هي فقط أيام وتشرع آسفي في الاحتفال بتجربة الرحالة النرويجي طور هيردل بكثير من مظاهر التوظيف لرحلة وللحظة هي أكبر بكثير من حسابات الحاضر ورهانات السقاة الجدد للتاريخ... فبعد مرور 3 سنوات على أول احتفالية انتهت بنصب لوحة تذكارية جنب الميناء، وتعايشت كل هذه المدة مع الأزبال والقاذورات وعدم اهتمام الناس، تم إحياء الفكرة والاحتفالية على إيقاع الأشرعة والريح، وتم تفويت أحد أكبر مخازن السلاح البرتغالي إلى أجنبية مقيمة بآسفي تفتحه متى تشاء بمفاتيح مرت في صمت من أيدي إلى أخرى، ولا أحد يعلم المسطرة القانونية التي اتبعت في ذلك، خاصة وأن الجميع كان ينتظر أن تصنف « دار البارود» ضمن المآثر التاريخية الوطنية التي يرجع تاريخ تشييدها إلى القرن السادس عشر الميلادي، وتكون بذلك معلمة هندسية مصنفة مفتوحة في وجه الاستفادة العمومية وليس الخاصة أو شبه الخاصة. لقد اتجه طور هيردل نحو آسفي حاملا معه هوس التاريخ المختلط بالميتولوجيا ··· هو القادم من النرويج إلى عوالم أكثر اتساعا وأكثر غرائبية من الفراعنة إلى الفينيقيين حتى أهالي العالم الجديد··· وفي كل هذا انشغل هيردل بكثير من الهوس بإمكانية وفرضية تلاقي عالمين بفارق بحر الظلمات من قبل حتى عصر الاستكشافات الكبرى· ازداد هيردل سنة 1914 بمدينة شنارفيك على الساحل الجنوبي للنرويج، وقد ذهبت العديد من الدراسات العلمية والأكاديمية والنقدية بالخصوص لتجاربه إلى اعتباره رحالة أكثر من كونه مستكشفا، على اعتبار أنه لم يقم باكتشاف مجال جغرافي جديد، بل لكونه قام انطلاقا من تجاربه بإعادة اكتشاف مشاهد من تاريخ وجغرافية الأرض والإنسان· لقد كانت بدايات الشغب العلمي لهيردل من منطلق دراساته المكثفة للإثنوغرافية والأركيولوجية الخاصة بمنطقة بولينيزيا، ومنها إطلاقه لأول فرضية كانت بحق نشازا وسط ما سبق وأن تم تداوله ودراسته وتبيانه حين اعتبر أصل سكان بولينيزيا من أمريكا وليس من جنوب شرق آسيا، كما هو معروف. وككل فرضية جديدة اعتكف هيردل لحظات الوحدة والعزلة حين قوبلت فكرته ببرود علمي وعدم اكتراث الأوساط العلمية والأكاديمية لما قدمه، فكانت اللحظة الموالية والطبيعية لكل فرضية جديدة هي البحث عن الطرق والوسائل المادية الكفيلة بإثبات ما يفيد ويدعم الفكرة والفرضية· لذلك لم يكن أمام هيردل سوى القيام برحلة جهز لها مركبا مصنوعا بطريقة استنساخية من مادة البلسان النباتية تماما، كما كانت عليه المراكب الأولى لهنود أمريكا الجنوبية في فترة ما قبل التاريخ، ومن كالاو البيروفية أبحر هيردل ومعه 6 مرافقين نحو الجزر البولينيزية على ظهر المركب الشهير الذي سميت باسمه الرحلة كون تيكي وكان ذلك في 27 أبريل سنة 1947 · لقد استطاع هيردل من خلال رحلته التي دامت 3 أشهر (4300ميل بحري) من أن ينجح أولا في جانبها التقني، وأن تكون ثانيا بحق انجازا علميا مكنه من لفت الأنظار إليه وإلى فرضيته التي خصها بمؤلف هنود أمريكا في المحيط الهادي وهو الكتاب الذي جمع فيه كل عناصر الإقناع والإثبات لأطروحته التي لخصها باعتبار سكان بولينيزيا نازحين من البيرو في فترة القرن الخامس الميلادي، ودفع أيضا بوجود فترة نزوح ثانية خلال الألفية الأولى آتية من ساحل الغرب الشمالي لأمريكا الشمالية· لم