الهواجس والتخوفات التي يثيرها تأثير الأسعار على القدرة الشرائية وارتفاع الغلاف المالي لصندوق المقاصة وجدت صدى لها لدى الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية التي لم تجد بدا من نقل النقاش إلى الحرم الجامعي، من أجل إخضاع ثالوث الأسعار والدعم والمقاصة، الذي يشغل الأسر المغربية، لنقاش موضوعي بارد يسمو على الانفعالات والمصالح والظرفيات التي قد تفسد كل قول في هذا الموضوع. استدعت الجمعية المغربية للعلوم الاقتصادية إلى الندوة التي خصصتها ل«الأسعار، الدعم، والقدرة الشرائية:حالة المنتوجات الغذائية الأساسية»، نجيب بنعمور، مدير صندوق المقاصة، الذي راعى البعد البيداغوجي في مداخلته، حيث ارتأى تقديم فكرة عن طبيعة تدخلات الصندوق منذ الأربعينيات من القرن الماضي والتغيرات التي طرأت عليها دون أن يغفل الوضعية الحالية، والاقتصادي المغربي نجيب أقصبي، الأستاذ بمعهد الحسن الثاني للزراعة والبيطرة، الذي ابتعد عن الظرفية الحالية كي يبرز الإخفاقات التي آلت إليها السياسة الفلاحية والحساسية التي ميزت التعامل مع صندوق المقاصة من قبل الحكومات المتعاقبة. أعاد نجيب بنعمور رسم مسار صندوق المقاصة منذ إحداثه في الأربعينيات من القرن الماضي، حيث أبرز أنه كان يتمتع بوضعية مالية مريحة، ضمنت له، رغم تعدد تدخلاته وتشعبها، عدم الارتهان لميزانية الدولة، لكن مصاعب الصندوق سوف تظهر أكثر عندما بدأت السلطات العمومية في اقتطاع الضريبة الداخلية على الاستهلاك ليحرم من عائدات مهمة، حيث بدأت تتجلى، كلما ارتفعت الأسعار في السوق الدولية، زيادة تحملات الصندوق، رغم إقرار حقيقة الأسعار بالنسبة إلى العديد من المنتوجات ذات الاستهلاك الواسع التي كان يدعمها. يعيد بنعمور التأكيد على أن الدعم يستفيد منه الأغنياء أكثر، وهذا ما يدفع، في ظل المستوى الذي وصل إليه التدخل المالي للصندوق، إلى التفكير في ضرورة التعجيل بإصلاحه بما يسمح بتوجيه الدعم إلى مستحقيه. لكن في انتظار اتخاذ السلطات العمومية للقرار الذي تراه مناسبا، يشدد بنعمور على أن الحكومة ليست لديها الإرادة لإقرار زيادات في أسعار المنتوجات التي يدعمها صندوق المقاصة. وسيتوجب على الصندوق تحمل الزيادات التي تفرضها السوق الدولية خلال السنة الجارية، فقد حدد قانون المالية الغلاف المالي المخصص للدعم في 20 مليار درهم، وهو التوقع الذي بني على أساس برميل نفط ب75 دولارا. غير أن بنعمور يتوقع ارتفاع الدعم في السنة الحالية إلى 24 مليار درهم إذا ظل سعر برميل النفط في السوق الدولية في حدود 100 دولار للبرميل وتراوح سعر الطن من الغاز ما بين 800و850 دولارا، علما بأن سعر الدولار يخول للمغرب تحقيق ربح صرف ب35 في المائة. يلفت الاقتصادي المغربي، نجيب أقصبي، الانتباه إلى أن الدعم يمثل 4 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وهو مستوى غير مسبوق في تاريخ المغرب . ملاحظة دفعته إلى التساؤل عن الاعتبارات التي رفعت هذه الميزانية إلى هذا المستوى. وفي مقاربته لهذا التساؤل، يحيل أقصبي على السياسة الفلاحية التي وصفها بالفاشلة، على اعتبار أنها لم تمكن، رغم الدعم الذي استفادت منه، من تأمين حاجيات المغرب الذي أصبح يعاني من تبعية غذائية للخارج، يؤشر عليها الميزان التجاري الغذائي الذي يعاني من العجز منذ أكثر من عقدين من الزمن. ولا يغفل أقصبي دور الصناعات التحويلية التي يرى أنها تعاني من هيمنة الاحتكارات التي تشوش على السوق، حيث تراقب سوق زيوت المائدة والسكر والحليب.. شركات تابعة لمجموعة أومنيوم شمال إفريقيا، في نفس الوقت الذي تسيطر فيه احتكارات جهوية على سوق الدقيق. وهذا ما استدعى ملاحظة أخرى، تتمثل في كون تلك الشركات هي التي تحدد هوامش الأرباح التي تحصل عليها وتؤثر على حجم الغلاف المالي الذي يخصص للدعم. ويتوقف أقصبي عند مفارقتين تميزان طريقة تعاطي السلطات العمومية مع الدعم، فهو يشير إلى أن الهاجس المالي الذي تحكم في مقاربتها للدعم دفعها، في ظل تراجع الأسعار في السوق الدولية، إلى تأجيل الإصلاح. في نفس الوقت، لاحظ غياب استراتيجية للإصلاح الفلاحي، وهو ما يؤشر عليه تراجع الأصوات التي كانت تنادي، قبل سنتين تقريبا، بالتخلي التدريجي عن الحبوب، مادام يمكن جلبها من السوق الدولية، غير أن الأسعار الحالية في السوق الدولية تجعل زراعة الحبوب ذات مردودية كبيرة. يرى أقصبي أن ثمة سبيلين فقط للتعاطي مع الدعم عند التصدي لإصلاحه، إذ يمكن مواصلة العمل بالنظام الحالي بعد تطهيره وكسر الاحتكار والقضاء على الريع ، ويمكن تفكيك الصندوق واللجوء إلى منح دعم مباشر للفقراء، يحسنون به دخولهم. لكن من هي الجهة التي ستتولى هذه العملية في ظل المستوى الذي بلغته الرشوة في المغرب؟