بعد أسابيع قليلة من إعلان المغرب إنشاء قاعدة بحرية في القصر الصغير، أقرب نقطة مغربية إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، قامت إسبانيا بتخفيض أعداد قواتها بمدينتي سبتة ومليلية خلال هذا الأسبوع، بشكل تعجز التحليلات الكلاسيكية عن تفسيره، كما أن السلطات في مدريد لم تعط تفسيرات مقنعة لهذه الخطوة. يأتي هذا تزامنا مع صدور كتاب لعبد اللطيف الفيلالي، الوزير الأول الأسبق، الذي يعتقد أن «القرار الصائب الذي يجب أن يتخذه الملك محمد السادس هو قطع العلاقات مع إسبانيا». يبدو واضحا أن شيئا ما يطبخ في مضيق جبل طارق بتوابل أمريكية، فإسبانيا قامت بتخفيض عدد قواتها بمدينتي سبتة ومليلية، خلال هذا الأسبوع، بشكل تعجز التحليلات الكلاسيكية عن تفسيره، فإسبانيا طالما اعتبرت أنها القادرة على حماية الضفة الجنوبية لمضيق جبل طارق أمام ضعف البحرية الملكية، إضافة إلى تشبثها التاريخي بالوجود في سبتة ومليلية اللتين احتلتهما خلال الموجة الاستعمارية الأولى وشكلا بالنسبة إليها مسألة بالغة الحساسية داخل المشهد السياسي الإسباني. ولم تعط مدريد تفسيرات مقنعة لهذه الخطوة «التاريخية» في مسلسل التوازن الاستراتيجي في مضيق جبل طارق، خصوصا أن لها تأثيرا على العلاقات المغربية الإسبانية، وستستقبلها الرباط بارتياح أكثر من هدية السلاح «الخردة» التي أهداها ثباتيرو في يناير الماضي إلى الرباط مقابل أورو رمزي، بيد أن هذه الخطوة التي ستمكن من تخفيض حوالي 50 في المائة من الجنود الإسبان بالثغرين المحتلين بشكل تدريجي إلى حدود عام 2011، لا تلقى إجماعا داخل شبه الجزيرة الإيبيرية، لاسيما أنها تأتي بعد أسابيع قليلة فقط على إعلان المغرب إنشاء قاعدة بحرية في القصر الصغير ستقوي بدون شك جهازه العسكري البحري وترفع من ثقة الدول العظمى مثل بريطانيا والولاياتالمتحدة التي لم تعد تستفيد بشكل كبير من قاعدة روتا البحرية التي تمتلكها في خليج قادس الإسباني في ظل الشروط التي تضعها إسبانيا خصوصا في عهد ثباتيرو الذي ستستمر ولايته أربع سنوات أخرى. حليف استراتيجي والواضح أن المغرب بات يكتسي أهمية أكبر في المخططات الأمريكية والبريطانية بحكم أن إسبانيا التي سمحت لجيوش الولاياتالمتحدة بالوجود في خليج قادس تغيرت كثيرا، ولم تعد تلك الدولة الضعيفة التي يمكن لأمريكا التحكم بها، كما أن التوجه المتوسطي لثباتيرو بات مزعجا، وفي السياق نفسه، فإن علاقة بريطانيا بإسبانيا يشوبها شيء من حتى، بحكم أن إسبانيا مافتئت تطالب بمغادرة بريطانيا لصخرة جبل طارق، فنحن أمام تغيير جديد في أرقام المعادلة الكلاسيكية التي طالما حكمت المضيق. أمريكا في حاجة إلى حليف استراتيجي يقدم عدة تنازلات ويشتغل بوفاء كبير في رعاية وحراسة مصالحها في المضيق الاستراتيجي وبريطانيا تفضل هذا الحليف على ازدياد قوة إسبانيا بحراستها للضفتين الشمالية والجنوبية للمضيق، ويجد المغرب نفسه مرتاحا أكثر في هذه الوضعية، لأنه سينعم بدعم القوى العظمى في عدة ملفات استراتيجية على رأسها قضية الصحراء التي قدم المغرب بشأنها مقترحا للحكم الذاتي يمكن اعتباره بكل موضوعية الحل الأمثل لإنهاء صراع لم تعد القوى العظمى في حاجة إليه الآن بعد تغيير خارطة الأولويات الدولية، وتزايد خطر الإرهاب وتوغل الولاياتالمتحدة في مستنقع العراق الذي أنجب جيلا جديدا من الجهاديين يتقنون حرب العصابات في المدن وتوظيف السيارات