في الندوة الهامة التي احتضنها فضاء المعرض الدولي للكتاب والمعنونة ب«قضايا التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات» والتي أدارها توفيق بوعشرين وشارك فيها كل من بنسالم حميش وعبد الله ساعف وعبد الحي المودن وكمال عبد اللطيف، أجمعت المداخلات على أهمية الحفاظ على مبادئ الحرية والتنوع وركوب قطار الحوار البيني ومع الآخر لمعالجة المشكلات الناجمة عن حالة الاحتباس العام التي تسم المشهد الثقافي المغربي وتجلياته السياسية. اعتبر توفيق بوعشرين في الأرضية التمهيدية لهذه الندوة الحوارية التي حضرها جمهور كبير، أن موضوع التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات ليس موضوع النخبة المثقفة المنزوية في مكاتبها المكيفة، بل هو موضوع حيوي وجدي، لأن الثقافة اليوم هي مادة أساسية لصياغة الخطابات السياسة الدولية، والمتحكمة في ثنائية الحرب والسلم في العالم، وليس أدل على ذلك من هيمنة الثقافة الأمريكية على غيرها من ثقافات العالم بفضل السطوة الأمريكية على وسائل الإعلام. واتخذت المداخلات طابعا حواريا، وركزت على القضايا المفهومية، بينما نحت الردود إلى نوع من التشخيص، بالنزوال إلى الأرض، ومباشرة قضايا ومشكلات الثقافة المغربية في تجلياتها السياسية والفكرية والتي تعترف بالتنوع على مستوى الخطاب دون أن تمارسه على مستوى اليومي المباشر. وفي هذا الإطار أكد بنسالم حميش أن موضوع الندوة يأتي في سياق موضة الكلام عن قضايا من هذا القبيل، وهي شائعة في وسائل الإعلام وفي الندوات وفي المؤتمرات وفي عمل الكثير من الأندية والمنظمات، ورأى أن المحصلة النهائية ضعيفة وليست ذات بال، وأشار حميش إلى أن وجهة نظره متأتية من خبرة طويلة في مباشرة مثل هذه الموضوعات ومن مشاركات في ندوات عربية ودولية طالما اتخذت هذا العنوان موضوعا لها. وطرح حميش العديد من الأسئلة من بينها: هل يوجد هناك حوار قطري ناجح؟ ولماذا يفشل الحوار العربي العربي؟ وهل نستطيع أن ننجح حوارا مع الغرب؟ وما جدوى هذا الحوار غير المتكافئ؟ وانتهى إلى أن الحوار لا يمكن أن ينجح إلا إذا صفينا بؤر الصراع وتجاوزنا منطق الفكر الواحد ودعمنا الآليات التي يمكن أن تسهم في هذا الحوار، وعبر عن اعتقاده أن الحوار بين الثقافات ممكن دائما، طالما أن الدعاة الحقيقيين لهذا الحوار يتحلون بالصدق والمسؤولية الأخلاقية والعلمية في ندية تامة وبلا وصاية وبعيدا عن منطق الهيمنة. وقال حميش إنه ليس هناك حوارا بلا متحاورين، وأن بعض الأطراف بحكم مركزها وقوتها تصبح عمياء كما هو الأمر بالنسبة للسياسة الأمريكية التي يتحكم فيها المحافظون الجدد، والتي أنتجت على الصعيد الدولي العديد من المقولات التي تعزز منطق الهيمنة والعنف ومن بينها مفاهيم إمبراطورية الشر والاحتواء والدول المارقة، وهي مفاهيم ثقافية وسياسية لا تساعد مطلقا على بناء حوار دولي حقيقي . وأشار حميش إلى أن الحوار يقتضي تعزيز التنوع الإيجابي وليس السلبي، لأن هذا الأخير مدمر وقاتل. وقال: «التنوع من دون تواصل هو خراب للروح وللمجتمعات، وإن المدخل الحقيقي في المغرب هو إعادة النظر في المسألة الثقافية، وهي مسألة جدية لم تطرح بما يكفي من الوضوح المعرفي إلى حدود الآن، وبدون صياغة للمسألة الثقافية لا يمكن أن يكون هناك لا وطن ولا قومية ولا أي شيء آخر». من جانبه، تحدث عبد الحي المودن عن أنه يجب الانتباه إلى الجانب الإيديولوجي الطاغي على كل حديث عن التنوع الثقافي والحوار بين الثقافات، بالنظر إلى معطيات السياق الدولي، وإلى سلسلة المفاهيم التي تنتج في هذا الباب. وقال إن الحديث العام يدعونا أيضا إلى التخصيص، وإلى الحديث عن الحالة المغربية، حيث يجري هناك تفاعل بين المغاربة وبين العالم أكثر من