إذا كان هناك شيء ينبغي البكاء عليه بحرقة موجعة، فسيكون – ولا شك – المصير الذي آلت إليه المدرسة المغربية. تاريخ كامل من التضحيات التي قدمها الجميع من أجل مدرسة حديثة قادرة على أن تضع المغرب في قطار سريع يِؤدي به إلى التقدم والإزدهار...فإذا به يجد نفسه بفضل هذا المآل المظلم للمدرسة المغربية في تلك القطارات من الدرجة الثالثة، والتي لا وجود لها الآن، ولم تتوقف فحسب، بل صارت تائهة. أحيانا، لا تأبه للمحطات الرئيسية، مرّات تقف في محطات مهجورة... يغادرها البعض قبل الوصول إلى مبتغاهم في نصف أو ربع الطريق، آخرون يفوتهم بكل بساطة هذا القطار العجيب، والذين يصلون يكتشفون الحقيقة المرّة بعد فوات الأوان، أنه ما كان عليهم امتطاء هذا القطار... ليس لأنّ وجهته خاطئة فقط، ولكن لأنّ الركوب وعدم الركوب متشابهان مثل قطّين سياميين. ما الذي جعل مدرستنا الحلوة كما يقول النشيد الذي حفظناه وكلّنا واثقون أيّامها بأنها جميلة ورائعة مثل قصص الأبراشي وطاحونة ألفونس دودي وروايات جرجي زيدان وخواطر المنفلوطي ورومانسيات جبران المتمرد... تصبح الآن مثيرة للشفقة، وتشكل همّا حقيقيا للآباء والأمهات يقضّ مضجعهم... فإذا كان لهم مدخول يسمح بذلك أو طريقة من الطرق التي يبرع بها المغاربة في توفير حاجيات على حساب أخرى... وبكلّ بساطة السير على حبل المغامرة مثل بهلوان في سيرك الحياة، فإنّك تراهم لاهثين وراء مدارس خاصة، هي بالمناسبة نبتت كالفطر، وبين الساعات الخصوصية المكلفة والمثقلة للجيوب...لاهثين وراء من يسوّقون لهم الأمل ويبيعون لهم المستقبل المتجسّد في أبنائهم. أمّا الذين لا قبل لهم بذلك، والذين قيّد لهم أن يولدوا في الأقاصي والهوامش الجغرافية وأن يعيشوا سواء في أطراف مدننا المتوحشة أو في القرى النائية المعلقة بين الجبال والسماء والمتناثرة على السفوح وسهوب الأودية العميقة فإنّهم يتركون أبناءهم وبناتهم عهدة بين مدرستنا العتيدة لتصعد بهم إلى قطارها السالف الذكر في رحلة دائخة، مثقلين بأمتعة هم في الغالب غير محتاجين لها، يصرفون جلّ وقتهم في البحث عن مكان يجلسون فيه بسبب كثرة المسافرين الدائخين، واكتظاظ العربات... وبسبب حالات الغثيان المتكررة، وشغب البعض على الآخر، والتوقفات الاضطرارية وغير المفهومة يكاد الكثير منهم لا يحدد لنفسه سببا معقولا لوجوده في هذا الزمان والمكان كأنّه محتجز في زنازين «ألكتراس» البغيضة، أو في صهريج غسّان كنفاني في روايته الرائعة رجال في الشمس... لذلك، يتسلل البعض كلّما توقف القطار ليتنفسوا هواء آخر، فيجدونه قد تسلل هو الآخر منهم... والبعض ممّن لا يزال متمسكا بمقعده منشغل بتزجية الوقت في أحلام اليقظة إمّا بالهجرة أو بالفراديس الوهمية التي يبرع الكثير هذه الأيام في ترويجها بسخاء نادر... حتّى المراقب المسكين حائر بين عربات هذا القطار المجنون يهرول شمالا ويمينا لا يعرف بالكاد من عليه الدخول ومن عليه الخروج، ولمّا تخرج الأمور عن نطاق سيطرته يقبع في الركن الأكثر أمانا منتظرا حلّا سحريا قد يأتي من السماء. إنّ الذين أوكل لهم أمر خلق شروط النجاح في الحياة وفي الدراسة فشلوا في وضع الحدّ لثلاثة اختلالات أساسية في المدرسة المغربية: كيف يشتغل المدرس الواحد عوض مدرس ونصف بسبب النقص في المناصب المالية، لنحصل في النهاية على مردودية نصف مدرس؟ كيف يشتغل هذا المدرس نفسه في قسم دراسي هو بالقياسات التربوية المعمول بها عالميا يعادل قسما ونصف بسبب النقص في الميزانيات المخصصة، لنحصل في النهاية على مردودية نصف قسم؟ كيف يشتغل هذا المدرس في القسم ذاته بمقررات دراسية أساسها كمي وليس نوعي تشبه ورما سرطانيا أو متوالية هندسية لا نهائية، لنحصل في النهاية على مردودية نصف مقرر؟ إن الذي لا يستطيع حلّ هذه المعضلات الثلاث: مردودية نصف مدرس، ونصف قسم، ونصف مقرر، لا نتوقع منه أن يضع قطار المدرسة المغربية على سكّة النجاح، وأنّ شروط النجاح لا يصنعها حتما الفاشلون... فمتى سنعود إلى تلك المدرسة التي كانت مصدر اعتزاز الجميع وافتخار بشهاداتها، هل هي عودة مستحيلة، أو على الأقل صعبة وطويلة... أو كما كان يقول الشاعر البرتغالي الكبير: طريق العودة، دائما أطول من طريق الذهاب.