أظهرت المواقف المتذبذبة للبابا بنيديكتوس السادس عشر تجاه اليهود وتجاه أطروحتهم أن الفاتيكان تعيش أزمة حقيقية جعلت إسرائيل وحاخاماتها يؤثرون عليها للاعتراف بشكل واضح بالمحرقة وبالمواقف السياسية للدولة العبرية. هذه الأزمة بدت واضحة حين أصبح مجدي كريستيان علام، المرتد عن الإسلام، يستغل المسيحية ليمثل نفسه مدافعا عن قيمها بإيطاليا ويؤسس حزبا سياسيا بهوية صليبية لمهاجمة الإسلام والمسلمين، وليطالب بالتضييق عليهم ومنعهم حتى من حريتهم في التعبير. هذا الأمر بدا واضحا حين طرحت «المساء» على مجدي كريستيان أسئلة محرجة في لقاء له بمدينة نوفارا، لتتوصل منه برد غير واضح وبآخر من رجال الأمن الإيطاليين الذين استوقفوا مراسلها للتحقق من هويته وكأنهم يريدون أن يقولوا له: «يمنع منعا كليا مضايقة كل من يتهجم على الإسلام ولو بطرح الأسئلة». رجال دين ينفون المحرقة احتجت الجالية اليهودية بإيطاليا ومعها عدد من الحاخامات على قيام الفاتيكان بإصدار مذكرة عفو في حق الأسقف الإنجليزي ريتشارد ويلسون الذي ينفي المحرقة عن اليهود ويؤكد أن ما تعرضوا إليه قبيل الحرب العالمية الثانية يبقى تلفيقا وكذبا على التاريخ. واعتبرت الجالية اليهودية بإيطاليا، على لسان ممثلها رينزو غاتينغا، أن العفو عن الأسقف، الذي كان هو وثلاثة آخرون من المتمردين عن الفاتيكان، يعتبر إهانة لليهود في العالم واعترافا ضمنيا للجمهورية الكاثوليكية بمواقف الأسقف ريتشارد ويلسون النافية للمحرقة. وطالب يهود إيطاليا البابا بنيدكتوس السادس عشر، إضافة إلى ذلك بموقف صريح من المحرقة مع إصدار بيان رسمي يؤكد وجودها ويتبرأ من كل المواقف التي تنفيها وتعارضها في إشارة إلى الأسقف ريتشارد. وكانت الفاتيكان قد أعلنت قبل أيام عن عفوها عن أربعة أساقفة، من بينهم ريتشارد ويلسون، كانوا قد أبعدوا عن الكنيسة الكاثوليكية منذ 1988 لتمردهم عليها ومعارضتهم لها في عدد من الأمور الدينية والتاريخية المتعلقة بالمذهب الكاثوليكي. ودون أن تنتهي زوبعة عفو الكنيسة الكاثوليكية عن ريتشارد ويلسون دخل رجل دين إيطالي آخر، يدعى دون فلوريانو أبراهام ويتشز الفاتيكان، في خلافات جديدة مع يهود إيطاليا وإسرائيل لتشكيكه بدوره في محرقة اليهود. وقال في تصريح لوسائل الإعلام الإيطالية إنه لا يعتقد بوجود شيء في التاريخ اسمه الغرف الغازية السامة التي أنشأها الألمان النازيون لإعدام اليهود، مؤكدا غياب الدلائل التاريخية عن وجودها، وقال: «شيء وحيد مؤكد هو أن هذه الغرف الغازية أنشئت من أجل تعقيم المرضى وإزالة الجراثيم من على أجسادهم». وأضاف أن شكوكه في وجود المحرقة مرتبط بغياب أرقام حقيقية وواضحة عن القتلى اليهود، مشيرا إلى أن كل ما يقال عن الأعداد الهائلة لليهود الذين راحوا ضحايا للنظام النازي تبقى أرقاما من صناعة اليهود أنفسهم لكسب تعاطف الرأي العام العالمي معهم. وقال: «كل الأرقام المتعلقة بعدد القتلى اليهود التي أدلي بها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية كان مصدرها قادة وممثلو الجاليات اليهودية بأوربا الذين أعتقد أنهم ضخموا فيها لأهداف دعائية وسياسية». وردا على ما صدر من تصريحات دون فلوريانو، طالب يهود إيطاليا وأوربا وإسرائيل الفاتيكان بتدخل عاجل لمعاقبة وتوقيف كل من يشكك أو ينفي المحرقة، معتبرين أن