من آن لآخر يفجع المصريون بحادثة كبيرة تودي بحياة العشرات من الناس الأبرياء إما بالموت غرقا مثل حادث العبارة المشؤوم أو عبر حوادث الطرق اليومية التى أصبح ضحاياها بعشرات الآلاف، دون أن يسعى أحد لوقف هذه الجريمة الكبرى بحق الشعب المصري، لن أتناول الإحصاءات غير الرسمية التى تبلغ أرقامها الضعف أو أكثر مقارنة بالإحصاءات غير الرسمية، ولكني سأبقى في إطار الإحصاءات الرسمية وهي مرعبة ومخيفة بكل المعايير، ففي أعقاب الحادث المؤلم الذي وقع لجنود الأمن المركزي على طريق مصر الإسكندرية الصحراوي في السابع عشر من مارس الماضي ولقي فيه 23 جنديا حتفهم بينما أصيب عشرة آخرون فتح باب النقاش في مجلس الشعب المصري حول حوادث الطرق وقتل المصريين في الشوارع، والعجيب هو أن أكثر المتحدثين انتقادا للحكومة المصرية وأدائها كانا اثنان من أقطابها، الأول هو رئيس ديوان رئيس الجمهورية الدكتور زكريا عزمي والثاني هو كمال الشاذلي، أحد أقطاب الحزب الوطني البارزين، أما الدكتور زكريا عزمي فقد كشف عن إحصائية جديدة لقتلى الطرق في مصر وحمل الحكومة المصرية المسؤولية عن مقتل 73 ألف مصري وإصابة مائة ألف خلال عام واحد جراء حوادث الطرق، هو عام 2007، وقال عزمي إن الحكومة عجزت عن توفير الطرق الآمنة أو التصدي لعبث الصغار بأرواح المواطنين عبر قيادة سيارات ذويهم، وعندما يتصدى لهم رجال المرور يرد الصبي: «إنت مش عارف أنا ابن مين؟». أما كمال الشاذلي فقد أعاد أغلب أسباب حوادث الطرق إلى غياب صيانتها وطالب بالتصدي للسباقات التي ينظمها الشباب المستهترون، كما تحدث مساعد وزير الداخلية ووزير الشؤون البرلمانية عن قانون المرور الجديد، لكن هناك إجماعا على أن المشكلة في مصر ليست في القوانين على الإطلاق وإنما في تطبيقها، فقد أبلغني مسؤول أمني كبير أن بعض ضباط الشرطة أصبحوا يخشون تطبيق القانون على المخالفين بسبب تفشي الفساد والمحسوبية، لكن الفساد والمحسوبية وصلا إلى حد قتل عشرات الآلاف من المصريين في الشوارع دون أن يكون هناك رادع، لاسيما وأنه في حالة ثبوت حالة القتل الخطأ فإن دية المصري أقل من قيمة أي نوع من الماشية، ولهذا فإن المصريين يستهترون حتى في أمثالهم بدية الإنسان فيقولون «اللي تعرف ديته اقتله»، وقد راجعت بعض حوادث الطرق المرعبة التي وقعت في مصر خلال الأشهر القليلة الماضية فوجدت أن القتلى هم من كل فئات المجتمع وأعماره، حتى إن أحد الكتاب من غيظه تساءل «ماذا لو أطاح اللوري بسيارة رئيس الوزراء فحوله جثة هامدة ممدة مغطاة بالصحف على أرض الطريق؟»، وهذا ما يحدث عادة للمصريين في حوادث الطرق، فهؤلاء القتلى بينهم أطباء ومهندسون وعلماء ومن كل طبقات وفئات المجتمع، لكن الأكثر ألما هو عدد أطفال المدارس الذين يقتلون تحت عجلات السيارات المسرعة كل عام، حيث أن الطرق لاسيما في القرى تحولت إلى قبور مفتوحة للأطفال من طلبة المدارس، وقد قرأت تفاصيل حوادث مفجعة قتل فيها عشرات التلاميذ الصغار وهم لم يعشوا الحياة بعد، وإذا بقيت في إطار الحزب الوطني الحاكم في مصر والذي يتهم حتى من قبل أتباعه بأنه سبب البلاء الذي يعيش فيه المصريون، فقد نشرت لجنة النقل في الحزب الوطني تقريرا في شهر فبراير الماضي قالت فيه إن السيارات وا لعنصر البشري يتحملان 73% من أسباب حوادث الطرق في مصر، في ظل جهل كثير من السائقين بقوانين المرور في مصر، وأن الحوادث على الطرق الزراعية