عدت مؤخرا إلى بعض أعداد مجلة «الكرمل»، فاستوقفني في إحداها ملف حول الشاعر تشارلز سيميك charles simic يوغسلافي الأصل، أمريكي النشأة، ملف هو، في الأصل، ديوان شعري بعنوان «العالم لا ينتهي»، مذيل بمقدمة لنفس الشاعر من ترجمة حسين الخطيب. ما أثارني حقا هو ذاك التماسك بين المقدمة وأشعار المجموعة، تماسك يظهر أن المبدع يتموقع في نقطة ما على وعي حاد بين المفهوم والخلق الإبداعي. يطرح الشاعر هنا مفهومه لقصيدة النثر؛ فهي، بالنسبة إليه، مطاردة محمومة لشيء في رؤوسنا فقط، وبالتالي فنحن نطارد ذواتنا للابتعاد عن أنفسنا بتحرر كامل عن العقل والمخيلة؛ حتى يتأتى تأسيس خلق أدبي خالص يغرف من مخيلة حرة تستند إلى الغنائية (كانكسار في الزمن) وعلى السردية كتدفق شبيه بالنثر لكن بخصائص، منها الاقتصاد في اللغة والتكثيف... قلت: لا بأس بعد الجلوس مع هذه المقدمة... وبدأت سفري مع قصائد المجموعة، قصائد لا تسلمك نفسها ببساطة؛ وهذا يعني أنها مركبة تركيبا ونظرا: تنطلق بك من اليومي، فتوغل في دروب مفتوحة على داخل لا ينتهي. إن اليومي في هذا الديوان ينطوي على خلفية ثرة من التأمل والغوص، انعكس ذلك على اللغة أو قل النحت الميال إلى الحرية في القول والاحتمال. تقرأ القصائد المرة تلو الأخرى، وفي كل قراءة تتفجر أمامك، فتتمدد وأحيانا تنكمش وتنغلق كعلبة مكتظة من الداخل... أعود وأقول إن المخيلة الحرة والخلق الخالص.. المصطلحات التي ينادي بها تشارلز معبأة بمقروء عميق ومتشعب. وهو ما انعكس على الكتابة الشعرية لديه، فتعددت كخلق وكينونة تعمق الحياة والوجود. إنها قصائد نثر مؤلمة وعسيرة التكوين كطبقات (من السفر اللزج) بإمكانها صد ضربات النقاد وعماءهم النظري. الدافع إلى هذا القول غير القطعي هو الانفتاح المتسيب أو الفج للقصيدة بجيدها العربي، ويظهر ذلك جليا في التوصيف البارد للعلاقات والتناقضات اليومية، تكون معها الكتابة كأداة تسجيل خالية من الإبداع ومستوياته، وهو ما يعرض القصيدة للاستلاب والإقحام تحت سيطرة الأوهام وسلطة النظرية، أو بهدف خلق أدب مماثل لذاك المترجم بلغة باردة. وفي نماذج شعرية أخرى، قد يتحقق هذا الانفتاح من موقع الكتابة دون استلاب أو ذوبان، ويظهر ذلك جليا في امتصاص اليومي ومحاولة فهم روحه وجدله الخفي، وبالتالي تحويله إلى قيم وصيغ جمالية تتغذى على دفء التفاصيل وسحر حكيها المنثور وشاعرية أمثالها... فبهذه الكيفية من الإصغاء والتفاعل الخلاق تمنح للقصيدة جماليات متربة، أي تقطر بقيم موغلة تؤسس للخصوصية، أعني الأدب أو الأثر الأصيل الذي ينهض على طريقة في الاشتغال وعلى رؤية ذات أفق، هذا فضلا عن حس دقيق بالمرحلة . الانفتاح على اليومي يخلق للقصيدة دفء انتسابها ونسبيتها الشعرية أيضا، وبالتالي تموقعها الإنساني -دون نبوة مدعاة أو قفز معاق إلى الأمام -في المكان والزمان. آنذاك، يمكن تقديم حفريات واقع، عبر الأدب إلى جانب الأبحاث السوسيولوجية والدراسات الميدانية الماسة، لتخطي حالات ووضعيات مختلة بما فيها الوضعية الثقافية. واضح أن هذا اليومي يدخل في إطار السهل الممتنع الذي لا يقتضي بلعا واستهانة، بل تفاعلا محموما وعراكا للإستيعاب أولا، والكتابة ثانيا... لا أستغرب، إذن، لحال بعض القصائد التي تغطس في هذا اليومي (المقعر بكامل ظلاله التي تضل عوض أن تظلل) دون بوصلة، فتتحول إلى مزابل تنضاف إلى مزابلنا الراسخة.