تأمل حال الثقافة والإبداع والفن لا يؤكد، في كثير من الأحيان، إلا مسألة واحدة هي اغتراب هذه الحقول في الوجود الاجتماعي. والاغتراب ليس ناتجا عن قدر فوقي ألزم هذه الحقول بأن تعيش خارج التاريخ، بل بسبب التصورات المثالية التي تتعرف بها وباعتبارها إنتاجات تعاش لذاتها، في الوقت الذي تؤكد فيه التصورات الموضوعية أن الإبداع لا وجود فعلي له إلا في حقله الإيديولوجي، أي التاريخي. ووجود الإبداع بهذا المعنى يفرض عليه أن يتحقق كإبداع شهادة يتجاوز منطق الهروب إلى الحلم والمثال لينخرط في نقط بؤس الواقع، ولا يمكن لهذا النقض أن يتحقق إلا بتوثيق محن الوجود المغربي. مناسبة هذا الحديث هي المحرقة البشرية التي ذوبت الأسبوع الماضي عشرات الكادحين بمدينة الدارالبيضاء. إنها مأساة إنسانية حقيقية، وكارثة وطنية يجب أن تفصل الأسئلة الحقيقية من مداخل السياسة والقانون وحقوق الإنسان... الخ، ويهمنا أن نقف من الموقع الثقافي لنسائل ما الذي يستطيع الإبداع فعله في مثل هذه المناسبات، بل وما الذي يجب أن يفعله في كل مسارات وجوده كنتاج لفئة متخصصة في ما هو رمزي وثقافي حتى لا يحدث ذلك. إن الإبداع مطالب دوما بصياغة أجوبة عن مآسي الواقع ومحن الناس، لأن هذا يتماشى مع حقيقته الأصلية التي يتعرف بها وتفرض عليه إما أن يكون ضد كل أشكال قتل الناس وضد سحق عظامهم بالنار أو بالحديد أو بالقمع أو بالجوع أو بالتهميش أولا يكون، وذلك لأنه حين تحصل كل المآسي الاجتماعية لا يكون ذلك بسبب أقدار خارج الواقع الموضوعي، بل يكون نتاجا لنوع خاص من السياسة والتدبير والحكم في المجتمع، مما يعني أن ما يقع من كوارث يمكن التنبؤ به من طرف الجميع، ويجب أن يعرف من طرف الحاكمين لسبب بسيط هو أن الحاكمين على معرفة باستغلال الناس وظروف سحقهم وصيغ تذويب جهدهم وطاقاتهم، والقوانين المناسبة للمالك، لكن لا أحد يفعل ما يلزم، فما يلزمه الحكم والمسؤولية والقانون والمنطق الإنساني هو الشيء الغائب في حياتنا دوما، لهذا مات الأطفال بالعشرات بأنفكو السنة الماضية بسبب الجوع والمرض والإهمال، ولهذا تغوص أعداد من الشباب في أعماق الأطلسي والبوغاز، ولهذا ارتوت أزقة الدارالبيضاء في 81 وشوارع فاس في 90 بدماء الرافضين للجوع والمدافعين عن كرامة البشر. وما يؤسف له في كل هذا هو أن مرارة المآسي السابقة يتم نسيانها عند عامة الناس بسبب عنف المآسي الجديدة، إلا أن ما يحتاج إليه الواقع هو محاربة النسيان. ومحاربة النسيان لا يمكن أن تتم إلا بتدخل فاعل وحازم لكل الأجناس الإبداعية لتوثيق محن الواقع، والشهادة على انحدار الوضع الإنساني إلى الحضيض. طبعا، لقد فعل بعض المبدعين المهمين جزءا من هذا خاصة بالنسبة إلى محن السياسة، هذا ما فعله عبد اللطيف اللعبي مثلا في «عهد البربرية» و«العيل والليل»، و«قصة مغربية» و«أزهرت شجرة الحديد» و«قصائد تحت الكمامة»، وهو ما قام به الشاوي في «كان وأخواتها»، ومحمد الرايس في «مذكرات تازمامارت»، وجواد احديدش في «درب مولاي شريف»، ويوسف الركاب في «لالة الشافية»، والنظراني في رسوماته... الخ، إلا أن أسماء أخرى كان بإمكانها أن تساهم بفاعلية من داخل أجناس إبداعية أخرى لها قيمة على مستوى التأثير ولم تفعل، في المسرح والسينما، خاصة السينما التسجيلية، والمسرح الوثائقي باعتبارها من أهم الأجناس التي أنشئت بغاية الفضح والتوثيق والشهادة للتاريخ حتى لا يتم تزييفه أو تناسي مآسيه. لهذا نقول إن توثيق محن الزمن المغربي هو ضرورة إبداعية واحتياج وطني حتى لا ننسى محرقة البيضاء وحتى لا ننسى جل محارق الحياة المغربية.