شاركت مع آخرين في لقاء ثقافي وروحاني مثير في العاصمة الإيطالية، على مرمى حجر من الفاتيكان، نظمه عدد من أشهر الجامعات الكاثوليكية في العالم، وعلى رأسها جامعات نوتردام، وليولا، وجورجتاون، والكلية الإكليريكية بالفاتيكان نفسه. وقد اختار المنظمون لهذا اللقاء عنواناً لا يخلو من الإثارة والاستفزاز، وهو «الصليب والهلال وصندوق الانتخابات». وحرص المنظمون على دعوة عدد متساو من المسيحيين والمسلمين، من إندونيسيا إلى موريتانيا، ومن الفلبين إلى الأرجنتين. وبدأ اللقاء بصلوات إسلامية ومسيحية، وقراءات من الإنجيل والقرآن، وانتهى على نفس الشاكلة. وكان مطلوباً مني أن أعد ورقة عن «الإسلام والديمقراطية». وكانت إحدى ملاحظاتي المبكرة، هي عدم وجود ورقة موازية عن «المسيحية والديمقراطية» ضمن أوراق اللقاء، وتساءلت عن السبب، فواجهتني علامات تعجب، توحي بأنه لا توجد إشكالية بين المسيحية والديمقراطية، كما هو الحال بالنسبة للإسلام. لذلك انصرف الجزء الأول من ورقتي لتصحيح المفاهيم والقراءات للعلاقة بين الأديان والسياسة عموماً، قبل الحديث عن الموقف من نظام معين للحكم، وهو «الديمقراطية». 1 فبداية، ليس لأي دين موقف محدد من أي نظام سياسي. هذا إذا احتكمنا للنصوص المقدسة، للتوراة والإنجيل والقرآن. فلا يوجد في أي منها ذكر لمصطلحات أو كلمات مثل «الديمقراطية» أو «الدكتاتورية»، أو «الفاشية» أو «الاشتراكية» أو الشيوعية». فهذه جميعاً مصطلحات لمفاهيم مستحدثة، وتالية لظهور معظم الديانات السماوية والأرضية على السواء. كما لا يوجد في أي من الكتب المقدسة فصل أو باب خاص حول «أنظمة الحكم». لذلك لا يجوز منطقياً أن نقول إن هناك موقفاً للإسلام أو المسيحية أو اليهودية تجاه أي نظام من أنظمة الحكم. ولكن هذا لم يمنع البعض في الماضي والحاضر، وربما في المستقبل، من الحديث بهذا الشكل المغلوط. 2 فإذا كان ذلك كذلك، فما هو المقبول منطقياً وعلمياً؟ في رأينا، وكما قلنا كتابة في ورقتنا للمؤتمر، الحديث عن معتقدات وممارسات بشر، وجماعات، وشعوب يدين أصحابها بهذا الدين أو ذاك. فهناك مسيحيون اعتقدوا، ومارسوا كل أشكال السياسة وأنظمة الحكم التي عرفتها بقية البشرية جمعاء، من العبودية إلى الإقطاع، ومن الفاشية إلى الديمقراطية للفوضوية. وما ينطبق على المسيحيين، ينطبق على غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، مثل الإسلام واليهودية والبوذية والهندوكية. إن الحديث عن معتقدات وممارسات أو سلوكيات بشر في مكان معين وزمان معين، يعصمنا من «الكبائر». فليس هناك مسلم أو مسيحي أو يهودي أو بوذي، يولد ديمقراطياً أو ديكتاتورياً، دعك عما يردده البعض عن «دين الفطرة»، من باب الحماسة أو التحيز إلى هذا الدين أو ذاك. وكما لا يولد البشر ديمقراطيين أو فاشيين، فكذلك فهم لا يولدون مسلمين أو مسيحيين، ولكنهم يكتسبون أديانهم ومعتقداتهم من ذويهم، الذين يلقنونهم