ما حدث على الحدود المصرية-الفلسطينية يوم أمس من تبادل لإطلاق النار، وسقوط قتيل فلسطيني، ومصابين من الجانبين، أمر مؤسف بكل المقاييس، ويتعارض مع مصلحة الطرفين، ولا يخدم إلا بعض الجهات الحاقدة التي تعمل على تسميم العلاقة الأخوية العميقة الجذور بين الشعبين المصري والفلسطيني. لا يمكن أن نصدق أن فلسطينيا يمكن أن يصوب بندقيته باتجاه جندي مصري، أو العكس، خاصة بعد توصل المسؤولين لدى الطرفين إلى اتفاق يسمح بإعادة فتح معبر رفح وتسهيل حركة المرور في الاتجاهين. حالة الفوضى التي سادت بعد اقتحام الحدود من قبل مئات الآلاف من الفلسطينيين الجائعين المحاصرين، لا يمكن أن تستمر إلى الأبد، ولا بد من نهاية لها، ولذلك كانت الخطوة المصرية بإغلاق الحدود، وسد الثغرات في الجدار العازل أمرا منطقيا، طالما أنها خطوة تنظيمية تليها خطوات أخرى تبقي معبر رفح مفتوحا في إطار ترتيبات جديدة تحفظ لمصر أمنها وسيادتها، وتحقق لأبناء قطاع غزة مطالبهم المشروعة، في الخروج من سجنهم الكبير في الوقت نفسه، بشكل كريم يحفظ لهم ما تبقى من آدميتهم. من المؤسف أن هناك قلة من المسؤولين في قمة السلطة المصرية تتحين الفرص، وتبحث عن الذرائع، لتشويه العلاقة التاريخية بين الشعبين المصري والفلسطيني، ومن غير المستبعد أن تستخدم أحداث تبادل إطلاق النار هذه، وسقوط جرحى في أوساط قوات الأمن المصرية، لشن حملة تحريض ضد الفلسطينيين، أو صب المزيد من الزيت على نيران الحملة الحالية التي بدأتها بعض الأقلام التي يتم تحريكها بالريموت كنترول من قبل جهات معينة تتباكى بطريقة مفتعلة على سيادة مصر وأمنها القومي، وهي التي تخلت عن هذه السيادة وعن هذا الأمن عندما روجت للتطبيع، وباركت خطوات المطبعين مع إسرائيل. الشعب الفلسطيني لا يمكن أن يتخلى عن مصر، أو أن ينكر جميلها، وتضحيات أبنائها، في خدمة قضيته، بل قضايا العرب جميعا، فدماء شهداء مصر كانت الأغزر على أرض فلسطين، وفي الحروب الأربع التي خاضوها من أجل استعادة الحقوق العربية المغتصبة. الذين أطلقوا النار على قوات الأمن المصرية من المشكوك أن يكونوا فلسطينيين، وهم على الأغلب مندسون في أوساط اليائسين المحبطين من إغلاق المعبر الذين تجمعوا في الجانب الآخر من الحدود. فقد شاهدنا قوات الأمن الفلسطينية التابعة لسلطة حماس في غزة تبذل جهودا خارقة لإعادة الجموع هذه، ومطالبتها بالعودة من حيث أتت احتراما للقرار الرسمي المصري بإغلاق المعبر. قطاع غزة مليء بالعملاء للأسف من مخلفات مرحلة الاحتلال، والأجهزة الأمنية الفاسدة السابقة، وهؤلاء يلعبون دورا كبيرا في تسهيل اصطياد الطائرات الإسرائيلية لقيادات المقاومة الميدانية، سواء بالإبلاغ عن تحركاتهم، أو استخدام مواد معينة لرش سياراتهم بحيث تتابعها الطائرات الإسرائيلية التي تزدحم بها أجواء قطاع غزة، وتقصفها لقتل من فيها. لن يكون مفاجئا بالنسبة إلينا أن يكون بعض هؤلاء قد تسللوا وسط الحشود الغاضبة من إغلاق المعبر، وأطلقوا النار على قوات الأمن المصرية في الجانب الآخر، لتصعيد حملة الكراهية ضد الفلسطينيين في أوساط الشعب المصري. المؤسف أن حملة التكريه هذه ضد الفلسطينيين من قبل بعض الأقلام المعروفة في الصحافة