أحمد بوزفور قاص منشغل بفقرات عمود القصة إلى حد كبير وعميق، ينحت كتاباته الإبداعية بلغة رشيقة، صقيلة المبنى وغنية الإحالة. وبقدر ما تتعدد مؤلفاته القصصية ( النظر في الوجه العزيز، الغابر الظاهر، صياد النعام، ققنس)، تتنوع رهاناته الجمالية أيضا والتي تتغذى على مقروء غني ومتنوع، تراه متجليا في إصداراته وأنشطته الموازية للقصة ( الزرافة المشتعلة، تقديمات لكتب وكتاب...) . نحن، إذن، أمام كاتب، لا يكتب القصة وكفى؛ بل يجادل حولها بالمتن والتجربة، ساعيا إلى تطوير هذا النوع. هنا حوار معه حول مساره القلق . - مسيرتكم القصصية منذ السبعينات إلى الآن، عرفت انعطافات، إلى حد أن كل مؤلف عندكم ينفرد برهان ما ( العجائبي، اللغة الدارجة، الحلم...). دعني أسألك في البداية، كيف انفلت نصك الأول من التنميط السبعيني بحكم ملابسات المرحلة؟ < نحن لم ندخل أنا وكتابا آخرين إلى عالم الكتابة بيضا فارغين. لقد كنا نقرأ نصوصا جيدة من مختلف الآداب الإنسانية، وكنا نعرف أن الكتابة شئ آخر غير الخطابات الإيديولوجية ؛ ولذلك كنا نحس بثقل إكراهات المرحلة، ونحاول الإفلات. من جهة أخرى، نحن لم نفلت تماما، لأننا لم نكن كتابا فقط. بل كنا مواطنين أساسا، ولم نكن نستطيع أن نخرج تماما من أرض المرحلة وسمائها، بل، ولم نكن نريد أن نخرج. لقد كان الصراع الاجتماعي ساخنا. أحسسنا به على جلودنا، وانخرطنا فيه وانطبعت به كتاباتنا إلى حد كبير، كنا فقط نحاول أن لا نعبر عنه مباشرة، أن يكون تعبيرنا رغم القبح الذي يقدمه جميلا. وقد سلك كل واحد منا إلى ذلك طريقه الخاص . - يذهب البعض بالعجائبي إلى حد قد يتحرر من مدخلات معينة ( واقع، مكان، متون شفوية ...)، فيغدو تجريبا لا يستند على أي وعي. كيف تفهم التجريب في القصة ؟ < التجريب عالم واسع ومتنوع. ومجاله في الفنون الأخرى غير الكتابة أبرز وأخصب، فإذا قصرنا الحديث على التجريب في الكتابة، وفي الكتابة القصصية خصوصا، وفي النصوص التي أكتبها بالذات، فإنني أفهم التجريب كما يلي : حين يمل الكاتب الشكل الذي يكتب به، حين يحس أن هذا الشكل أصبح نمطيا، وأنه لايعبر عن الجديد فيه، يفكر في أشكال جديدة أخرى، ويجربها في الكتابة. هكذا أفهم التجريب: من جهة، التجريب يأتي بعد الكتابة وليس قبلها. ومن جهة أخرى، هو خروج على الأشكال التي نكتب بها نحن، وليس على الأشكال التي يكتب بها آخرون. التجريب ثورة على الذات : الذات القديمة، وتطوير الأساليب وتطويعها للتعبير عن الذات : الذات الجديدة . لكن هذا الفهم للتجريب يخصني وحدي، ولا أستطيع أن أفرضه على الآخرين. لذلك أتابع التجريبات الأخرى في القصة المغربية باهتمام، وأنصت لها وأستمتع بجميلها. لماذا نفرض على الآخرين تصوراتنا. دع مئة زهرة تتفتح، والباقي للأجمل . - تحضر الدارجة في القصة المغربية بشكل متعدد ومختلف التوظيف. في سرديتكم تبدو منسابة ولينة ؛ وقد ذهبت بعيدا في هذا الرهان، إلى حد كتابة قصة كاملة بنفس الاستعمال اللغوي. ماذا عن هذا الرهان؟ < في إطار المفهوم السابق للتجريب، كتبت قصة كاملة بالدارجة، ونشرتها تحت عنوان «مممؤثى«. كنت أحاول أن أستثمر إمكانات الدارجة وأستفيد منها. لكنها أقصد طبعا دارجتي أنا لم تفصح بوضوح عما أردت التعبير عنه، لقد كانت كالطفل الذي يتأتئ في قصة « مممؤثى». أحسست أن الدارجة تحتاج، ما تزال، إلى الفصحى لكي تنتج في قصتي، فعدت إلى قواعدي بخدوشي. أنا الآن أكتب باللغة التي كتبت بها دائما: ( فصحى تستبطن الدارجة، ودارجة تلبس الفصحى). - في مؤلفك الأخير «ققنس» راهنتم على الحلم، وهو ما خلق في تقديري انعطافة فيها من التأمل والاستغراق الرؤيوي الشيء الكثير. نريد تفصيل هذا الرهان، وكيف تحقق ذلك سرديا؟ < كنت مهموما، خلال كتابتي قصص « ققنس «، بمشاكل التلقي والتأويل، وإشكالات المعنى والرسالة والمعرفة في النصوص الأدبية. وحاولت التفكير في هذه الهموم بالكتابة. وكي أحسس القارىء بهمومي فكرت في وضع نص داخلي في القصة تقاربه القصة بتأويلات مختلفة تسخر من جهة بفكرة المعنى الأحادي وربما بفكرة المعنى نفسها، وتطرح من جهة أخرى إمكانية الاستمتاع بجماليات الكتابة الملونة المفتوحة على المعاني المتعددة، والكتابة البيضاء التي لاتقبل أي معنى . كيف تحقق ذلك سرديا ؟ لا أدري. أترك الإجابة للقراء . - ناديتم بفكرة عقد مؤتمرقصصي أو خلق إطار موحد، لخدمة هذا النوع الأدبي؛ قبل ظهور الكثير من الإطارات القصصية التي انقسمت على نفسها. فاستحال التجميع، كأن الإطار غاية في حد ذاته. هل لازالت فكرة المؤتمر الأدبي قائمة؟ < ناديت بهذه الفكرة في بداية التسعينيات. وقد فهمت الفكرة بأشكال مختلفة: فهمت كدعوة إلى مضايقة اتحاد كتاب المغرب، وفهمت كفرصة للبروز والترؤس والنجومية...لكن هدفي الحقيقي من هذه الدعوة كان هو إنشاء إطار يخدم القصة المغربية في غمرة انشغال أطر أخرى بأجناس أخرى. إطار يعمل بجهد، وفي صمت وتواضع، وبنفس طويل. حالت الحساسيات السياسية والأخلاقية حينها دون نشوء هذا الإطار الكبير. لكن الهدف نفسه أخذ يتحقق الآن مع انشاء « مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب «، ومع إنشاء أطر أخرى مثلها : صغيرة ودؤوبة، وتعمل دون أهداف أخرى غير خدمة القصة المغربية. وأعتقد أن الإطار الصغير، بعدد محدود من الأفراد ومن الأهداف، ومن الوسائل، يمكن أن يعمل بشكل أجدى وأنجع. ولذلك فلا أعتقد أن فكرة الإطار الكبير ما تزال قائمة. القائم الآن هو التنسيق بين هذه الأطر الصغيرة. وهذا التنسيق موجود، ويطرد ويقوى باستمرار.