اللغة، ويعلمونهم دينهم وبقية عناصر ثقافتهم، التي تضفي على كل منهم «هويته»... فهذا مصري، عربي، مسلم.. وذاك مصري، عربي، مسيحي.. وهذا إيطالي، أوروبي، مسيحي، كاثوليكي.. وذاك إنجليزي، أوروبي، مسيحي، بروتستانتي.. وذاك يوناني، أوروبي، مسيحي، أرثوذوكسي... وهكذا فلا أحد يولد، وهو يدرك أو يعي تلقائياً من هو، لغة أو ثقافة، ديناً أو مذهباً، جنسية أو أيديولوجية. ولكنه يتعلم كل هذه، سواء بالتلقين المباشر أو المحاكاة والتقليد، لمن هم من حوله من صغار وكبار. 3 إن هذا الاقتراب السوسيولوجي من قضايا الدين والسياسة، يسمح بالرصد والتوثيق والتحليل الأكثر واقعية وموضوعية لقضية المؤتمر، وهي «الصليب، والهلال، وصندوق الانتخابات». ولا يخفى على فطنة القارئ أن الصليب يرمز إلى المسيحية، والهلال يرمز إلى الإسلام، وصندوق التصويت يرمز إلى الديمقراطية. وحتى لا أكون «اعتذارياً» في الدفاع عن الإسلام، أو «عدائياً» في التعرض للمسيحية، فإنني لجأت إلى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والتي يرأسها بابا الفاتيكان، الذي كان يراقب أعمال المؤتمر عن بعد، فاقتبست مما أصدره اثنان من الباباوات من فتاوى: أولهما، هو البابا جريجوري السادس عشر، يوم 17 مايو عام 1835، حيث أفتى بأن «الله خالق هذا الكون، وكل ما فيه، هو الذي شاء لبعض البشر أن يحفظوا نظامه وأن يقودوا، ولآخرين أن يطيعوا، وأن يتبعوا...»، وكانت هذه الفتوى هي الرد المباشر للكنيسة على الثورة الفرنسية، وعلى شعاراتها حول «الحرية، والإخاء، والمساواة». فالفاتيكان رفض هذه الشعارات جملة وتفصيلاً، في ذلك الوقت، أي قبل مائتين وتسعة عشر عاماً (قامت الثورة عام 1789). ثم أكد ذلك البابا جريجوري السادس عشر صراحة، وفي فتوى مكتوبة، قبل مائة وسبعين عاماً. 4 وإحقاقاً للحق، لا بد من استعراض السياق الذي صدرت فيه فتوى الفاتيكان الأولى ضد المساواة والحرية، وهما معاً يعنيان الديمقراطية. فحينما انفجرت الثورة الفرنسية كانت ضد الملكية والإقطاع والكنيسة، لأن هذا الثلاثي كان هو عنوان النظام القديم (Regime Ancient)، التي هبت الثورة لتقويضه. وقضت بالفعل على ركنين من أركانه الثلاثة، وهما النظام الملكي والنظام الإقطاعي. وظلت الكنيسة قائمة، وقوية، وخاصة خارج فرنسا. فلم يستطع «الثوار»، إلا أن يشنوا عليها وعلى رجالها حملة كراهية مستمرة، وأن يلغوا أي تأثير لها في مناهج التعليم، وكذلك الأعياد والمناسبات الدينية. وكان الفريق الذي يقود هذه الحملة على الكنيسة ورجالها هم «يعاقبة» الثورة الفرنسية، وهم الذين ابتدعوا أو روجوا لما يسمى «بالعلمانية»، على الطريقة الفرنسية، أي المعادية للدين والكنيسة، وفصلهما تماماً عن الدولة وشؤونها. وردت الكنسية الكاثوليكية دفاعاً عن نفسها، بالحط، إن لم يكن بتحقير شعارات الثورة الفرنسية، ومنها الحرية والديمقراطية. 