وضع محمد عبد الرحمن التازي نُصب عينيه، منذ بداية ولعه بالصورة، عنصراً هاماً يتمثل في إخضاع الإرث الثقافي والعمراني للمساءلة البصرية عبر السينما، لذلك كان تناوله جوانب من التراث أحد أهم الفصول التي حمل مشعلها السينمائي بالمغرب الأقصى، لم يكن هذا العشق من محض الصدف بل جاء نتيجة وسط عائلي منغمس في نخاع مدينة فاس. اختتمت بالراشيدية يوم 22 مارس فعاليات الملتقى السينمائي الجامعي الثالث الذي نظمه نادي القبس في محور سينما عبد الرحمان التازي. وقد تضمن الملتقى عرض أفلام المخرج، خاصة «بادس» و«للاحبي» و«ابن السبيل»، وتنظيم ورشة في كتابة السيناريو، بالإضافة إلى ندوة حول تجربة التازي، شارك فيها أحمد سيجلماسي وبوبكر الحيمي ومحمد شويكة وعثمان بيعاني وسعيد كريمي وحميد اتباتو. وقد بينت أوراق الندوة خصوصيات تجربة عبد الرحمان التازي، وأكدت أن قضايا المجتمع شكلت ثابتا في أفلام المخرج، على الرغم من تفاوت قيمة الطرائق الفنية المعتمدة بين فيلم وآخر، والانشغال بالواقع في هذه التجربة لا يعني أن المخرج قد حاول عكس قضايا المجتمع بشكل مباشر، وحتى لو قام بهذا، وهو غير ممكن، فإنه لم يسجل في يوم ما أن تظاهرة قد خرجت من السينما، كما قال التازي، مما يعني أن ما تنشغل به السينما، حسبه، هو تقديم فرجة، وهذه الفرجة، حسب مداخلات الندوة، لا تكون مجانية، بل تحمل بناء ودلالات، وهو ما بحثت عنه القراءات المبرمجة، وهكذا أكد الناقد أحمد سيجلماسي أن ما قدمه التازي جد مهم لأن تجربته تختزل تاريخ السينما المغربية لكونه رافق كل تمرحلاته منذ الأخبار المصورة إلى مراحل التأصيل، فالتازي، حسبه، كان حاضرا في البداية الرسمية للسينما المغربية كمدير للتصوير، وذلك في فيلم «الحياة كفاح»، وحضر أيضا في التأسيس الفعلي لهذه السينما باعتباره مديرا للتصوير وطرفا في الإنتاج، وكان هذا في فيلم «وشمة»، كما طبع السينما المغربية من مواقع أخرى، منها أساسا الإخراج، حيث أنجز أعمالا رائدة من قبيل «ابن السبيل» و«بادس» و«البحث عن زوج امرأتي» و«لالة حبي» و«جارات أبي موسى» ويستعد لإنجاز فيلمه الجديد المعنون ب«البايرة». وفيلم «البايرة» أخذ عنه التازي أقل منحة للدعم، وذلك ببساطة لأن الجهة التي تمنح الدعم تعرف جيدا، حسب التازي، أنه لا يستطيع إنجاز الفيلم نهائيا بهذه المنحة. ويعود فيه المخرج إلى ثوابته الاجتماعية بعد أن جرب صيغة الاشتغال على المادة التاريخية والاقتباس في «جارات أبي موسى»، وما يعنيه هذا هو أن الواقع الاجتماعي يشكل خلفية أساسية لتجربة المخرج، وهو ما حاول الناقد بوبكر الحيمي أن يقف عنده بالتركيز على جدلية الشكل والمضمون في فيلم «البحث عن زوج امرأتي»، فتحليل هذا العمل يسمح بإبراز نظرة المخرج إلى بعض قضايا الواقع وإلى آفاقها المستقبلية، خاصة أن تعدد الزوجات، وإن طرح بشكل كوميدي في الفيلم، يسمح بإعطاء فكرة عن نوعية العلاقات الاجتماعية في تلك المرحلة. وما اعتمده الحيمي لهذه المقاربة هو الشخصيات وسلوكها وطبيعة وعيها، بالإضافة إلى نوع التأطير ومدته. وما خلص إليه في الأخير هو أن بؤس العلاقات الاجتماعية في الفيلم لا يبرزه المضمون فقط، بل تبرزه الأشكال الفنية أيضا، لأن التركيز