المفخخة وتوظيف الأنترنت، فاستهداف البوارج الحربية الأمريكية يعني بالنسبة إليهم ضرب ممر حيوي أشبه بحبل السرة الذي تنقل عبره الأسلحة والغذاء إلى الجيش الأمريكي في المشرق العربي عموما. وأعطى بيدرو كناليس الصحافي الإسباني المختص في العلاقات بين ضفتي مضيق جبل طارق تفسيرا لما يحدث بكون مدريد تطبق خارطة طريق اتفقت عليها مسبقا مع الرباط من أجل الوصول إلى سيادة مشتركة حول سبتة ومليلية مستقبلا، وربط ذلك بحل لقضية صخرة جبل طارق رغم الاختلاف القانوني والتاريخي والسياسي بين القضيتين. وقال كناليس في دردشة مع «المساء» إن عدة أطراف في المشهد السياسي الإسباني ترى أن مشكلة سبتة ومليلية يجب إيجاد حل لها، لأنها تبدو مزعجة بالنسبة لإسبانيا الراغبة في تقوية وجودها الاقتصادي في المغرب، كما أن قيامها بمناورات مشتركة مع المغرب في إطار الحلف الأطلسي يغير الكثير من أرقام المعادلة وينقل البلدان من التنافس إلى التعاون المشترك. أصوات من الماضي عاد الوزير الأول المغربي الأسبق عبد اللطيف الفيلالي إلى واجهة العلاقات المغربية الإسبانية بعد دعوته في مذكراته الصادرة أخيرا والمعنونة ب»المغرب والعالم العربي» إلى قطع العلاقات مع إسبانيا، بحكم أن الرباط لا يمكنها أن تظل مكتوفة الأيدي أمام الوجود الإسباني في سبتة ومليلية. وقال الفيلالي متسائلا: «لا أدري ما إذا كانت صيغة المسيرة الخضراء تصلح لاستعادة سبتة ومليلية بيد أن القرار الصائب الذي يجب أن يتخذه الملك محمد السادس هو قطع العلاقات مع إسبانيا». وجاءت هذه العودة للفيلالي بعد سنوات من التواري عن الأنظار استقر فيها بين إيطاليا وباريس، بعدما شغل منصبا محوريا في الدولة المغربية في عهد الملك الراحل الحسن الثاني إلى حين مجيء حكومة التناوب بقيادة عبد الرحمان اليوسفي الذي خلفه في الوزارة الأولى، مثلما خلفه محمد بنعيسى في وزارة الخارجية والتعاون، بعدما كان أحد الوزراء الذين قضوا سنوات طويلة بها وربطته علاقات وطيدة بالنخبة الإسبانية التي كانت تعتبره أحد السياسيين المنفتحين عليها بحكم إتقانه للغة الإسبانية. ومن القضايا المثيرة والطريفة التي تعرضت لها المذكرات، حكايات ذات ارتباط بالعلاقات المغربية -الإسبانية، إذ يروي الفيلالي، طبقا لما اقتبسته من مذكراته صحيفة «إلباييس» اليومية الاسبانية، أن الجنرال الراحل فرانسيسكو فرانكو أحس بحزن عميق بعد توقيع وثيقة استقلال المغرب، واختلى بنفسه في قصر «البرادو» الشهير حيث اطلع على حالته عسكريون مقربون منه. فسألوه عن السبب، فأجابهم الجنرال: هل جرب أحدكم فقدان فلذة كبده؟ فاستغرب طارحو السؤال، لأنهم يعرفون أن فرانكو لم ينجب ولدا ذكرا، لكنه شرح لهم أن ابنه الذي فقده هو المغرب الذي ظفر باستقلاله. و يروي الفيلالي بعض الوقائع والقصص عن إسبانيا التي عمل سفيرا فيها لفترتين على عهد فرانكو، ولفترة وجيزة بعد وفاته، فهو يتهم الحاكم العسكري الإسباني السابق لمنطقة الصحراء، الجنرال غوميث سالاثار، بتنظيم هروب الصحراويين الذين كانوا في الجيش الإسباني إلى معسكرات تندوف. وكان هذا الموقف صادما بالنسبة إلى عدة أوساط إسبانية، خصوصا أنه يأتي في سياق تزايد المطالب المغربية باستعادة الثغرين المحتلين بعد أزمة زيارة الملك خوان كارلوس لهما. وسبق للفيلالي أن تسبب في أزمة كبيرة مع إسبانيا عندما قرأ خطابا في البرلمان المغربي يعتبر فيه أرخبيل الخالدات أراض