يشبّه الكثيرون مدينة روما بطائر الفينق الذي يحترق وينبعث إلى الحياة من رماده. هكذا كانت روما دائما على مدى آلاف السنين. كانت تصل أوج قوتها ومجدها وجبروتها تحت ظل قياصرة مختلفين في المزاج وفي القوة، أحيانا كانت تحكم روما العالم، وأحيانا كانت تدافع عن نفسها خلف الأسوار كما لو كانت لقمة سائغة في يد الأعداء. وعندما يبلغ مجد روما أوجه، فإن حمق بعض القياصرة كان يصل حد إحراق المدينة، كما فعل القيصر نيرون سنة 64 ميلادية، الذي أحرق المدينة وجلس في نافذة قصره يتأمل النيران المشتعلة فيها وهو غارق في متعته السادية. خلال ذلك الحريق الكبير الذي استمر تسعة أيام كاملة، اعتقد أهل روما أن مدينتهم لن تنهض من جديد، وأن اسمها سيختفي من بين مدن العالم، وأن الإمبراطورية الرومانية ذهب ريحها ودخلت ذكريات التاريخ، غير أن روما انبعثت من رمادها من جديد وأصبحت مرة أخرى واحدة من أجمل وأعرق وأقوى مدن العالم. إنها مدينة غريبة بامتياز. مآثر قياسية توجد في روما أغزر وأكثر المآثر في العالم، ونادرة هي المدن التي تنافسها في ذلك، مثل أثينا اليونانية أو بكين الصينية. هكذا تعيش روما واقعين متوازيين، الواقع الأول هو كونها مدينة عصرية بامتياز وتقدم لزوارها كل ما يحتاجونه من فضائل الحياة العصرية، ومساوئها أيضا. والواقع الثاني هو أنها مدينة تاريخية وتعود بزائرها آلاف السنين إلى الوراء. وهذا التمازج يصيب أحيانا بالدهشة لأن مآثر روما لا توجد في أمكنة منعزلة أو بعيدا عن المدينة العصرية، بل إنها توجد في قلب المدينة النابض، حيث إن هذه المآثر تجاور ناطحات السحاب والطرق السريعة. من بين مآثر روما قلاعها المحصنة الموجودة في عدد من مناطق المدينة، وأقواس النصر التي تؤرخ لتلك الحقب السحيقة أيام كانت الإمبراطورية الرومانية تملك العالم، وكنائسها ومعابدها التي كانت تخرج منها القرارات السياسية أكثر مما تخرج منها التعاليم الدينية، وقصورها التي كان يسكنها قياصرة أشداء لم يكن مقامهم في الحكم يزيد أحيانا عن عام واحد بفعل الاغتيالات والمؤامرات المتواصلة داخل القصور، ومسارحها وأماكنها العامة التي يجتمع فيها آلاف الرومانيين للاستمتاع بتلك الرياضات العنيفة مثل المصارعة القاتلة بين عبيد أشداء، أو مصارعات متوحشة ما بين عبيد وبين أسود قوية وجائعة، وغالبا ما كانت هتافات السعادة والانتشاء ترتفع في السماء عندما تراق الدماء، أو ينهش الأسد جسد ضحيته. روما الفن والجمال يقترن اسم روما أيضا بالرومانسية، وهذا ما يجعلها مدينة للحالمين والعشاق. وكثير من الأزواج من مختلف مناطق العالم يفضلون قضاء شهر العسل في هذه المدينة، وكأنهم يتفاءلون بتاريخها الرومانسي وحكاية روميو وجولييت الشهيرة، لكن روما لا تضمن لكل العشاق والمتزوجين أن تكون حياتهم سعيدة وطويلة ومليئة بالحب والحنان، المهم هو أن روما تملا خزائنها بأموال هؤلاء المحبين، وبعد ذلك عليهم أن يتدبروا أمورهم. روما أيضا عاصمة للفن، وكانت على مدى مئات السنين تتوفر على مدارس وجامعات لتدريس الفنون من كل الأنواع، بدءا بالرسم والتشكيل، ومرورا بالتمثيل والمسرح، وانتهاء بكل هذه الفنون العصرية التي لا أول ولا آخر لها. ويوجد في روما واحدة من أشهر الجامعات في العالم، وهي «جامعة روما» التي درس فيها مئات الآلاف من الإيطاليين والأجانب، والتي كانت واحدة من أقدم الجامعات في العالم، حيث اقترن إنشاؤها مع بداية خروج أوروبا من عصور الظلام والجاهلية. توجد في روما أيضا أكاديمية الفنون الجميلة والأكاديمية الوطنية للرقص والأكاديمية الوطنية للفن الدرامي ومعهد سانتا سيسيليا للموسيقى والمركز الوطني لترميم الآثار الفنية وقاعة كبيرة وجميلة لفن الأوبرا وأزيد من عشرين مسرحا وحوالي عشر قاعات خاصة بالاحتفالات والعروض المهمة، ومجمعا سينمائيا تم بناؤه أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، أي عندما كان الدكتاتور موسوليني في الحكم، وهذا المجمع ساهم بشكل كبير في النهضة السينمائية التي عرفتها إيطاليا منذ تلك الفترة إلى الآن، حيث أصبحت البلاد رائدة عالميا في هذا المجال، وأنجبت مخرجين وممثلين من طراز رفيع، ونافست استوديوهات هوليود الأمريكية بقوة وباحترافية كبيرة. روما تتوفر أيضا على عدد كبير من المتاحف التي تؤرخ لكل المراحل التي تعاقبت على المدينة والحضارات والأجناس والثقافات التي مرت منها، إضافة طبعا إلى النكبات التي تعرضت لها. ومن بين هذه المتاحف متحف الكابيتولي ومتحف فيلا جوليا ومتحف مايكل أنجلو والمتحف الروماني ومتحف بورغيز. وربما كانت هذه المتاحف وغيرها مجرد أشياء زائدة، لأن روما في حد ذاتها متحف كبير. كل هذه المعالم التاريخية تتجاور مع مدينة عصرية تضم الكثير من الساحات الواسعة والنافورات المبهرة والأسواق التي تصيب بالدهشة، والتماثيل المنتصبة في كل مكان وكأنها تذكّر الزوار بأن لا شيء يغادر روما، وأن كل تاريخها وحضارتها وشخصياتها وقياصرتها ومحبوها وأعداؤها سيظلون إلى الأبد بين جنباتها، وهو درس بليغ تقدمه روما إلى كل مدن العالم.