بعد أخذ كل التلقيحات الضرورية لكل زائري دول جنوب الصحراء والمنطقة الاستوائية حيث تنتشر المستنقعات والمياه الراكدة نتيجة المناخ الاستوائي الذي تفوق تساقطاته 6000 ملم، وتتناسل مختلف أنواع الحشرات الناقلة للأمراض الفتاكة كإيبولا والحمى الصفراء والملاريا والتهاب سحايا الدماغ، أقلعت الطائرة في رحلة مباشرة لأبيدجان استمرت أربع ساعات دون توقف، وعندما كانت الطائرة تستعد للنزول والركاب يمسحون أعينهم للتخلص من آثار الرحلة وقلة النوم كانت العاصمة أبيدجان لا تزال غارقة في نوم عميق وتبدو من الأعلى على شكل بقع مضيئة وأخرى مظلمة، وكلما اقتربت الطائرة من المدرج كانت العاصمة التي تسمى تجاوزا باريس إفريقيا، على شكل دلتا حيث يتداخل الماء واليابسة وتنتشر بحيرات بمساحات مختلفة. أبيدجان تحت الحراسة عند باب كل فندق ينتشر رجال الحراسة الخاصة للسهر على أمن الزبناء، من الباب الرئيسي إلى ممراته الداخلية المؤدية للغرف المكيفة خوفا من اقتحام مفاجئ للصوص أو المومسات في غفلة عنهم، بدعوى طلب المساعدة أو ممارسة حصص التدليك الطبيعي، وتنتشر فيالق العسس الخصوصي أمام كل المرافق العمومية والممتلكات الخاصة مدججين بمسدسات، وكل ذلك من مخلفات الاضطرابات التي عرفتها البلاد حيث لا زالت آثارها بادية على الحياة بالمدينة. في النهار تكشف أبيدجان عن مفاتنها كما تكشف عن حجم الفوارق الاجتماعية، أحياء راقية تطل على شاطئ البحر والبحيرات يقطنها كبار العسكر وزعماء السياسة والميليشيات المسلحة والقبائل والوزراء، وأحياء بئيسة تتعايش معها في وئام. الوضع السياسي يمتزج فيه الترقب بالحذر، بسبب النزاعات الإثنية والثورات الجانبية التي تحركها في الغالب نعرات قبلية، أياما قبل إجراء انتخابات رئاسية جديدة، بضمانات أشرف عليها بان كيمون الأمين العام للأمم المتحدة، بين الفرقاء السياسيين لحظة إقامتنا بالعاصمة وأطلق عليها اسم ميثاق السيرة الحسنة. في وسط العاصمة تنتصب الفنادق الفخمة على ضفاف البحيرات، وفي الهامش تنتشر أحياء تفرخ الدعارة ومحترفي النشل والاستجداء، ومثل باقي العواصم الإفريقية مظاهر البؤس والغنى يجتمعان ويتقاطعان وتهان كرامة الإنسانية في أدنى تجلياتها. خبرة المدرب ديبيرو على ضفة إحدى البحيرات كان فريق أولمبيك خريبكة يحظر للقاء في ظروف مريحة، بتأطير مدربه البلجيكي دبييرو الذي تمرس على الحياة داخل الأدغال الإفريقية، وهو يتذكر بمرارة فترة إقامته بالكونغو حيث لم تسدد له بعد أجرة الشهور التي قضاها هناك، أو بالكاميرون كمؤطر يعود له الفضل في اكتشاف صامويل إيطو لاعب برشلونة، عندما كان يمارس ضمن الفئات الصغرى حيث لا زال ينتظر مستحقاته المتأخرة، وبحكم خبرته بعثر تركيز فريق الأسيك أو ما يطلق عليه فريق المساهمين عندما صرح للصحافة مستفزا لفينج أنه قدم لأبيدجان بخطة محكمة للعودة بنتيجة إيجابية وأنه يعرف كيف سيحقق ذلك. هذا التصريح الذي تناقلته مختلف وسائل الإعلام كان رسالة مباشرة لزميله مدرب الأسيك ليفينج، الذي أحكم كل المنافذ داخل مركز سول بيني الشهير حتى لا تتسرب ولو معلومة بسيطة عن فترة الإعداد،وهي نفس الصورة التي تكررت يوم اللقاء عندما وضع لفينج حارسا شخصيا ببنية مخيفة أمام باب مستودع الأسيك لمنع كل فضولي ينتمي لقبيلة الصحفيين المغاربة المرافقين للفريق المغربي من