أي وقت مضى، فحوالي أكثر من 3 ملايين من المغاربة موجودون في المهاجر الأوروبية والأمريكية وأكثر من 7 ملايين سائح يأتون على المغرب سنويا، وكل هذه المظاهر لم تخضع من طرف المختبر الفكري للتحليل في الوقت الذي يجري فيه حوار يومي في الكثير من أطراف العالم وفي الداخل، بين المغاربة وغيرهم وبين المغاربة وبعضهم البعض. وطالب المودن بضرورة الالتفات إلى الحوار الذي يجري في الحياة اليومية ويركز على القبول بالآخر وتركيز قيم التسامح، مشيرا إلى أهمية الدراسات السوسيولوجية في هذا المجال، ومنبها إلى أن السياق التاريخي الذي كان سائدا في الستينات والسبعينات هو غيره اليوم على المستوى الفكري، فالصراع الذي صاغته المنظومة الاشتراكية في صراع الطبقات هو اليوم ليبراليا صراع الثقافات ومن المحتمل جدا أن يتغير قطب الصراع إلى شيء آخر، في ظل الخطاب الإنسي الجديد والتركيز على الكونية والعولمة والبدائل المطروحة في الساحات الإقليمية، منتهيا إلى أن الثقافة الأمريكية السائدة اليوم تدمر كل محاولة تجاه حوار بين الثقافات. وشدد عبد الله ساعف على الطابع السياسي لموضوع الحوار والتنوع الثقافيين، مركزا على أن الحديث عن الموضوع ينقلنا بشكل مباشر إلى المجال السياسي، فهناك الكثير من الأشياء التي تطرح اليوم يجب التدقيق فيها والتركيز على الأساسي وتصويب الهدف بعيدا عن الأطروحة الثقافوية وأطروحة صدام الحضارات، وهي أطروحات يراها ساعف تحتوي على تعميمات ومقاربات تتجاوز الوقائع، ذلك ان في غياب كتل متصارعة ومكتملة الذات، وفي ظل هيمنة حالات على المشهد العام يجب التفكير في كل حالة على حدة، وتفصيل الإطار المؤسساتي الذي ظهرت فيه. وعبر ساعف عن ضرورة طرح الأسئلة الجيدة التي بدورها تقود إلى الإجابات الجيدة، مشيرا إلى أن الهدف في كل حوار هو الاندماج في إطار التعدد، مع إحلال قيمة الحرية القيمة العليا، فكل تنوع ثقافي لا يعني بالضرورة معيارية أخلاقية، كما أن كل النزاعات التي يعرفها العالم ليست بالضرورة أمنية، وبالتالي فإن العسكرة ليست أفقا حتميا، وبالتالي تتحول حرية التعبير إلى الأداة الأساسية للانخراط في الصراع ضد الانغلاق، وهذا لن يتم في اعتقاد ساعف إلا بحرية الرأي والتعبير وبصحافة حرة وغير مستعلمة وغير موظفة ورفض الخطابات المسبقة والابتعاد عن تجريم الآخر. وانتهى إلى أن المبادرات الموجودة تعاني من الخلل في التعامل مع الحضارات كوحدة لا تعددية فيها. ومن خلال تجربته الشخصية أكد كمال عبد اللطيف أن الحوار مع الغرب غالبا ما يتم دون أن يؤدي إلى نتائج كبيرة، مستشهدا في هذا المجال بتجربته المباشرة في هذا الموضوع منتيها إلى أن الغرب أو المثقفين في الغرب يملكون عنا أفكارا جاهزة ولا يبذلون أي جهد من أجل معرفتنا من الداخل وعن قرب، حتى في اللحظات الكبرى التي يدعون فيها إيمانهم بالحوار والتعدد الثقافي وحق الثقافات في الوجود. واعتبر أن معيقات كثيرة تحول دون أن يكون الحوار جديا، ومن بين هذه العوائق الأفكار الجاهزة على العالم العربي الإسلامي وتعميم مفاهيم الإرهاب والتطرف وغياب التكافؤ بين الأطراف، وهيمنة ثقافة الصورة التي تصنع الأمزجة والأذواق والسلوكات والتي سيكون لها أثر كبير على الأجيال الناشئة. وخلص كمال اللطيف إلى أن حالة الاحتباس الثقافي التي يعيشها العالم العربي والمغرب على وجه الخصوص تكمن في تأجيل الإصلاح السياسي وفي نخبة تضحك على ذقون العباد. جدية الندوة وقيمة المدعويين والحضور الكبير عكسا «كبتا» في الحوار بين الفرقاء المغاربة وحاجة إلى «طريق سيار» من الكلام وإلى أن ينظر المغاربة مليا في وجوه بعضهم البعض في الحيز الضيق المتاح في زريبة حرية التعبير حتى لا يتحولوا إلى أكباش يسهل الإجهازعليها بسكين واحدة.