على لقطات خاصة وعلى نوعية من التأطير واستثمار فضاء له علاقة بالبيت التقليدي يقول أشياء كثيرة عن هذا البؤس، فالحاج بنموسى، حسب الحيمي، هو نتاج فضاء معين. حضور الواقع في تجربة التازي يأخذ بعدا آخر حين يختار الاشتغال على التاريخ والعوالم الصوتية في «جارات أبي موسى»، وهو الفيلم الذي ركزت عليه مداخلة الناقد محمد شويكة، التي قرأ فيها كيفية الانتقال من الحكي المنقبي إلى الحكي الفيلمي. وقد عد هذا العمل مغامرة لأنه يشتغل على اقتباس رواية أحمد التوفيق التي تستثمر بدورها أدب الرحلة والمناقب، أي حالات التبدل عند الصوفية. فالحكي يعرف المتلقي على أحوال المتصوف أبي موسى الصالح الذي يتقلص حضوره في الفيلم مقارنة بالرواية، وذلك لصالح الحضور السياسي. لقد شكلت شخصية المتصوف والحكي المنقبي فيها متميزة لإبراز بعض أوجه الصراع بين الخير والشر، وبعض تجليات الواقع التاريخي الذي قد يتحقق في قراءة الواقع الحالي كذلك، إلا أن قيمة كل هذا لا تبرز إلا من خلال تحليل المكونات الفنية المعتمدة في الفيلم، والتي برز فيها الكثير من الاجتهاد، خاصة الملابس التي تميزت كثيرا ونفس الشيء بالنسبة إلى الديكور. إلا أن ما سجله شويكة على الفيلم هو أنه لم يهتم بالإكسسوارات وباللغة لتأكيد خصوصية المرحلة التاريخية التي اشتغل عليها الفيلم، مما يجعله يحيل على الواقع الحالي أكثر من إحالته على المرحلة المرينية. وإذا كان التاريخ قد أسعف التازي في تمييز عمله «جارات أبي موسى»، فإن عنف المعنى قد طبع فيلم «بادس» حسب عثمان بيعاني، فما يسعى إليه هذا المعنى هو بناء الوعي الممكن لتجاوز الوعي السائد، ولأجل هذا اقترح التازي عناصر إبداعية منها إيقاع الفيلم وخطه الدرامي وإيحائية الشخصيات وعلاقاتها. إن الفيلم، حسب بيعاني، يطرح مأساوية الوجود الاجتماعي، وما يبرز في هذا الوجود أكثر هو المرأة التي حاصرها المكان كما يحاصرها منطق الرجل وأنانيته. وموضوعة المرأة لا تحضر في «بادس» فقط بل في كل أفلام التازي، وحضورها هو بغاية طرح قضيتها وكل القضايا المجتمعية المرتبطة، كون العلاقة بالمرأة غير معزولة عن باقي العلاقات الأخرى. فالواقع أن المرأة، إلى جانب قيمات أخرى، هي صيغة لبناء التخييل السينمائي، إلا أنها لا تقطع مع أصولها الواقعية، ما يعني أن المتخيل السينمائي لسينما التازي يتأسس على المادة الواقعية، وعلى الرغم من أن الأصل الواقعي يتم تزييفه عبر المصوغات الفنية، خاصة الكادراج والمونتاج والتقليص والتضخيم ونوعية السرد، إلا أنه، على الرغم من ذلك، يبقى حاملا لآثار تربطه بأصله الأول في الواقع الموضوعي، مما يعني أن التخييل مهما تشكل كحل له مميزاته ومرتكزاته، ومهما استقل عن الحقيقة الموضوعية فإنه يحيل على الواقع، بل إنه تمثيل له بالضرورة مهما بدا غير مماثل له. ومن العناصر البارزة التي تربط أفلام التازي بالواقع المغربي، هناك اللغة الحاملة لدلالات اجتماعية عديدة، والفضاء الذي تتم تسميته بالانطلاق من المكان الحقيقي. وما يدعم أكثر المرجعية الواقعية في هذه الأفلام هو أن منطوقها يتضمن شهادة إبداعية من الواقع الموضوعي، وهذا الأمر جد طبيعي لأن السينما لا يمكنها أن تتعرف إلا بحقيقتها