تقرير البنك الدولي حول التعليم والتربية في العالم العربي كان صريحا في كون دول مثل الأردن وتونس وسوريا والجزائر تتقدم، بينما يتأخر المغرب سنة بعد سنة في ما يخص مؤشرات الجودة والولوج والمسؤولية والحكامة ومحو الأمية. أما تقرير «اليونيسكو» حول التربية للجميع، فقد وضع المغرب في الدرجة 111 بين 129 دولة شملتها الدراسة. أما بخصوص برنامج الأممالمتحدة للتنمية، فإن ترتيب المغرب اندحر هذه السنة إلى 126 نظرا لثقل المعرفة والتربية في بناء هذا المؤشر، أضف إلى هذا أنه على مستوى مؤشر الحرية الاقتصادية لازال المغرب يصنف ضمن الأمم التي هي «عامة غير حرة» مقارنة بالبحرين والسعودية وغيرهما من الدول العربية التي تعتبر «نسبيا حرة». أما على مستوى ترتيب البنك الدولي الخاص بمؤشرات الأعمال العشرة، فلازال المغرب يتخبط في مستويات دون طموحات مواطنيه. الغريب أن هذه الرتب حصل عليها المغرب في وقت وضع فيه إصلاحات مثل ميثاق التربية والتعليم ومبادرة التنمية البشرية، ودشن فيه مشاريع استثمارية وخصص موارد هامة لقطاعات استراتيجية (50% من الميزانية للقضايا الاجتماعية و25% لقطاع التعليم). فإما أننا نكذب على أنفسنا، أو أننا نحسن الكلام والخطاب ولا نكترث بالواقع، أو أننا كلنا متواطئون لكي لا نقول الحقيقة. هذه قضية سوسيولوجية يجب أن ينكب عليها علماء الاجتماع لكي نفهم هذا الانفصام بين القصد والفعل، بين الحلم وكابوس الحقيقة. ما يتفق عليه الخبراء على المستوى الوطني والدولي هو أننا نضع سياسات جريئة على الورق، ونخصص لها موارد هامة، ولكن تنقصنا النجاعة والفعالية والتتبع ورصد المشاكل وإيجاد حلول لها، سواء على مستوى الحكومة أو المنتخبين المحليين أو السلطات الترابية أو المصالح الخارجية أو جمعيات المجتمع المدني أو النقابات أو مصالح وزارة التربية الوطنية من الأكاديمية إلى المدرسة. وقد تم مؤخرا وضع برنامج على مستوى وكالة التنمية الأمريكية لتحسين أداء المصالح الحكومية في دول لها سياسات لا بأس بها، ولكن فعاليتها متدنية إلى أسفل سافلين، ولم يتردد العاملون في اختيار المغرب من ضمن هذه الدول لأنه يعاني من مرض «سياسات جريئة وفعالية منعدمة». الغريب في الأمر أن كثيرا من الأصوات ارتفعت في السنوات الأخيرة لتحذر من أن الإصلاح، خصوصا إصلاح المنظومة التربوية، ينحو عكس الأهداف التي سطرت له. ولكن الكثير من المسؤولين كانوا إما يتجاهلون ذلك أو ينعتون من يدق ناقوس الخطر بأنه يحاول ضرب الإصلاح أو ينشر اليأس أو يسيّس قضية يجب أن تبقى بعيدة عن الأهداف السياسوية الضيقة، أو له أهداف انتخابوية أو يركز فقط على النصف الفارغ من الكأس. من المؤسف أنه حين يشير الخبراء المغاربة إلى وضع متفاقم، كثيرا ما يتم تجاهلهم من طرف الدولة، وحين تأخذ مؤسسة نفس المعطيات والتحليلات والاقتراحات التي تصدر عن الفعاليات الوطنية وتعيد إنتاجها في قوالب جديدة، يتم التكبير والتهليل لها وكأنها وحي منزل. ما يتجاهله الكثير هو أن أغلب التقارير الدولية تعتمد على الخبرات الوطنية أولا وأخيرا، سواء ما يتعلق بالتحليل أو التقييم أو اقتراح الحلول. إنها بضاعتنا ترد إلينا في علب جديدة وينظر إليها من طرف أصحاب القرار وكأنما تم الوصول إليها لأول مرة في التاريخ. الحقيقة أننا لم نتوفق في الإصلاح، بل ورجعنا إلى الوراء في ما يخص القضايا التربوية، مما أثر سلبا على مؤشر التنمية البشرية. قبل الحديث عما يجب