ضعف عدد الحوادث على الطرق الصحراوية وأن تقليل السرعة داخل المدن من 50 إلى 30 كيلو مترا في الساعة يمكن أن يقلل نسبة القتلى من 80% إلى 8%، وقال التقرير إن حوادث الطرق في مصر كلفت الاقتصاد المصري خلال عام 2007 وحده خسائر مقدارها ملياري جنيه، وهو ما يعادل 1,5% من إجمالي الناتج القومي، هذه شهادة الحزب الوطني وليست شهادة معارضيه ومع ذلك يتواصل القتل كل يوم للمصريين في الشوارع دون أي رادع وتحت رعاية الحزب الوطني وحكومته. أذكر أني قبل أربعة أعوام ذهبت لتجديد رخصة قيادتي من إحدى إدارات المرور فأخبرني الضابط الذي كان يقوم بتجديد الرخصة أن مدير الإدارة علم بوجودي ويدعوني إلى فنجان من القهوة في مكتبه، لم أمانع وحينما جلست مع الرجل فتحت معه موضوع الفوضى المرورية القائمة في الشوارع والطرقات وقتل الناس في الشوارع، حيث كان هناك حادث جماعي مؤلم أودى بحياة العشرات من الناس على إحدى الطرق آنذاك، فإذا بالرجل يفتح لي قلبه وهو يعتصر ألما فهو لم يكن مجرد مدير إدارة مرور وإنما كان من العلماء البارزين في مجال الطرق والمرور، فهو يحمل درجة علمية في إدارة الطرق والمرور ويحضر مؤتمرات دولية وله أبحاث لحل أزمة المرور في مصر أهداني بعضا منها، وقال لي: «إن المشكلة باختصار هي في وجود قرار سيادي، هذه السيارات واللوريات التى تخضع لأية صيانة وتقتل الناس في الشوارع هي نتاج سياسة التسيب والمحسوبية و «الظروف الاجتماعية». باختصار فهمت من الرجل أن الدولة تسمح لهذه السيارات القاتلة أن تحصد أرواح الناس في الشوراع، حتى تتجنب ثورة السائقين وأصحاب السيارات، وأن رفض الترخيص من قبل إدارة المرور إذا أردات تطبيق القانون يعني استثارة هؤلاء السائقين ضد النظام، ولنا أن نفهم من خلال هذا وجود هذا الكم الهائل من السيارات غير الصالحة للاستخدام الحيواني وليس الآدمي وهي تجوب شوارع القاهرة وشوارع المحليات تقتل الناس كل يوم في حوادث مفجعة، حيث يتباكى الجميع وعلى رأسهم أقطاب الحزب الوطني دون أن يتحرك أحد لوضع منظومة توقف هذه الجرائم، ولتأكيد عدم وجود إرادة سياسية أو رغبة لوقف هذه الجرائم بحق الشعب المصري فإني أذكر هنا شهادة أخرى هامة أخبرني بها أحد الأطباء المصريين المقيمين في النمسا، حينما كنت هناك لإجراء حوار في برنامجي التليفزيوني «بلاحدود» مع المستشار النمساوي عام 2004، أنه أراد أن يخدم بلده مصر فعلم في بداية التسعينيات أن وزارة الصحة النمساوية، ضمن مشروعات دعم البلدان النامية، قررت أن تهدي بعض الدول مشروع الإسعاف الطائر للمساهمة في إنقاذ حياة وأرواح الذين يصابون في الحوادث على الطرق عبر نقلهم بالطائرات المروحية إلى المستشفيات حيث تشير الإحصاءات إلى أن النسبة الأغلب من المصابين تموت بسبب عدم الرعاية والنقل إلى المستشفيات، وجاء إلى مصر مع وفد نمساوي وظلوا هنا لأكثر من أسبوع وهم لم ولن يكلفوا الحكومة المصرية شيئا لكنهم عادوا بخفي حنين وكله أسف وإشفاق على ما آل إليه مصير بلده، حيث أن وزارة الصحة هنا لم تعط الأمر أي اهتمام، بل ووضعوا العراقيل أمامهم رغم أن النمساويين جاؤوا لإهداء المشروع لمصر حتى بالتدريب وطائرتين مروحيتين. إن وصول عدد القتلى في حوادث الطرق إلى 72 ألف قتيل، حسب تصريحات أحد أقطاب الحزب الوطني، هو جريمة كبرى بحق مصر وشعبها وإذا كان المتسببون فيها يأمنون الحساب في الدنيا فإن الله لا يظلم الناس شيئا.