تكن رحلة كون تيكي سوى فال خير وبداية هوس الرحلة لدى طور هيردل، ومنها سينطلق في مساره برحلة ثانية إلى جزر الكالابادوص سنة 1953، حيث سيقوم باكتشاف عدد هام من بقايا الموروث الأمريكي الهندي، ومن ذلك مآثر تعود إلى عهد شعوب الإنكا « وما قبلها، وقد اعتبر ما قام به هيردل وقتها بالسابقة التاريخية · سيعود هيردل إلى سنة 1947 مع تجربته الأولى كون تيكي ليستقي منها فكرته الجديدة الذي سماها راع المنطلقة نسختها الأولى سنة 1969 من آسفي والتي لم يتمكن المركب من تجاوز نقطة انطلاقه بعد 5 آلاف كلم، حيث تقرر توقيف الرحلة بعد 56 يوما ومعاودتها في 17 مايو من سنة 1970 ليصل بعد 57 يوما من الإبحار في المحيط وقطع 6100 كلم إلى جزر البارباد ويكون النجاح قد ضمن لرحلة راع الثانية· لقد أراد هيردل بعبوره المحيط من المغرب ومن أرصفة أقدم ميناء على الإطلاق في غرب القارة الأفريقية: آسفي، أن يثبت فرضية إمكانية وصول مراكب البردي لقدماء المصريين إلى الضفة الأخرى من الأرض والمحيط، وهو ما كان يعتبره دافعا كبيرا لتواصل الحضارات المصرية والإفريقية القديمة مع حضارات هنود أمريكا الوسطى، فكانت رحلة راع تأكيدا عمليا فقط على احتمال وصول مراكب المصريين البردية إلى الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، معتمدة على التيارات البحرية القوية لجزر الكاناريا· وقبل ذلك ومن على ضفاف نهر النيل تمكن هيردل من الوقوف على تقنيات صنع مركب راع الذي استجلب له 12 طنا من برديات إثيوبيا، فيما تكلف 5 هنود بوليفيين من بحيرة التيتي كاكا من صناعته بمدينة آسفي نقطة الانطلاق· استطاع هيردل جلب أنظار العالم إلى تجربته ومغامرته راع 2، فكان ان استقبل من طرف الراحل الحسن الثاني الذي اطلع من قبل على استعداداته وبعث له برسالة تهنئة وتحية على نجاح رحلته وبلوغ مسعاها العلمي النبيل، وبجانب هذا حرصت الولاياتالمتحدةالأمريكية، في شخص رئيسها ريشارد نيكسون، في تحية هذا العمل الإنساني الرفيع الذي من خلاله تريد أن تذكر العالم والشعوب بصفات المسافر التي يتقاسمها الإنسان مع الآخر فوق أقدم مركب يسمى: الأرض· سيتجه طور هيردل سنة 1977، وبعد تجربة راع، إلى القيام برحلة أخرى على ظهر مركب تراثي من القصب سماه تيكريس عبر فيه من العراق إلى الصومال، وأراد من خلالها تبيان الطرق البحرية للعصور القديمة ومن ذلك التلاقي الحضاري والثقافي والاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال شرق إفريقيا وبلاد ما بين النهرين لشعوب الألفية الثالثة ما قبل الميلاد المسيحي، خاصة إمكانية عبور شعوب العصر السومري بالاعتماد فقط على التيارات الهوائية من البصرة حتى الهند وإفريقيا · وستكون المحطة التي ستلي ما قبل هي اتجاه هيردل نحو دراسة فترة ما قبل التاريخ لجزر المالديف بالمحيط الهندي، بجانب قيامه بحفريات أركيولوجية بجزر الخالدات، حيث تمكن من اكتشاف هرم يرتبط هندسيا بالحركات الشمسية ويعود في الغالب إلى شعب الكونش المستوطن الأصلي للكاناريا· لم تكن أعمال طور هيردل بنظرياته وتجاربه وبرحلاته خاصة، تمر دون إثارة اهتمام الأوساط النقدية العالمية التي كثيرا ما نزعت الصبغة العلمية على طبيعة الرحلات وشككت دوما في نتائجها ومبتغاها