تصريحات رجل الدين الإيطالي إهانة لليهود وتشويها لصورتهم. الفاتيكان في أزمة يبدو أن تربع البابا بنيديكتوس السادس عشر على عرش الفاتيكان جعلها تعيش أزمة حقيقية حتى خارج أسوارها. فبعد أزمة الرسالة التي ألقاها البابا بجامعة رتيسبونا الألمانية والتي هيجت العالم الإسلامي وجعلت الفاتيكان تظهر مواقفها الحقيقية من الإسلام ليدخل مجلس كاردينالاتها في خلافات بين تيارين متنافرين داخله، يأتي الدور هذه المرة على العبريين ليدخل معهم رايتسينغر (البابا) في أزمات متتالية كانت أولاها، خلافه الحاد مع مجلس الحاخامات الإيطاليين بسبب تغيير الفاتيكان لصلاة المصالحة بين المسيحيين واليهود التي تقام كل يوم جمعة بحيث تسبق عيد الفصح ليعيدها إلى ما كانت عليه في السابق بإزالة التغييرات والتي طرأت عليها التي اعتبرها دخيلة على المذهب الكاثوليكي. وكانت الصلاة القديمة قبل إصدار أوامر البابا بإعادتها إلى أصلها تدعو لصالح اليهود وتفصل بينهم وبين من قتلوا المسيح، حسب رواية المسيحيين. الأزمة الثانية كانت في الأسبوع الماضي حين قرر البابا العفو عن الأسقف الإنجليزي ريتشارد الذي ينفي المحرقة عن اليهود وحين رفض معاقبة الأب الإيطالي دون فلوريانو أبراهام ويتشز الذي شكك هو الآخر في المحرقة، ليعتبرها تلفيقا وكذبا على التاريخ. لكن البابا نفسه ومخافة غضب وبطش اللوبي الصهيوني بإيطاليا وبالعالم، قرر إدخال الفاتيكان مرة أخرى في تناقض حاد في المواقف ليأمر ناطقه الرسمي فيديريكو لومباردي بإصدار بيان يؤكد فيه أن كل من ينفي المحرقة عن اليهود لا يمكنه أن يعرف الطريق إلى لله ولا يمكنه بالتالي أن يعرف قيمة الصليب وقدسيته. هذا التذبذب والتباين في المواقف للفاتيكان اعتبره عدد من رجال الدين الكاثوليكيين، تأثيرا واضحا للوبي اليهودي على قراراتها، في حين أن آخرين اعتبروا أن أسبابه تعود إلى أزمة حقيقية تعيشها الجمهورية الكاثوليكية بعد رحيل عهد زاهر صنعه البابا «وايتيلا» (بول يوحنا الثاني) وقدوم عهد كله خلافات وسحب سوداء مع «رايتسينغر» (بينيدكتوس السادس عشر). المدافع عن المسيحية الأزمة التي تعيشها الفاتيكان مكنت عددا من المتملقين والوصوليين من استغلال المذهب الكاثوليكي وإيديولوجيته لتحقيق أهداف خاصة تتراوح بين المادي والسلطوي والسياسي. من أمثال هؤلاء نذكر الصحفي والكاتب مصري الأصل مجدي علام الذي تمكن من تحقيق شهرة له بإيطاليا على حساب مهاجمته لكل ما هو إسلامي رغم أنه كبر وترعرع بالقاهرة المعروفة بتسامحها الديني وبتعايش المسلمين والمسيحيين فيها جنبا إلى جنب. فبعد تعميده قبل سنة تقريبا في قداس مهيب بالفاتيكان ترأسه البابا بنيدكتوس السادس عشر، تخلى اليوم عن منصبه كنائب مدير جريدة «إلكورييري ديلا سيرا» ليدخل عالم السياسة بتأسيسه حزبا بهوية مسيحية، قال عنه مجدي كريستيان علام، كما أصبح يلقب نفسه، إن الهدف من وجوده هو الدفاع عن القيم والهوية المسيحية بإيطاليا وأوربا المهددة، حسب رأيه، من طرف الإسلام والمسلمين. فهو من أجل التعريف بهذا الحزب الجديد وجمع التوقيعات الضرورية التي تسمح له بالمشاركة السياسية إيطاليا وأوربيا، قرر القيام بجولة واسعة بإيطاليا بدأها بعدد من مدن الشمال. الهجوم على الإسلام لم يمنع برد مدينة نوفارا القارس البعض القليل من سكانها من الحضور يوم الأربعاء