الاجتماعية، أي باعتبارها علاقة اجتماعية تؤثر في باقي العلاقات الأخرى وتتأثر بها كذلك و«محكياتها المنقولة بالصورة اختيارات معمولة ليس من أجل إبراز تمثلات مجتمع ما عن نفسه فقط، بل من أجل الكشف عن هفواته وتفككاته». فالفيلم كمنتوج إبداعي، أكان للتازي أم لمبدع آخر، ومهما ضخم الحضور الواقعي فيه، أو سعى إلى القطع معه بشكل كبير، سيتشكل بالانطلاق من تقابلات ضرورية تتداخل فيه وتبني عوالمه، هي، حسب، إدغار موران، «اليومي والعجائبي، الحقيقة والوهم، الواقعي والمتخيل، وهذا ما يسمح بالحديث عن الطبيعة المزدوجة للعوالم السينمائية». وهذه الطبيعة المزدوجة هي ما يبرز كخصوصية مميزة لأفلام التازي. إن تحليل أعمال التازي يبين أنه ينطلق من الواقع لتأسيس متخيله ويقترح صيغا عديدة لتحويل المادة الواقعية، وربطها أكثر بالمتخيل مراعاة منه لخصوصية الحقل الإبداعي. وأهم ما اعتمده في أفلامه هو تضخيم المادة الواقعية، وهو ما يبرز أساسا في فيلم «ابن السبيل»، حيث يتم تركيب وقائع عديدة ذات طابع صادم لإعطاء طابع مأساوي لمسار السائق وللحكي الفيلمي كذلك. إلا أن بناء هذا البعد في الفيلم، وإن سمح بتمييز التخييلي، فإنه قد أقصى أبعادا مهمة من المفترض أن تبرر بها الصراعات والتصادمات بين الفئات الاجتماعية الدنيا، مما يطرح سؤالا حول نوعية الرؤية المؤطرة للاشتغال على المادة الواقعية. أما في فيلم «بادس»، فيقترح التازي الأساس الرمزي لتمييز الوقائع الاجتماعية داخل المتخيل الفيلمي، وهكذا تتشكل عناصر الفضاء والماء والرقص والدائرة والرجم... كمكونات تغرب الواقع المباشر من جهة وتبني الموقف منه بشكل عميق. فعلى الرغم من أن الفيلم يطرح قضية اجتماعية مرتبطة بالمرأة والهيمنة الذكورية، وهذا ما يطبع إبداعية الفيلم، كما يطبع فاعلية التلقي كذلك. ولدعم منطق التحويل الفاعل للمادة الواقعية، يقترح التازي الكوميديا لتسخيف الواقع في «البحث عن زوج امرأتي» و«لالة حبي»، كما يقترح البعد العجائبي لتغريب الواقع والتاريخ في «جارات أبي موسى». إن هذا الحضور للواقع وإن أراد به التازي عناصر الفرجة السينمائية فقط، فهو ينقل موقفا من الواقع حتى وإن لم يستطع تغييره، وتغيير الواقع لا يعني بالضرورة ما هو اجتماعي، بل يعني كذلك ما هو إبداعي وتخييلي فيه، وقد يكون الإبداع أو عدمه فاعلا على هذا المستوى، لهذا يقول عبد الرحمان التازي إن عدم إنتاجه لفيلم منذ مدة وعدم حضوره للمهرجان ناتج عن عدم رضاه عما آلت إليه السينما في المغرب، لأن ما تعيشه الآن هو مأساة حقيقية، وذلك لسببين، الأول هو التراجع لإقبال الناس على مشاهدة الأفلام في القاعات ثم تسخيف الممارسة السينمائية عن طريق الاشتغال بالكم، فالجميع الآن يتهافت، حسب التازي، من أجل إنجاز ثلاثة أفلام لا تتجاوز مدتها خمس دقائق، والقاعات أغلقت بشكل كارثي، ولا يمكن في ظل هذا أن ننجز أفلاما لتعرض في المهرجانات أو تبقى حبيسة علبها. المطلوب الآن، حسب التازي، أن يتقوى فعل الأندية السينمائية، وأن يتم تفعيل الاهتمام بهذا الفن وبثقافته داخل الجامعات والمؤسسات التعليمية، وأن يتم التركيز على التكوين بشكل حقيقي وفاعل لإنقاذ السينما ولاستثمارها في ما يحتاجه الواقع.