فعله لتفادي الكارثة علينا عن أن نحدد من المسؤول عن الوضع الحالي، ليس من باب إسقاط التهمة والبحث عن كبش الضحية، ولكن من باب تفادي السقوط في نفس الأخطاء ونفس المسببات. مسؤولية الحكومة بعد سنوات حكومة اليوسفي المتسمة بالتردد والحسابات السياسوية الضيقة بين إسماعيل العلوي وعبد الله ساعف، والبدايات المتعثرة لوضع الأكاديميات وعدم حسن اختيار بعض الساهرين على تدبيرها، والتأخر الشديد في إصلاح البرامج وعدم الاكتراث بقضايا الجودة، جاءت سنوات كنا نتمنى أن تكون الانطلاقة الحقيقية للإصلاح مع حكومة جطو سنة 2002، لكن الأمل خاب، حيث إن الوزارة الوصية، تحت إمرة حبيب المالكي، ركزت على الخطاب بدل التغيير الفعلي على أرض الواقع، وعلى التوافق المقنّع بدل مواجهة المشاكل وإيجاد حلول لها. صارت الوزارة عبارة عن إعادة إنتاج لمجلس الشباب والمستقبل سيئ الذكر. ما ميز هذه الفترة (2002-2007) هو الخطب المعسولة من طرف وزير يغطي الشمس بالغربال، بينما الفساد يدخل المنظومة التربوية من بابها العريض، مع استمرار تجاهل الأسباب الحقيقية للإصلاح. لقد كان التعليم مريضا إبان حكومة اليوسفي وقبلها، ولكن تدبير المالكي لهذا الملف جعله يحتضر. كاد المعلم.. المسؤول الثاني هم رجال التعليم ونساؤه. وفي هذا الإطار لا يجب الخلط، هناك عدد لا بأس به من هؤلاء يقومون بواجبهم رغم الظروف الصعبة من اكتظاظ وعنف وتدني المستوى المعرفي والأخلاقي عند التلاميذ، وغياب التأطير والتحفيز على المستوى الحضري، والبعد والعزلة والأقسام متعددة المستويات، وظروف العيش والتنقل القاسية على مستوى البادية. إن هؤلاء هم الذين بجدهم وتفانيهم يحاولون ألا تصيب نظامنا التعليمي السكتة القلبية. في المقابل هناك عدد لا يستهان به من رجال ونساء التعليم يعلنون للتلاميذ أن من أراد التعلم فيأتي إلى حصص المراجعة، أو يقضون معظم وقتهم يقرؤون الصحف ويحللون ويخططون لوقفات نقابية، غير مكترثين بما يتقاضون أجرا عليه. من لم يصدق فليسأل الآباء، ومن لم يصدق فليسأل المعلمين الذين يحاولون أن يسبحوا ضد تيار الفساد والرشوة وانعدام الأخلاق. أحد مدراء الأكاديميات صرح بأن 40% من المعلمين والمعلمات يدلون بشواهد طبية تلو الأخرى للانصراف للتدريس في المدارس الخصوصية أو المراجعة أو تدريس الرياضيات والفيزياء لأبناء الأثرياء. هناك أساتذة للرياضيات يقضون معظم وقتهم ينتقلون بين الفيلات يقدمون دروسا خصوصية تاركين أقسامهم للمدراء والحراس، محتمين بشواهد طبية يكتبها لهم أطباء انعدم ضميرهم. في أحد أقاليم الشمال، انقطع تلاميذ قسم كلهم عن الدرس ومع ذلك استمر تسجيلهم وتم نقلهم من مستوى إلى آخر حتى تبقى المعلمة في مكانها تتقاضى أجرا عن قسم شبح. نائب إقليمي صرح بأن عدد الأيام التي يتغيبها المعلمون والأساتذة في السنة تناهز 40 ألف يوم عمل. أما الغش فحدث ولا حرج، إنه الوسيلة الوحيدة التي يغطي بها رجال التعليم على عدم قيامهم بالواجب. ما يقوم به رجال التعليم من تغيب ولامسؤولية وانعدام الضمير هو جريمة في حق الوطن وحق الأجيال القادمة. أين نحن من المعلم الذي كان قدوة في المدرسة وخارجها؟ إنه صنف في طور الانقراض. النتيجة هي أننا البلد الوحيد في العالم الذي قد يصل فيه التلميذ إلى آخر الابتدائي دون أن يتعلم ولو أبجديات القراءة والكتابة. إنه إنجاز رائع يستحق أن يهتم به أصحاب الغينيس وكذا «اليونيسكو» وغيرها من المنظمات الدولية.