الماضي إلى اللقاء الذي نظم بأحد فنادق المدينة للتعريف بحزب مجدي كريستيان علام الجديد. كانت القاعة التي احتضنت اللقاء ممتلئة عن آخرها، ليس بسبب حضور جمهور غفير بل بسبب صغرها وعدم قدرتها على استيعاب الراغبين في مشاهدة شخصية صنعت اسمها بالعزف على الوتر الذي يحب الإيطاليون سماعه. كان الفندق ملغما برجال الأمن السريين (ديغوس) التابعين لوزارة الداخلية وبآخرين تابعين لجهاز الكارابينيري المنتمي إلى وزارة الدفاع، إضافة إلى خمسة من الحراس الشخصيين لمجدي كريستيان علام. قبل دخول هذا الأخير كنت الوجه الملون الوحيد بالقاعة، مما جعل عيون رجال الأمن ترمقني بحيطة وحذر ونظرات الجمهور تطاردني بفضول وترقب كبيرين. دخل كريستيان علام تحت حراسة أمنية مشددة وتحت تصفيق الحضور ليشرع بعد أن قدمه برلمانيون يمنيون إلى الجمهور، في الحديث عن تجربته مع المسيحية وبضرورة حماية قيمها وهويتها بإيطاليا وأوربا مما أسماه بخطر الإسلام والمسلمين. وقال أن الإسلام ومعتنقيه لا يعرفون شيئا اسمه الاعتدال والحرية مستدلا بعدد من الدول الإسلامية وبمسلمي إيطاليا وأوربا الذين اعتبر وجودهم يهدد الحضارة الغربية وحريتها. وأضاف أن الإسلام إذا كان قد كشف عن وجهه الحقيقي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر فإنه أظهر مرة أخرى وفي سنة 2006 أنه لا يقبل حرية الرأي والتعبير ولا يؤمن بمبادئهما في إشارة إلى تهديدات بالقتل صدرت في حقه من مجهولين أكد أنهم إسلاميون. ولم يغفل مجدي كريستيان علام أن يتحدث عن الرسوم الكاريكاتورية المسيئة إلى الرسول الكريم وما أحدثته من ردود أفعال في العالم الإسلامي مع تسليطه الضوء كذلك على الخطاب الذي ألقاه البابا بينيدكتوس السادس عشر في جامعة راتيسبونا الألمانية، مؤكدا أن ذلك يمثل دليلا آخر على أن الإسلام غير متسامح ولا يؤمن بتعدد الآراء وبحرية الرأي والتعبير على حد قوله. وقال: «رغم أن خطاب البابا بالجامعة الألمانية كان مبنيا على نص تاريخي حقيقي يعرفه حتى المسلمون، فقد لقي هجوما من طرف العالم الإسلامي وانتقادا من طرف الغرب». واعتبر مجدي كريستيان علام أن الغرب متسامح جدا مع الإسلام والمسلمين مبرزا أن ذلك قد يشكل خطرا على حرية الغربيين وعلى هويتهم ومعتقداتهم المسيحية. وطالب لذلك بمزيد من التصدي لما أسماه باستعمار الإسلام لإيطاليا، من خلال إلزام المسلمين، المقيمين فيها بضرورة احترام القانون وتطبيقه، مشيرا إلى ما حدث قبل أسابيع حين أقام عدد من أبناء الجالية الإسلامية صلاة الغائب عن أرواح شهداء غزة أمام كاثدرائية ميلانو وبولونيا. ونصب علام، أثناء التعريف بحزبه الجديد، نفسه مدافعا عن القيم المسيحية والغربية، مؤكدا أن تأسيس حزبه جاء لتحقيق هذا الهدف. وقال إن على الإيطاليين أن يستحضروا الحقيقة والمنطق للدفاع عن قيمهم المسيحية مستدلا بمعلومات غير حقيقية عن العالم الإسلامي ومستعملا لغة زاغت عن المنطق. لماذا هذه الأسئلة؟ كنت أول من حصل على الميكروفون لطرح سؤاله أو تعقيبه على ما قاله كريستيان علام فوجدتها فرصة لطرح مجموعة من الأسئلة كنت أنوي طرحها على علام قبل اللقاء في حوار رفض هذا الأخير إجراءه مع «المساء» بعد أن علم بأنها تنتمي إلى العالم الإسلامي: «هل يعقل أن الإيطاليين والمسيحيين غير قادرين على الدفاع عن هويتهم وقيمهم؟ وهل يعقل كذلك أن مثقفا من أصول أجنبية دخل للتو إلى المسيحية سينوب عنهم في هذا الأمر؟ ألا تعتقد أن تأسيس حزب للدفاع عن الهوية المسيحية هو إهانة للإيطاليين وتبديد لأموالهم؟. «كان الكل ينظر إلي وعلامات الاستفهام ممزوجة بالمفاجأة مرسومة على وجوههم، وأكملت موجها سؤالي ليس فقط إلى علام بل حتى إلى الحضور وقلت: «إيطاليا ليست بحاجة إلى مثقفين من أصول أجنبية يبثون سمومهم فيها ويخلقون توترا داخل مجتمعها من خلال أفكار ومعلومات مغلوطة وكاذبة بل هم محتاجون إلى مثقفين يساعدون على الاندماج والتعايش الحقيقي بين الثقافات، وليس البحث عن المجد على حساب الإسلام وعلى حساب أموال الإيطاليين... انظروا إلى هذا الكم الهائل من رجال الحراسة وإلى السيارات المصفحة، هل هذه ليست أموالكم؟ مجدي علام استغل الهجوم على الإسلام لتحقيق أهدافه واليوم يستغل المسيحية، فماذا سيستغل غدا؟ وإلى أين يريد الوصول؟». كان التوتر والاحتقان باديا على وجه وصوت مجدي حين حاول الرد على كل ما ذكرته وقال: «أنا أفتخر بكوني مواطنا إيطاليا، وأفتخر بكوني مسيحيا، وأعتقد أنني لا أخلق توترا بإيطاليا بل أحاول الدفاع عن قيم أصبحت أحس بأنها مهددة من طرف مسلمين لا يحترمون القانون.. أما مسألة حراستي فأنا لم أطلبها قط بل السلطات الإيطالية هي من فرضتها علي لحمايتي من الفتوى التي صدرت في حقي من طرف إرهابيين». انتهى اللقاء بمداخلات وأسئلة الجمهور وأجوبة كانت غالبيتها تحاول مساندة علام والهجوم على الإسلام بشكل غير مفهوم وغير منطقي. فقررت الخروج أنا وزميلة صحفية من الفندق الذي كان يحتضن اللقاء، لكن رجال الأمن استوقفوني ليطلبوا مني بطاقة إثبات الهوية وبطاقة الصحافة، ليس من أجل التعرف على هويتي بل من أجل مضايقتي. فسلمتهما إليهم لكن مع سؤال: «هل أصبح كل من يسأل كريستيان علام يتعرض للتفتيش؟». فقال لي رجل الأمن بتلعثم: «لا إنه فقط تفتيش روتيني» ليطلب من زميلتي الإيطالية هي الأخرى بطاقتها ليظهر لي أنني لست الوحيد الذي تعرض للتفتيش. اللغة الإيطالية داخل المساجد أكدت البرلمانية الإيطالية من أصل مغربي سعاد سباعي ل«لمساء»، أنها تنوي رفع دعوى قضائية بالمغرب ضد جريدة مغربية حرفت التصريحات التي أطلقتها لجريدة «لاستامبا» الإيطالية قبل أسابيع والمتعلقة بضرورة استعمال اللغة الإيطالية بالمساجد الإيطالية. وقالت سعاد إن هذه الجريدة المغربية حرفت تصريحاتها بشكل مقصود لتظهرها للرأي العام المغربي على أنها تتهم الجالية الإسلامية بإيطاليا بالإرهاب والتطرف. وأضافت أن حوارها مع جريدة «لاستامبا» تناولت فيه فقط ضرورة اندماج الإسلام مع واقع القانون وواقع الحياة بإيطاليا من خلال مجموعة من الإجراءات أولها ضرورة إلقاء الخطب داخل المساجد باللغة الإيطالية حتى يمكن رصد الخطابات التي تدعو إلى الحقد والكراهية والتطرف. وقالت: «اللغة الإيطالية ووضع شروط لاختيار الأئمة للوقوف سدا منيعا أمام متطرفين وجهلاء يشوهون صورة الإسلام، وإظهار فلسفة التسامح التي يتمتع بها ديننا الحنيف، إضافة إلى ضرورة احترام المسلمين للقوانين الإيطالية وتأقلم معها، هي المواضيع التي تناولتها في الحوار مع «لاستامبا»، وأظن أن الجريدة التي تناولت الخبر وحرفته إما أنها تعمدت فعل ذلك أو أن المسؤولين عنها غير مهنيين ويجهلون اللغة الإيطالية».