[email protected] يجرنا هذا العنوان إلى البيت الشعري لأبينا المتنبي الذي يقول: «أعز مكان في الدنيا ظهر سابح/ وخير جليس في الزمان كتاب»، وإذا كان من السهل اليوم مجالسة الكتاب ومؤانسته، فإن ظهر السابح، وهو الفرس السريعة، بات من قبيل سابع المستحيلات، فلا فرسان اليوم من فرسان الوغى وحملة السيف وممتشقي المبادئ الكبرى، ولا فرسان الكلمة ب«حق وحقيقي»، فأغلب الزبد غثاء، وأكثر الكتب المدججة بالدعاية لا تعدو أن تكون مجرد كتلة من ورق مقوى. ربما كان السيد المتنبي يتكلم عن كتب أخرى، هو الذي لم يكن يجد الوقت الكافي للقراءة، لقد كان الرجل مشغولا بقصائد المدح ودهاليز الحكم في بيت سيف الدولة والجيش الجرار من الحساد الذين كانوا يفسرون قصائده على هواهم للحاكم، وحين كانت تضيق به الآفاق، كان الرجل يركب فرسه أو ناقته ويقطع الصحراء شاديا بيته «الطليعي»: الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم. كان المتنبي متشبثا بحقه في الكتابة، وفي القرطاس والقلم، لكنه كأي أناني كبير كان يضع القرطاس على مستوى الترتيب في المرتبة الأخيرة، جاعلا من الخيل مغامرته الأولى ومن الليل مركبته الثانية، ومن الصحراء سفينته الثالثة. هل كان المتنبي يكذب؟ هو الذي مات بطعنة غادرة بسبب طول لسانه في بيت من الشعر، لا أعتقد أن شاعرا من عيار أبي الطيب كان «يسحت» في كلامه، لأنه رجل شعر ورجل موقف حتى وإن خانه الساعد الشديد والتسديدة الغامزة، ورشاقة بطل الحرب. لم يكن المتنبي يجد الوقت للقراءة، ولم يكن من حملة القراطيس، بل كانت القراطيس تحمل إليه كل شاردة وواردة يأتي خراجها إليه محمولا على ألسنة الرواة والمنشدين. ما علاقة الحديث عن المتنبي بالحديث عن معرض الكتاب؟ ثم أليس كله حديثا عن القراطيس وعن الكتب والكاتبين والشعراء السابحين في أودية أخرى غير أودية القراء. تأتي إلى معارض الكتب، كتب نفيسة غميسة، وأخرى محض ورق مقوى، ويأتي كتاب الهاي كلاس وكتاب نواصي المقاهي والذين يسلقون كتبهم سلقا تمشيا مع موضة ما يطلبه الجمهور الثقافي، بينما يسيطر على واجهة المكتبة العربية مؤلفو كتب الطبخ والأبراج وباعة العناوين البراقة، وناشرو «المعطيات» التي لم تنشر، ورواة «القصة الكاملة» للاجتماع الأخير أو للملعقة الأخيرة التي أكل بها تشرشل أو جمال عبد الناصر أو الفستان الأخير للعميلة تحية كاريوكا أو هند رستم وغيرها من الترهات التي تملأ المكتبة العربية، في الوقت الذي ينشر فيه الناشر العربي كل «ماخاب ولم يطب» لباحثين هواة ولمخبرين قدامى تحولوا إلى كتاب، ولمعطوبي حروب لم تقع ولأبطال لا تعرفهم ساحات النضال ولمدعين يحملون في أيديهم شواهد جامعية حصلوا عليها من بنغلاديش أو تحصلوا عليها بالمراسلة أو الصداقة سيان، ولأطروحات مترجمة ترجمة رديئة، بينما يأتي الدكتور المفوه فلان كي يخلط الأوراق في نظرية «عمشاء» من نظرياته الشهيرة. لو أطل علينا جدنا المتنبي من القرن الرابع الهجري وألقى على مكتبتنا العربية نظرة خاطفة لهاله لساننا «العربي الفصيح» ولعاد إلى بيته الشعري الشهير كي يعدله قليلا أو جملة وتفصيلا. لقدم استقالته من نادي القرطاس والقلم، ولانتمى إلى ناد آخر مثل نادي «الفيتنس» أو القنص، فالكاتب اليوم لم يعد ذلك الذي كلما ولد في «القبيلة» أقيمت له الولائم والأعراس، واحتفل به كما تحتفل العرب بالفرس النجيبة. هنا في زاوية الكتب ما شئت، فحظ سعيد .. هنا في زاوية الكتب، دجل كثير و«مصنفات» في كل شيء ولا شيء. فخذ أنيسك حسب وصية جدنا المتنبي.