5 ولكن خلال المائة وخمسين سنة التالية للثورة الفرنسية، جرت مياه كثيرة في أنهار أوروبا والبشرية، وتحت جسورهما. ومنها ما هو أكثر بشاعة وهولاً من الثورة الفرنسية. فقد جاءت ثورة أخرى هي البلشفية الشيوعية (1917)، لا فقط لتعادي الكنيسة، ولكن لتعادي الأديان جميعاً، وتحاول اقتلاعها وإبادتها. فإذا كان «يعاقبة» الثورة الفرنسية قد هاجموا الكنيسة بسبب تحالفاتها السابقة مع «العرش»، فإن «بلاشفة» الثورة الروسية قد هاجموا الدين عموماً، لأنه «أفيون»، روّج له الحكّام والإقطاعيون والرأسماليون، «لتخدير الشعوب». ثم جاءت «النازية الألمانية» و»الفاشية الإيطالية» و»العسكرية اليابانية»، لتدفع بالبشرية جمعاء في أتون حرب عالمية لم تشهد لها من قبل مثيلاً. وراجع الفاتيكان نفسه، واستخلص العبر من مسيرة المائة وخمسين عاماً السابقة. وفي يوم عيد الميلاد (25 ديسمبر) عام 1944، أفتى بابا الفاتيكان «ببوس الثاني عشر»، بفتوى مضادة تماماً لما كان قد أفتى به البابا جريجوري السادس عشر. ففي خطابه في ذلك اليوم، تحت عنوان «الديمقراطية والسلام الدائم»، قال: «تحت أهوال الحروب الكريهة، ونيرانها اللاظية، استيقظ الناس بعد طول غيبوبة في مواجهة الدولة ليسألوا، ويشكوا، ويعارضوا بجرأة تركيز السلطة في دكتاتوريات لا يراقبها ولا يحاسبها أحد. إن من حق الناس أن يطالبوا بحكومات تحترم كرامتهم كمواطنين. وليس هذا ضد تعليمات الكنيسة، كما أنه ليس ضد هذه التعليمات الدعوة إلى أنظمة حكم شعبية، ما دامت لا تعادي الكنيسة أو تتعصب ضدها... والديمقراطية بأوسع أشكالها تسمح بأنظمة حكم ملكية وأنظمة حكم جمهورية على السواء. والديمقراطية هي التي تضمن سلاماً دائماً، رغم كل عيوبها ومشكلاتها...». 6 إن هذا التعبير في موقف الكنيسة الكاثوليكية من النقيض إلى النقيض له معنى واحد، هو أن السياق التاريخي والمجتمعي هو الذي يُملي على أتباع دين مواقفهم من أنظمة الحكم. وإذا كان هو شأن قيادات الكنيسة الكاثوليكية، فلماذا نستغرب أن يحدث نفس الشيء للمسلمين وقياداتهم. 7 وحتى لا نطلق الأحكام على عواهنها، استعرضنا حالة الديمقراطية بين المسلمين في الوقت الراهن. وأهمها أن ثلثي المسلمين في عالم اليوم يعيشون في ظل أنظمة حكم ديمقراطية، في إندونيسيا، وبنغلاديش، وماليزيا، والهند، وتركيا، ونيجريا والسنغال، ومالي، وموريتانيا، والكويت، والبحرين، وفي ظل أنظمة حكم شبه ديمقراطية في لبنان والأردن وقطر والإمارات، وأن الثلث المتبقي، والذي لا يتمتع بعد بأنظمة حكم ديمقراطية، فهو في مصر والسعودية وسوريا وليبيا والسودان... أي أنه يتركز بين «عرب مسلمين». فالمشكلة هي أساساً في عروبتهم وليس في إسلامهم، أي أن بعض العرب، أو بالأحرى بعض حكامهم، هم الذين ألصقوا بالإسلام والمسلمين تهمة «العداء للديمقراطية». فندعو الله، جل جلاله، وشعوب الأمة العربية، أن يخسفُ بالمستبدين من حكّامنا، جراء ما اقترفوه في حق الإسلام والعروبة. آمين.