المصرية الحكومية، لا يمكن أن تنطلق بالشكل الذي شاهدناه إلا بتوجيه من جهات عليا، استاءت من التعاطف الشعبي المصري الكبير مع مأساة حصار قطاع غزة، والانتقادات الشرسة التي رافقت هذا التعاطف للسلطات المصرية المتواطئة مع عملية التجويع الإسرائيلية الظالمة للشعب الفلسطيني. نعلم جيدا أن الإعلام الرسمي المصري مرتبط مباشرة بمؤسسة الرئاسة، يتحرك بأوامر مباشرة منها، ووفق خطط مدروسة ومحكمة، هكذا فعل قبل وبعد اتفاقات كامب ديفيد، وهكذا يفعل حاليا لمنع التعاطف المصري الشعبي مع أبناء قطاع غزة الذين هم جزء أصيل من مصر وأمنها القومي بحكم العلاقة التاريخية والقانونية، والجوار الجغرافي. نشعر بالحزن الشديد لأن العلاقة المصرية بالقضية الفلسطينية باتت محصورة في معبر رفح، ومحور صلاح الدين الحدودي الذي لا يزيد طوله عن عشرة كيلومترات، رغم التضحيات الكبرى، والمقدّرة، للشعب المصري في فلسطين، والسبب في ذلك لا يعود إلى الفلسطينيين، وإنما إلى القيادة المصرية التي قزمت دور بلادها إلى هذه الدرجة المتدنية، بحيث باتت دول صغرى وهامشية تملك دورا أكبر من مصر، ليس فقط في القضية الفلسطينية وإنما في معظم القضايا الإقليمية الكبرى. فهذا الإعلام إذا كان حريصا فعلا على سيادة مصر وأمنها القومي عليه أن يسأل لماذا ينكمش الدور المصري كليا في القارة الإفريقية، وهو الذي كان طليعيا وقياديا، حيث كانت البعثات التعليمية المصرية تجوب القارة الإفريقية بأسرها، ويتقاطر القادة الأفارقة يوميا إلى القاهرة في حجيج سياسي شبه مقدس. يجب أن يسأل هذا الإعلام، الذي يصب سمومه على الجياع المحاصرين في قطاع غزة هذه الأيام، عن غياب أو تغييب مصر بالكامل عن أمن الخليج والوضع الراهن في العراق، وهي التي لولاها لما تحررت الكويت، ولما وجدت الولاياتالمتحدة قواعد لها في المنطقة. إسرائيل تمارس إرهابا على مصر، وقيادتها بالذات، من خلال القول بأن أسلحة متقدمة وإرهابيين جرى تهريبهم إلى قطاع غزة بسبب انهيار السور الحدودي مع قطاع غزة، وسمعنا مسؤولين إسرائيليين يلمحون إلى أن عملية ديمونا الاستشهادية، التي وقعت يوم أمس في العمق الإسرائيلي، هي نتاج عمليات التهريب هذه. الهدف من هذا التحريض على مصر هو ابتزاز قيادتها السياسية، لاتخاذ إجراءات عقابية ضد أبناء الشعب الفلسطيني، وتوظيف اللوبي اليهودي القوي في الولاياتالمتحدة لممارسة المزيد من الضغوط في هذا الإطار، بما في ذلك اقتطاع المزيد من المساعدات المالية الأمريكية لمصر. من ينتهك سيادة مصر وأمنها القومي ليس أولئك الجوعى الذين يقتحمون الحدود من أجل لقمة الخبز وعلبة الحليب لأطفالهم، وإنما أولئك الذين يقزّمون دورها، ويرهنون إرادتها من أجل حفنة من المساعدات لا يزيد حجمها عن واحد في المائة من مجموع الدخل القومي المصري السنوي. الشعب الفلسطيني مطالب بضبط النفس، وتحصين صفوفه في وجه المندسين العملاء الذين يريدون إعطاء ذخيرة لبعض السياسيين والكتاب الحاقدين في مصر الكرامة والشهامة والوطنية، لأن مشكلة هؤلاء الحاقدين ليست معه وإنما مع أبناء شعبهم الشرفاء الذين يعانون من القمع والاضطهاد والفساد وبَطر القطط السمان التي تنهب الثروات وعرق الكادحين في وضح النهار.