التاريخي، خاصة أمام الهالة البطولية التي كان يصبغها هيردل على فتوحاته دون إعطاء الجانب العلمي كثير اهتمام· ومن ذلك تشبث هيردل في محاضراته الجامعية ومؤلفاته العديدة ربط نجاح نظرياته بنتائج رحلاته التي خضعت بدورها لحملة نقدية مخالفة نقلها ولخصها الباحث دونالد رايان في دراسة نشرت في شتنبر 1997 بعنوان طور هيردل ورحلة الكون تيكي، الأسطورة والحقيقة ضمن نشرة مجموعة الدراسات المحيطية عدد 275 · ومع ذلك فقد ظل طور هيردل، حسب تعبير الباحث دونالد رايان، أحد أبرز الوجوه الشعبية المذهلة لوقتنا الحاضر التي ترمز بالنسبة للجمهور الواسع إلى المغامرة العلمية غير المنفصلة عن قيم الشرف والنزاهة· لقد كان طور هيردل أحد أكبر المدافعين والمناضلين من أجل عالم يسود فيه السلام، ومن أجل مبادرات الاكتشاف العلمي والمحافظة عن المجال الطبيعي· إن استلهام هذه الخصال الإنسانية الرفيعة والعميقة في أبعادها الكونية والشمولية لأكبر بكثير من قيمة نتائج رحلات لم توجد إلا وهي عتبة لولوج تلك المعاني المتأصلة التي امتاز بها هيردل وجعلته بحق نموذجا للاستقامة والعفة ولروح الصفاء التي حملها معه وهو مكتشف ورحالة وضيف على العديد من الوجوه والشعوب والحضارات والتقاليد· إننا ونحن نسوق هذه الأبعاد الأخلاقية في تجربة طور هيردل، لنستحضر حقائق أريد لها أن تغيب وسط بورصة التاريخ التي افتتحت منذ حين بآسفي، لاسيما وأن هيردل، وبشهادة الدراسات والأبحاث النقدية التي أجريت على مساره، كان يمتلك حساسية مفرطة تجاه كل أشكال المتاجرة برحلاته ومغامراته، ومن ذلك رفضه المستمر لكل إمكانيات التمويل والاستشهار التي صدها بكل جرأة وشجاعة وخصلة نادرة· لم يكن لصدى نجاحات هيردل أي ربح شخصي يجنيه، ويكفي ما جنته العديد من المؤسسات التجارية العملاقة من علامة كون تيكي التي كان بالإمكان لهيردل أن يستفيد منها لولا إصراره على الطابع الإنساني السامي والبريء لمغامراته التي أضحت اليوم بآسفي سندات يراد تصريفها وتداولها وسط وكلاء الصرف الجدد للتاريخ· إن ما ربحه طور هيردل من مساره يفوق ولا يتساوى مع أية مقاربة تجارية وتسويقية رخيصة كانت أم رفيعة، ومنها لا يجوز المراهنة على إرث تجربة إنسانية قادت الرجل إلى كرسي المحاضر أمام الكنغريس الأمريكاني العالمي بجامعة كامبريدج وأمام المؤتمر العالمي الرابع للأنثروبولوجيا والإثنولوجيا وأمام المجموعة السويدية للأنثروبولوجيا والجغرافية التي منحته جائزة ميدالية آنديرس ريتزوس سنة 1950، كما انتخب عضوا بداخل أكاديميات العلوم بنيويورك والنورويج والاتحاد السوفيتي، وخلال سنة 1961 منحته جامعة أوسلو شهادة الدكتوراه بجانب شهادتين للدكتوراه الفخرية من دولة البيرو لوحدها، دون أن نغفل ما حققه كتابه عن رحلة كون تيكي من نجاح عكسته عشرات الملايين من النسخ التي بيعت والترجمات التي فاقت 50 لغة، حتى مكافئته الشهيرة بحصوله على جائزة الأوسكار سنة 1950 عن أحسن فيلم وثائقي «كون تيكي» الذي صوره بكاميرا يدوية هاوية ولاقى متابعة شعبية وجماهيرية جد استثنائية· هناك اليوم صمت لدى منظمي التظاهرة عمن يمول وكم ستكلفه هذه الاحتفالية برجل رفض دوما المتاجرة بمساره العلمي، لكن الأكيد أن التاريخ لا يحتفل به وسط قباب البورصة.