رائحة الموت تتسلل نفاذة عبر الأنف، داخل مركز الطب الشرعي بالدار البيضاء، وضعت جثث ضحايا محرقة الحي الصناعي «ليساسفة» مسجاة داخل توابيت خشبية. في الخارج، أقارب ينتظرون بالقرب من سيارات نقل أموات المسلمين وسيارات إسعاف. يحرس مدخل المشرحة رجال درك شباب. إخراج جثة جديدة يستدعي الإدلاء بتصريح الدفن للحصول على ورقة التسليم. «فقدت ابن أخي، اسمه عادل احبابة، متزوج وأب لطفلين، وقد ظل يقطن في «سباتة» بمقاطعة ابن امسيك، لقد مزقت النيران بطنه وأجحظت عينيه وشوهت جثته بشكل مريع..لا حول ولا قوة إلا بالله». بصوت متهدج تحدث لنا «البهجة»، أحد سكان منطقة عين السبع بالدارالبيضاء، عن فقدان ابن أخيه في حريق «ليساسفة»، مبديا حسرة لا تخلو من لوعة حول المستقبل الغامض الذي ينتظر طفلي الهالك، زكرياء ذي الست سنوات وآدم الصغير. زاد «البهجة» متحدثا عن ابن أخيه عادل: «زارني في منزلي الأحد الماضي، كان شابا متدينا ومقبلا على الحياة، ظل يعمل في الشركة المحترقة منذ حوالي ثلاث سنوات، عندما دخلت للتعرف على جثثه أصبت بالذهول، لقد ذابت رجلاه وفجرت النيران بطنه وشوهت وجهه. تأكدنا من كون الجثة تخصه لأن حافظة نقوده لم تحترق، وكانت بداخلها بطاقة تعريفه الوطنية. أطلب محاكمة المجرم الذي أغلق الأبواب على عمال شوتهم النيران، وحسبنا الله ونعم الوكيل». تحولت الساحة الخارجية لمركز الطب الشرعي في الدارالبيضاء زوال الأحد الماضي إلى مأتم يوحده جو جنائزي، حيث العائلات تبكي أقاربها الموتى ونعيق سيارات الإسعاف يرتفع بمجرد أن تشحن جثة جديدة تم التعرف على هوية صاحبها، منظر النعوش الخشبية المغادرة لباب المشرحة يحرك مشاعر متضاربة ويفرض صمته الجنائزي الحزين. فريدة بوشتة، رئيسة مركز الطب الشرعي بالدارالبيضاء، أكدت ل«المساء» أنه تم التعرف على هويات 28 ضحية إلى حدود الرابعة من عصر الأحد الماضي، مشيرة إلى أن عائلات الضحايا تعرفت على أبنائها إما باللباس أو البنية أو عوامل وراثية ظاهرة كوجود وشم أو «خالة» في مكان معين في جسم الضحية تميزه. بدت هذه الطبيبة، التي تشتغل في أكبر مركز للطب الشرعي في المغرب، أكثر لباقة وهي تطوف بين أروقة المركز لتقدم التعازي إلى عائلات الضحايا وتطلع على بعض الأوراق الإدارية وتدعو موظفي المركز إلى إبداء المزيد من المرونة في التعامل مع الناس. من بين الجثث التي تم التعرف على هويات أصحابها توجد حنان دومير وشقيقتها غزلان دومير وابنة أختهما إيمان الذهبي. رغم أن الموت وحدهن فإن تسليم إجراءات دفنهن لاقى بعض العراقيل. يشرح قريب من الأسرة المكلومة الأمر قائلا: «هل من العدل أن يطلب منا المسؤولون تسلم جثة اليوم والعودة إلى المشرحة على الساعة الثامنة من صباح يوم غد لتسلم الجثتين الأخريين. هذا لحماق هذا، والله منتحرك من هنا حتى ياخذو ليا حقي ولا يقتلوني معاهم». يصرخ هذا القريب، يرغي ويزبد وتتدخل رئيسة مركز الطب الشرعي