اجتياز عتبة الباب المحروس. لم تتسرب عن فريق الأسيك من أخبار سوى كون المسؤولين وعدوا اللاعبين بالحصول على مبلغ مليون فرنك كمنحة في حالة تأهلهم لدوري المجموعات، في حين كان ديبيرو يهيئ بهدوء وعلى مراحل لاعبيه الشبان الذين فضل اعتمادهم في اللقاء لتعويض اللاعبين الغائبين لتجاوز الضغط النفسي، وبقدر ما كان لغياب العناصر الأساسية وقع إيجابي على البدلاء الذين وجدوها فرصة ذهبية لإثبات مكانتهم وتركيزهم على اللقاء، كان لحالة الجو أثر سلبي حيث الحرارة تناهز 38 درجة ونسبة رطوبة تصل لنسبة 98 في المائة مع سقوط أمطار قوية كل ظهيرة لأكثر من ثلاث ساعات. كذب المنجمون قبل بداية اللقاء ظهرت طقوس غريبة بالمدرجات، سحرة ومشعوذون متعصبون للأسيك كلهم يدعون انتماءهم لفريق المساهمين وتوعد بسحق الأولمبيك بأكبر عدد من الأهداف، وعلى جانبهم جماعة من الفتيات والنساء يترنحن بحركات بهلوانية نصف عاريات يرددن أهازيج مصحوبة بإيقاعات إفريقية وإيحاءات جنسية، وبيدهن آلات غريبة الأشكال تصدر عنها أصوات قوية، بينما تجمع في الجزء العلوي من المنصة المغطاة أفراد الجالية المغربية المقيمة بأبيدجان يشجعون فريق أولمبيك خريبكة بشعارات مألوفة لدينا في الملاعب الوطنية، وكان تأثير حضور الجالية المغربية واضحا ومؤثرا على معنويات الوفد المغربي سواء داخل الميدان أو خارجه، من خلال الزيارات وتبادل النقاش حول ظروف إقامتهم وكيف حولتهم الصراعات السياسية والإثنية لمجرد تجار عاديين، بعدما كانوا يشكلون قوة تجارية ويلقنون اللبنانيين أسرار المهنة إلى أن تحولوا إلى أقلية لا يتعدى عدد أفرادها مائة وعشرين فردا مقارنة باللبنانيين الذين يناهز عددهم الألفين بأبيدجان، لكن كم فئة قليلة غلبت فئة كبيرة. لم ينفع سحر الأسيك ومتعصبوها طيلة المباراة في التأثير على معنويات اللاعبين، ولم يؤثر عامل الطقس على أداء اللاعبين رغم الحرارة والرطوبة، ولم تنفع الطبول التي كانت تدوي بقوة في المدرجات شبه الفارغة في انهيار الفريق، كما عملت الصحافة المحلية على شحن الجمهور بمانشيطات محفزة، ولم يتمالك جمهور الأسيك أعصابه عندما أوقف وسائل تشجيعه، وصب جام غضبه على المدرب ناعتا إياه بأنه دون سمعة وقيمة الأسيك، ومنهم من تمالك أعصابه متمنيا أن يعود الأسيك بالتأهيل من خريبكة مثلما فعل مع أندية أخرى آخرها كالوم الغيني. وقبل مغادرة الوفد المغربي لفندق الإقامة توافد عدد مهم من اللاعبين المحليين بسيرهم الذاتية أملا في الانضمام لفريق الفوسفاط، لكن المسؤولين فضلوا الإجابة عن ذلك في وقت لاحق. ليل أبيدجان ليل مدينة أبيدجان بهيم، شوارعها خالية تماما من المارة خاصة بعد منتصف الليل خوفا من السرقة والقتل والاغتصاب، وبأهم محاورها تنتشر دوريات الجيش ناصبة العجلات المطاطية كحواجز لإجبار السائقين على التوقف، جنود تبدو عليهم علامات الإرهاق، مدججين بالذخيرة الحية والمطاطية، بعد التأكد من هويات عابري الطريق، يتحولون إلى «شحاتين» يستجدون بعض الفرنكات المتبقية من مرتادي المراقص والعلب الليلية المنتشرة كالفطر في أهم أحياء المدينة، يعامل رجال الدوريات سائقي سيارات الأجرة بفظاظة، لكونهم يؤمنون عودة آمنة لمومسات علب الليل المصحوبات بضحاياهن إلى أوكار الدعارة بالفنادق المصنفة وغير المصنفة، التي تقوم بتأجير غرفها المكيفة بالتقسيط.