مغربية تجب استعادتها، وهو ما قلب الرأي العام الإسباني في جزر الكناري على المغرب تجاه قضية الصحراء، وجعل رؤساء حكوماتها يزيدون من جرعة الموقف المعادي للوحدة الترابية للمغرب. وكانت الصحف المغربية تحدثت قبل شهور عن استعداد الفيلالي لكتابة مذكراته من مقر إقامته الأوربية عن السنوات التي قضاها داخل دهاليز المخزن المغربي، وهو ما قيل إنه يزعج بعض الأوساط داخل الدولة التي لا ترغب في سماع أصوات قادمة من الماضي. ربط الاقتصاد بالسياسة شكلت زيارة رئيس منطقة الحكم الذاتي في كاتلونيا خوسي مونتيلا (الذي يذكر دائما بأصله الأندلسي) إلى الرباط حدثا مهما، بدا أن المغرب يحاول أن يستغله لصالحه في قضية الصحراء، عبر معطيين أساسيين هما ربط الاقتصاد بالسياسة وجعل النموذج الكاتلاني في الحكم الذاتي مدخلا للحديث عن دعم لمقترح الحكم الذاتي المغربي الذي يتقاطع مع مطالب إقيلم كاتلونيا، وهو ما قد يضمن للمغرب دعما مهما في إسبانيا، فأهل كاتلونيا أناس عقلانيون ويعشقون الأعمال والمشاريع ومتشبثون بهويتهم، لكن ما انزعج منه رئيس كاتلونيا هو أنه لم يحظ مثل سابقيه باستقبال ملكي يجعله يشعر بالأهمية التي توليها المملكة الشريفة لصناع القرار في القلب الاقتصادي النابض لإسبانيا. وبما أن كاتلونيا تذكر أيضا بخوان غويتصولو، الكاتب الذي اختار منذ سنوات طويلة مراكش الحمراء مقاما له، فإن غويتصولو كان مدافعا مستميتا خلال نهاية الأسبوع الماضي في مدينة غرناطة عن المغرب الذي يخيف العديد من الإسبان. وقال غويتصولو بشأن قضية الصحراء، في ندوة كانت غاصة بالحضور على هامش مهرجان الكتابة والسفر، إنه يعتقد أنها لن تجد حلا سريعا لها وستستمر لأجيال مقبلة، بحكم أن الجزائر التي تملك مفتاح الحل لا تريد أن تجد الأزمة طريقها للانفراج، مضيفا أن عبد الكريم الخطابي ارتكب أكبر خطأ في مساره تمثل في كونه كان سابقا لعصره. ثباتيرو يعيد الكرة سيحتاج رئيس الوزراء الإسباني لويس رودريغيث ثباتيرو إلى تصويت للمرة الثانية من أجل تشكيل حكومته والإدلاء بالقسم أمام الملك خوان كارلوس، فقد فشل في تحصيل ثقة عدة أحزاب صغيرة دعمته خلال التحالف الذي أجراه عام 2004، وهو ما يؤكد التحليلات التي أشارت إلى أن فوز ثباتيرو في الانتخابات كان ملغوما ومعقدا ويلزمه الكثير من المناورة للخروج سالما، لأنه خلال انتخابات مارس الأخيرة استطاع فقط الظفر بمقاعد إضافية على حساب الأحزاب الصغيرة التي تحالفت معه في الولاية السابقة والتي لم يقدم بعضها الدعم لخوصي بونون أحد دهاة الحزب الاشتراكي، الذي فاز بمنصب رئيس البرلمان الإسباني بصعوبة بالغة عندما مر إلى الدور الثاني بدوره، مما يؤشر على أن ولاية ثباتيرو الحالية هي أشبه بعملية قيصرية. واستخدمت عدة أحزاب، كانت موالية لثباتيرو، سلاح الامتناع عن التصويت، وبلغ عدد الممتنعين 23 صوتا، كان يمكن أن تسهل مأمورية ثباتيرو في حالة التصويت عليه، لكن الظاهر أن كل شيء محسوب، فحكومة ثباتيرو لا تريد أن تشرع في ولاية جديدة وتخضع لنفس الضغوطات التي تعرضت لها خلال الولاية السابقة التي كانت تعود فيها كل مرة إلى استشارة الأحزاب القومية الصغرى، وكما قال ثباتيرو نفسه أثناء خروجه من مقر البرلمان، «فكل شيء يمر على ما يرام»، إنها عبارة شبه غامضة تخفي وراءها استراتيجية مسطرة من طرف ثباتيرو الماضي في سعيه، حتى ولو كلفه ذلك خدشا في صورته المعلقة على جدران المونكلوا.