لجبر خاطره ووعده بتسليم جثامين الأختين حنان وغزلان دومير وابنة أختهما الهالكة إيمان الذهبي البالغة من العمر 19 سنة. مصدر طبي وصف الوضع الذي وجدت عليه جثث الضحايا بكلمة واحدة.. «المصيبة»، قالها وشرد بنظره بعيدا قبل أن يستعيد أنفاسه، ليضيف: «لقد صهرت بعض الأجساد وننتظر تحاليل الحمض النووي لنتعرف على ما تبقى من الجثث. وجدنا فتيات بدون رؤوس وشبابا متكومين على أنفسهم، أصابع بعضهم التصقت ببعضها البعض، وأجساد آخرين صارت لزجة وشوهت بالكامل»، يؤكد العامل بمصلحة الطب الشرعي متحدثا عن حالة الجثث المتفحمة في حريق المنطقة الصناعية ليساسفة الذي أودى السبت الماضي بحياة 56 شخصا وتسبب في جرح 17 آخرين. لتسهيل إجراءات التعرف على جثامين الضحايا والحصول على رخص الدفن، فتحت السلطات مكاتب للشرطة القضائية والعلمية والدرك الملكي والنيابة العامة في خطوة لافتة لتقريب الإدارة من المواطنين وتجنيبهم عناء التنقل بين المصالح الإدارية قبل الحصول على رخص الدفن. هكذا، حصلت بعض العائلات على جثامين أقاربها في «وقت قياسي»، بمجرد تعرف عائلة على جثة لقريب لها، يتم الاستماع إلى بعض الأفراد في محضر رسمي من طرف الشرطة القضائية ويحصلون على إذن بالدفن من مكتب الوكيل العام الملك المتواجد بمركز الطب الشرعي وتمنح لهم ورقة عليها رقم يسلمونه إلى عامل مكلف بمراقبة التوابيت، فيحصلون على تابوت يحمل نفس الرقم الذي يسلم لهم في الداخل ويغادرون المنشأة الصحية متعقبين سيارات إسعاف يطلق سائقوها العنان لأبواقها وهي تغادر البوابة الرئيسية الزرقاء لمركز الطب الشرعي. باستثناء سيارة واحدة لنقل الأموات تابعة لمقاطعة «سباتة» بالدارالبيضاء، المقاطعة التي يرأس مجلسها كريم غلاب، وزير النقل والتجهيز، فإن سيارات نقل الأموات التابعة لمقاطعات الدارالبيضاء اختفت من داخل مركز الطب الشرعي في الدارالبيضاء، فيما تكفلت سيارات الإسعاف التابعة للقطاع الخاص بنقل جثامين الضحايا إلى مدن مراكش وبجعد وآسفيووجدة. وحسب محمد النوني، العامل في شركة «إسعاف إيمان»، فإن سائقي سيارات نقل الأموات التابعة لمقاطعات مدينة الدارالبيضاء بمجرد أن سمعوا بوجود جثامين ستنقل إلى مدن أخرى غادروا مركز الطب الشرعي بدعوى عدم وجود وقود في خزانات سياراتهم واستحالة حصولهم على «أمر بمهمة» من مصالح المقاطعات لأن اليوم صادف يوم الأحد. وأشار النوني إلى أن الخواص وضعوا رهن إشارة عائلات الضحايا الراغبة في نقل جثامين أقاربها إلى مدن أخرى أسطولا يتكون من 30 سيارة إسعاف وبالمجان، مشيرا إلى أنه سيقل أسرة إلى ضواحي مدينة سطات تعتزم دفن قريب فقدته في الحريق بمسقط رأسه. داخل البهو الخلفي لقاعة التشريح علقت لافتة صغيرة تطلب فيها إدارة مركز الطب الشرعي من أفراد الأسر الراغبين في الحصول على جثامين أقاربهم إحضار الأكفان. مصدر طبي قال إن الإعلان المعلق لا يشمل جثامين ضحايا حريق المنطقة