- ما هي قراءتك للخطابات التي تشكلت في السنتين الأخيرتين حول حاضر ومستقبل صندوق المقاصة بالمغرب؟ < لا بد أن ندرك أن مشكل صندوق المقاصة ليس وليد اليوم. فهو مطروح منذ حوالي ثلاثين سنة في المغرب، والخطابات التي تتحدث عنه تتغير، لكن الواقع هو نفسه، لكن الإرادة السياسية التي تحرض على معالجة المشكل في جوهره مازالت لم تتوفر، فالحكومات المتعاقبة منذ بداية الثمانينيات، تعاملت مع المشكلة مثل جمرة، كل واحدة من تلك الحكومات ترمي بها إلى الأخرى، وكل واحدة منها تزعم أنها ستحل المشكل، لكنها ما تلبث أن تصرف نظرها عن ذلك. إذن ماهي الخطابات؟ نحن، بحكم التبعية للخارج، مضطرون إلى استيراد مواد بشروط الخارج، لكن يجب أن نميز على هذا المستوى بين الأشياء ونتفادى التعميم،على اعتبار أنه إذا كان استيراد الطاقة من الخارج أمرا لا مفر منه، إلى أن يكتشف المغرب البترول، فإنه لا يجب، بالمقابل، أن نتذرع بالقدر عند الحديث عن استيراد المواد الغذائية، فهذا التوجه هو نتيجة اختيارات، يتجلى من خلال نتائجها اليوم أنها تنم عن لا مسؤولية صارخة. فخلال الثمانينيات وسيادة التوجه النيوليبرالي، الذي يعتبر أن السوق لا يعلى عليه، اكتشف المسؤولون المغاربة فكرة جهنمية، مؤداها أن المشكل لا يتعلق بالاكتفاء الذاتي أو الأمن الغذائي عبر إنتاج ما نحتاجه من غذاء، إذ شاعت فكرة مفادها أنه يكفي التوفرعلى العملة الصعبة كي نشتري ما نحتاجه من غذاء من السوق الدولية. ووجد هذا التوجه مبرراته في انخفاض الأسعار في السوق الدولية، غير أن القائلين به أغفلوا الدراسات والتحليلات التي كانت تقول آنذاك إن العوامل الهيكلية- التي ستدفع، إن عاجلا أم آجلا، نحو ارتفاع الأسعار على الصعيد الدولي- كانت جارية، من قبيل ارتفاع طلب بلدان مثل الصين والهند، وانخفاض المردودية على صعيد بعض البلدان الذي ينعكس على المخزون الدولي من هذه المواد و استعمال بعض المواد الغذائية لإنتاج طاقات بديلة. وكان الخطاب العمومي الذي يتحدث عن إمكانيات توفير الغذاء من السوق الدولية يتجاهل أن العلاقات الدولية تحكمها العوامل السياسية، إذ يمكن للدول العظمى أن تستعمل الفيتو ضد تزويد البلدان بما تحتاجه من السوق الدولية وإن توفرت لديها العملة الصعبة، لذلك كنا نحذر من هذا التوجه وندعو إلى حد أدنى من السيادة الغذائية، أي ضرورة التحكم في الإنتاج بطريقة إرادية على الصعيد الوطني، بما يسمح بتحقيق نوع من المناعة إزاء تقلبات السوق الدولية، لكن، للأسف، لا شيء من هذا حدث، رغم تعدد الدراسات والندوات والتوصيات، بحيث لم توح لأصحاب القرار بأية إستراتيجية فلاحية أو أية نظرة حول الدور الذي يفترض أن يلعبه العالم القروي، بل جرى التمادي في الاستيراد، خاصة و أن الدولة تستفيد من هذا الوضع، فعندما يعاني الفلاح من الجفاف تنتعش خزينة الدولة، لأنها تستورد القمح بثمن بخس وتستخلص حقوق الجمرك حتى ترفعه إلى مستوى الأسعار الداخلية التي كانت مرتفعة. فالرؤية التي تتعامل مع قضايا مصيرية بمنطق حسابي فرضت على الدولة هذا التوجه الذي يخول لها منح دعم يجري تعويضه بالأرباح التي تجنيها الخزينة من الاستيراد.وتلك سياسة بعيدة عن النظرة الشمولية التي تتعاطى مع المدى البعيد. - لكن يبدو أن الظرفية الدولية تغيرت، إذ يتجلى أن تعاطي المغرب مع هذه الأمور بدأ في التحول.. < منذ 2001 بدأ طلب الصين يرتفع في السوق الدولية، غير أن الوضع تجلى أكثر في السنتين الأخيرتين. صحيح أن مخصصات الدعم جد مرتفعة مقارنة بالعائدات، لكن ما يجري إبرازه الآن هو أن الدعم يستفيد منه الأغنياء أكثر من الفقراء لا جديد في هذا القول، لأن هذا الأمر كان معروفا في الثمانينيات من القرن الماضي في نفس الوقت، طفت بقوة فكرة التخلي عن نظام الدعم الحالي. - لكن ماهو البديل؟ < جرى تصريف العديد من البدائل في سوق الأفكار منذ الثمانينيات بالمغرب، حيث تم الحديث عن بطاقات الدعم تخول لحاملها الشراء من محلات خاصة وكانت ثمة مجهودات رامت اللعب على جودة المنتوج، عبر خلط القمح الطري بالشعير.. وهذا ما سيؤدي إلى تخفيض التكلفة التي ستنعكس على السعر النهائي. وطرحت كذلك فكرة الانخراط في أوراش توفر الشغل للأشخاص المحتاجين، غير أنه تبين أن نظام البطائق يتطلب بيروقراطية جد ثقيلة و أجهزة خاصة، بغض النظر عن التجاوزات التي يمكن أن تلازمه، وتجلى أن اللعب على جودة المواد يتطلب أبحاث تطبيقية معمقة. وتبدى أن خيار الأشغال العمومية، التي يمكن أن ترفع الدخل، يمكن أن تعطي دخلا في فترة معينة، ولا تؤمن إمكانية عيش مستمرة. وهذا لا يحل المشكل بصفة دائمة. - هل وقعت نقلة على مستوى البدائل مقارنة بما ذكرتموه؟ < أنا أقول إنه نقلة نوعية حدثت على مستوى البديل، فهناك رأي يقول بضرورة التخلي عن النظام الحالي الأعمى الذي لا يميز بين الفقراء والأغنياء وتعويضه بدخل مباشر عبر دعم تمنحه الدولة للساكنة الفقيرة، بمعنى أنه سيجري التخلي عن الدعم عبر الأسعار وتعويضه بالدخل المباشر الذي يخول لها مواجهة الزيادات التي تطال الأسعار. وهذا النظام لا يروم تحسين وضعية الناس، بل يسعى إلى تعويض الخسارة الناجمة عن فقدان القدرة الشرائية المترتبة عن التخلي عن الدعم. هذه آلية من آليات الضبط الاجتماعي، وهي سياسة متقدمة في البلدان المتقدمة، لأن لها سياسة اجتماعية واضحة، على اعتبار أنه إذا لم تكن سياسة الدعم المباشر دقيقة، فيمكن أن تتجاوز كلفتها إمكانيات بعض الدول، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، يتجلى في المفاوضات الجارية في منظمة التجارة العالمية أن كل دعم يتم عبر الأسعار، من المنظور الليبرالي بطبيعة الحال، من شأنه أن يفقد السوق توازنه، وهذا يجعل المنظمة تدعو إلى اختفاء هذا النوع من الدعم، وهذا ما ستكرسه جولة الدوحة، لذلك سيتعين على البلدان ملاءمة سياستها الاقتصادية والمالية من أجل تجاوز الدعم عبر الأسعار. - ما العمل بالنسبة إلى المغرب، إذن؟ < في بلد مثل المغرب، يجب أن نخضع هذا النظام لدراسة معمقة، وأنا أعتبر أنه يجب التساؤل حول ما إذا كانت إمكانيات الدولة تسمح بذلك. على هذا المستوى ، إذا قمنا بتقديرات بسيطة تبين أن العملية ممكنة. نحن الآن نتوفر على مليون أسرة فقيرة، أي خمسة ملايين فرد. فهذه الأسر التي تعيش تحت عتبة الفقر يمكن أن تمنحها الدولة 1000 درهم في الشهر، مما سيقتضي تخصيص 12 مليار درهم في السنة لهذا الغرض، إن هذا المبلغ يمثل تقريبا نصف ما رصد في السنة الجارية لصندوق المقاصة، لكن لا يوجد الفقراء وحدهم، فهناك المغاربة الذين يوجدون في وضعية هشة، أي المرشحون للالتحاق بالفقراء في أية لحظة، وهم سيتضررون بمعية جزء من الطبقة المتوسطة من إلغاء الدعم، هكذا يمكن للدولة أن تخصص لمليون أسرة تعاني من الهشاشة 6 ملايير درهم، بمعدل 500 درهم للأسرة الواحدة. - لكن واقعيا، كيف ستحصر الأسر التي توجد تحت عتبة الفقر والأسر التي تستحق الدعم؟ < هذا مشكل آخر، بالنظر إلى انتشار الرشوة، يفترض أن تحدد الأسر المستهدفة بالدعم، وهنا يمكن أن نعتمد على الإحصائيات التي يوفرها نظام الدعم الصحي، فمن يوجد في حاجة إلى هذا الدعم يمكن أن يحتاج إلى الدعم المباشر، لكن الجديد بالنسبة إلي هو أن المغرب بصدد إحداث هيئة لمحاربة الرشوة، وهي الهيئة التي يمكن أن توكل إليها مهمة الإشراف على شفافية ونزاهة العملية، بحيث يمكن أن يلجأ إليها الأشخاص الذين يتظلمون من عدم توصلهم بالدعم. - هل الإمكانيات المالية للدولة تسمح لها بالانخراط في التصورالذي تدعون إليه؟ < هذا غير ممكن بدون إعادة النظر في النظام الضريبي المغربي وتوجيهه نحو مساهمة الناس في المجهود الجبائي، حسب إمكانياتهم. والحال أننا نتوفر اليوم على نظام ضريبي يثقل كاهل الفقراء، وما يعني أن نظام الدعم المباشر يفترض تعبئة المساهمات التي تأتي من الدخول والرأسمال والثروات، هذا لا يعني فقط إعادة النظر في الضريبة على الدخل والضريبة على الشركات و الضريبة على القيمة المضافة، ولكن خلق ضرائب جديدة، لأنه من غير الطبيعي أن لا يتوفر المغرب على ضريبة على الثروة، تعبر رمزيا عن مساهمة الأثرياء في النفقات العمومية وعن تضامنهم الاجتماعي. ويمكن لعشرين مليار درهم التي تحدثنا عنها من أجل تمويل الدعم المباشر للفقراء، أن تجري تعبئتها من خلال هذا النوع من الضرائب التي تصيب المداخيل العليا والثروات والتي تودع في حساب خاص للدعم المباشر للفقراء.