كانت الساعة تشير إلى الرابعة و21 دقيقة من عصر الجمعة المنصرم عندما فتحت بوابة السجن المحلي ببني ملال ليستعيد محمد بوكرين حريته بعدما قضى هناك عشرة أشهر، جاء ذلك نتيجة قرار العفو الملكي عنه رفقة ستة عشر متابعا آخر بتهمة «المس بالمقدسات»، كانت معنويات الشيخ السبعيني عالية رغم حالة الإعياء البادية عليه بفعل معاناته في الأسابيع الماضية مع المرض، وكانت «المساء» هناك لإجراء أول حوار معه. - ما تعليقك على قرار الإفراج عنك بعفو ملكي؟ < كنت أراهن على المحاكمة في الاستئناف للدفاع عن نفسي وانتظار إصدار المحكمة لحكمها، لكنهم كانوا يريدون التخلص من هذا الملف فأصدروا العفو، لقد صدمت عندما سمعت قرار العفو، رغم أن الأصداء كانت تصلنا بأنهم يدرسون قرار العفو باستقبال زوجتي... - ألم تكن هناك اتصالات بك بخصوص قرار العفو؟ < أنا موقفي واضح، أنا أرفض العفو، ولو ترك الأمر بيدي لما خرجت، لكنهم سيخرجونني رغما عني من السجن، ولكنني سأطالب بحقي، وسأؤسس هيئة أسميها «هيئة العار»، ستكون وصمة عار على جبين الدولة المغربية، أما بالنسبة إلى المصالحة فإنني أطعن فيها وأعتبرها مصالحة ملغومة ودون معنى، فالمصالحة ليست شراء ذممنا بالأموال، ولكن المصالحة هي رد الاعتبار إلى شهدائنا بنهج الخط والمسار الديمقراطي الذي من أجله مات الشهداء، لا أن نتنكر لهم بتغييب الديمقراطية في البلاد، إذا غابت الديمقراطية في المغرب فلا وجود للمصالحة... وإذا لم تتقدم الدولة باعتذار فلا وجود للمصالحة... وإذا لم يتم رد اعتبار إلى الشهداء، ولو على الأقل بإقامة نصب تذكاري لهم وإطلاق أسمائهم على الشوارع والمرافق العمومية. - إذن، لم يكن هناك تنسيق بينك وبين الجمعية المغربية لحقوق الإنسان أو المنتدى المغربي للحقيقة والإنصاف بخصوص العفو عنك؟ < لا بالعكس، فأعضاء الجمعية (المغربية لحقوق الإنسان) والمنتدى (المغربي للحقيقة والإنصاف) منذ دخولي إلى السجن وهم يشتغلون، وأخبروني بوجود اتصالات بينهم، سواء الجمعية أو المنتدى، وبين المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، وناقشوا الصيغ الممكنة لحل المشكلة، لكنهم عندما اتصلوا بي قلت لهم إنني لا أقبل العفو، لأنني قمت بالتضامن مع شباب كانوا يطالبون بحقهم في الشغل، وفي الوقت الذي كان ينبغي أن يوفروا لهم الشغل اعتقلوهم بعد قمعهم، وسجنوهم، وهذا بالنسبة إلي حكم جائر وظالم، فبالتالي هذا هو منطقي في عدم قبول العفو. - بالعودة إلى «هيئة العار» التي تنوي تأسيسها، هلا قربت القراء من أهداف ودواعي تأسيس هذه الهيئة؟ < سأدعو لتأسيس هذه الهيئة المثقفين والأساتذة الجامعيين والصحفيين والحقوقيين... لأن بلادنا يجب أن يعاد إليها الاعتبار، ولا نبقى مطأطئين رؤوسنا، المجتمع المغربي ينبغي أن يخرج من السلبية والبقاء في وضع المتفرج، ويجب أن يرفض أن يتكلم أناس باسمه، فالوضع مزري، بل أصبحت أخشى أن تسير البلاد نحو حرب مدنية قادمة... وتلك قناعتي، لأن ما يعيشه المغرب من معالجة للمشاكل الكبرى بحلول ترقيعية، هل برأيك الشعب المغربي يقبل بموجة غلاء الأسعار وتراكم البطالة في سوق الشغل وبالانفلات الأمني الخطير الذي يعيشه المجتمع؟ فالوضع يسير نحو الأسوأ ولا يمكن مستقبلا التحكم فيه. - كيف تلقيت الأحكام الصادرة عنك أثناء محاكمتك؟ < لقد تابعتم رفضي المشاركة في تلك المسرحية، بمحاولة إدخالي في لعبة سؤال جواب، لأن الأمر لا يتعلق بمسألة سؤال جواب أثناء المحاكمة، ولكن هي أكبر من ذلك، فهي تتعلق باستقلال القضاء وبمعنى الديمقراطية الحقيقية، وليس الديمقراطية التي تتعايش مع وجود المقدسات، نحن نعرف جميعا أن القضاء المغربي ليس مستقلا بل قضاء يتلقى التعليمات، فعندما يتعلق الأمر بقضايا سياسية أو نقابية فالقضاء يتلقى تعليمات، أما عندما تكون الأمور عادية فإن بعض القضاة يفعلون ما يريدون، حتى بالمقايضة ب«بريكات» لإطلاق سراح من يرتكب جرائم كبيرة ويدفع أموالا طائلة مقابل تبرئته، فالجميع مطالب اليوم بإصلاح القضاء لتجنب وقوع كارثة كبيرة في المغرب، ولأن إصلاح القضاء هو الضمانة الوحيدة لحماية حقوق الأفراد والجماعات. - عشت مؤخرا ظروفا صحية بلغت أصداؤها خارج السجن، ما الذي وقع بالضبط؟ < أصبت بحمى لمدة 13 يوما بعد إصابة مساجين آخرين بحمى، وأصبت بالعدوى، طلبت من المدير إحالتي على طبيب أخصائي، لم تر إدارة السجن ضرورة في علاجي، لأن الأمر، بنظرهم، يتعلق بحمى عادية، لكنني قلت لهم عندما كنت مريضا كنت أخضع لمراقبة طبية، أما الآن فإنني أقول لكم «راني كانموت» ويلزمني إنعاش وعناية خاصة لاسترجاع عافيتي، فكان التدخل بعد 13 يوما، وأمدوني بالدواء الذي كان عبارة عن حقنتين واحدة للحمى والثانية ضد ميكروبات، ومن يومها توقفت الحمى وبدأت في التعافي، فشفيت تدريجيا بعدما مررت من ظروف صعبة لمدة 13 يوما من المحنة. - كيف كان التعامل معك داخل السجن؟ < الموظفون كانوا يتعاملون معي بإنسانية كبيرة على قدر المستطاع، ولم تكن تصلني منهم إساءة، بل منهم من كان يحاول التقرب مني، ولكن إدارة السجن كانت عليها ضغوط خارجية، فحاولت محاصرتي، فمنعوا الناس من زيارتي، حتى عائلتي كانت تشدد عليها إجراءات المنع ودائما كانوا يجدون المبررات لذلك. - كيف عاش بوكرين عشرة أشهر داخل السجن وكيف كانت علاقتك بالسجناء؟ < لقد استفدت كثيرا من عشرة أشهر التي عشتها داخل السجن، اكتشفت عالما آخر ومعطيات كثيرة وواقعا آخر لم يكن بمستطاعي معرفتها لو كنت خارج السجن، حيث إن بعض الأمور تبدو في ظاهرها بسيطة لكنها خطيرة جدا، ففي مؤسسة سجنية تضم مئات المعتقلين، لا وجود لقلم جاف واحد، واستغربت أنه في المعتقلات التي مررت منها في السابق، سواء في بداية الستينات والسبعينات والثمانينات كانت الأقلام والدفاتر موجودة بوفرة، أما اليوم وكأنك تبحث عن شيء عزيز المنال، في الوقت الذي تروج فيه داخل السجن «كوارث» أخرى الكل يعرفها كيف تروج داخل السجون. أما علاقتي بالسجناء، فإن أكثر ما فاجأني تعاطفهم معي، بل كان تعاطف بعضهم أكبر من تعاطف المناضلين، وكانت لحظات وداعهم لي أثناء استكمالهم عقوبتهم لحظات إنسانية لا تنسى. - وكيف كانت الظروف داخل الزنزانة؟ < ما صرح به عبد الواحد الراضي (وزير العدل) من وجود متر ونصف لكل معتقل، غير صحيح بتاتا، وما يوجد داخل السجون عكس ذلك تماما، ففي الزنزانة التي كنت بها كنا 18 فردا في زنزانة من 18 مترا مربعا (طول الزنزانة 6 أمتار وعرضها 3 أمتار) وقد كنا محظوظين بالمقارنة مع عنابر وزنزانات أخرى، حيث كنا نتوفر على شبر لكل معتقل، وفي أحسن الأحوال على مقدار قبر «شبر وأربعة أصابع»، أما المعتقلون الآخرون فكانوا يتوفرون على أقل من شبر لكل معتقل، ففي سجن بني ملال تركت ما يقارب 690 سجينا في سجن طاقته الاستيعابية لا تتعدى 186 شخصا، حسب ما هو مصرح به رسميا. - حدثت تغيرات أثناء وجودك داخل السجن، كيف يقرأ هذه التغيرات؟ < أعتبر محطة انتخابات 07 شتنبر مرحلة التحول في المغرب، مرحلة تحول في وعي الشعب المغربي، حيث فضحت البورجوازية والمخزن وعزلا من طرف الشعب، فالمخزن كان يخفي الحقائق عن الشعب المغربي الذي اكتشف تلاعب وتضليل المخزن والبورجوازية، وأعتبر أن المخزن فضح و«تكرمل» (احترق) مع البورجوازية في السابع من شتنبر، واستعمال ورقة فؤاد عالي الهمة هي محاولة لاسترجاع زمام الأمور التي أفلتت من يد المخزن فقط. والاقتصار على الأطر التي درست في المدرسة المولوية في تولي المسؤولية وتسيير شؤون البلاد فيه حيف كبير لطاقات أبناء الشعب المغربي الذين يملكون كفاءات كبيرة، فهذا حيف وضرب للديمقراطية ولتكافؤ الفرص. - عرفت قضيتك تعاطفا وطنيا ودوليا، هل لهذا التضامن برأيك نصيب في إصدار قرار العفو عنك؟ < لقد كانت المنظمات الحقوقية تتضامن معي في السابق منذ الاعتقالات الأولى، لكن التضامن هذه المرة أخذ حجما أكبر من المتوقع، خاصة بانضمام هيئات جديدة وشخصيات دولية مرموقة من حجم «نعوم تشومسكي» في أمريكا و»جيل بيرو» بفرنسا والممثلة «نيكول فايل» وشخصيات أخرى، وانطلق التضامن ليشمل دولا عديدة كألمانيا وهولندا وبلجيكا وفرنسا ودول أخرى. وأكيد أن لهذا التضامن صدى كبير، لأن النظام في المغرب للأسف يحاول تحسين صورته في الخارج، ولا يلقي بالا لمطالب الشعب إن لم نقل إنه يحتقرها.. وهذه الضغوطات هي التي فرضت العفو لكي يقال إنهم منحوني العفو وسامحوني، في حين أن الحقيقة هي أنني مظلوم عبر عن رأيه في معارضته للسياسة المتبعة منذ الاستقلال، والتي خلقت كوارث، ووصلنا إلى أن شبابنا أصبح يلجأ إلى الموت في البحار في سبيل تأمين مستقبله في بلدان أخرى، في الوقت الذي كان ينتظر فيه أن يلجأ إلينا الناس لتأمين مستقبلهم. فعندما قيل المصالحة قلنا مرحبا، لكن عندما نجد الجلادين لهم الجرأة على شتمنا وشتم الشهداء على الملأ مع احتفاظهم بمناصبهم، فهذا في نظري «حكرة». - وكيف وجدت حركة التضامن معك في السجن؟ < أشكر كل الهيئات التي ساندتني، سواء الدولية ك«أمنستي»، والتي منذ تأسيسها سنة 1961 وهي تدعمني، و«أطاك» الدولية، ولا أنسى طبعا أبناء بلدي الذين أعتز بهم وأنا فخور بهم، ولأول مرة أسجل تضامن خصومي أيضا معي، وهذا ما أثار إعجابي، أما الصحافة الحرة فأحييها وأشد على أيديها في ما قامت به، والصحافة الحزبية، التي رغم تقاعسها مدة طويلة، اضطرت إلى أن تعبر عن رأيها وتطالب بإطلاق سراحي، فأشكر الجميع على مواقفهم النبيلة، وأشكر جميع التنظيمات التي تضامنت معي.