التي لا تفي بهذا التوقع، القائم على الشك والارتياب، على مستوى البناء كما على مستوى الدلالة، لا تستحق اسمها. وهي بالتأكيد، لا حظ لها في المكوث أكثر فوق الأرض. لذلك أفترض، وهذا ما تؤكده التجربة بالفعل، أن هناك كتبا تنتهي صلاحيتها بمجرد الشروع أو الانتهاء من قراءتها. فهي كتب «جوتابل»، لاجدوى من وراء احتلالها لحيز في مكتبتنا المنزلية، التي نحرص على تغذيتها بروائع الإبداع.