الصناعية»ليساسفة». ونحن نتجول بين أروقة مركز الطب الشرعي بالقرب من توابيت خشبية مفتوحة، شاهدنا جثثا ملفوفة في قطع قماش أبيض، فوقها وضعت لوحات بلاستيكية صفراء تحمل أرقاما خطت بلون أسود. وضعت الجثث بشكل غير مرتب، فيمينا وضعت الجثة رقم 43 وبجانبها وضعت جثة أخرى تحمل الرقم 2، بعدهما كان هناك تابوت يحمل الرقم 52، كان عامل بالمشرحة يدق مسامير نحاسية في جزئه العلوي بعد أن حشرت فيه للتو جثة لضحية تم التعرف على هوية صاحبها من طرف عائلته. تفوح من الداخل رائحة دم متخثر، تتسلل نفاذة إلى الأنف والحلق، يتدخل دركي لتهدئة شاب هائج ظل يوجه سبابا بذيئا إلى أحد الممرضين بعد أن منعه من الاقتراب من أحد التوابيت وطالبه بالإدلاء بتصريح الدفن قبل لمس أي تابوت. رائحة الدم المتخثر تشعر الواقف قرب الجثث المتكومة على نفسها بالرغبة في التقيؤ. تدخين سيجارة في الخارج كان كافيا لطرد بعض الرائحة الكريهة، لكن منظر التوابيت وهي تخرج تباعا يصاحبها نواح الأقارب يحرك في دواخل المرء مشاعر متناقضة حول الحياة والموت والخيط الرفيع الفاصل ما بينهما. إلى حدود الساعة الرابعة من مساء الأحد، حملت 14 جثة تعود إلى عمال كانوا يقطنون في الدارالبيضاء على متن سيارات لنقل أموات المسلمين باتجاه مقبرة «الرحمة» القريبة من مركز الطب الشرعي، وشيعت جثامينهم بعد صلاة العصر. ظل مركز الطب الشرعي إلى حدود السادسة مساء محجا لعائلات مكلومة لا يتعب أفرادها من السؤال عن مصير الجثث التي لم يتم التعرف على هويات أصحابها بعد، أما من أعياه التعب فقد جلس فوق عشب الساحة الرئيسية ينتظر المناداة عليه من طرف خلية الأزمة التي شكلتها السلطات لتسهيل إجراءات تسليم الجثامين وتصاريح الدفن. لائحة بأسماء الضحايا الذين تم التعرف على هوياتهم وحصلت أسرهم على تصاريح بدفنهم 1- حكيم لغضيف – 25 سنة- عازب 2- رشيد تناني- 28 سنة- متزوج له ابن عمره سنتين 3- فتيحة دحماني 4- سعيدة الكرش – 23 سنة- عازبة 5- أحمد نواري - 28 سنة- عازب 6- يوسف شبار 7- أمينة واهبي- 40 سنة- أرملة- لها بنت- الدارالبيضاء 8- ثريا الدوحي 9- محمد سيومي – 28 سنة- متزوج- أب لطفلين - آسفي 10- عادل لجباب – 34 سنة- متزوج- له طفلان 11- حفيظة شملال – 41 سنة- متزوجة- بجعد 12- حنان دومير- 23 سنة 13- غزلان دومير – 19 سنة 14- يوسف التغزاوي 15- ربيعة العربي 16- إيمان الذهبي- 19 سنة 17- محمد بوعدلي 18- عبد اللطيف هواري – 29 سنة- متزوج- له ثلاثة أبناء 19- خديجة بلغالي- 55 سنة- متزوجة- ابن واحد- البيضاء 20- زينب بودقة – 21- مولاي أحمد صادقي -33 سنة- عازب- زاكورة 22- عبد العزيز ضريف - 19 سنة 23- محمد عطراني- 39 سنة- متزوج- له ولد- الدارالبيضاء 24- إبراهيم حليوة 25- كمال حافة – 36 سنة- متزوج- له ابن 5 أشهر- البيضاء 26- السعدية المالكي – 26 سنة- عازبة- ولاد البوزيري 27- نورا عماد الدين – 20 سنة- عازبة 28- بديعة كفصاوي