يرى الباحث عبد الرحيم المنار اسليمي أن أزمة الاتحاد ومعها باقي أحزاب الحركة الوطنية وقعت لما دخلت هذه الأحزاب في محك تدبيري في التفاوض مع الدولة، فيما يرى الباحث محمد اتريكن أن غياب الزعيم عن المؤسسة الحزبية يحيل على المجهول لدى أتباع التنظيم، أما بالنسبة إلى الباحث أحمد مفيد فإنه يصعب في المغرب التفريق بين الحزب والزعيم. يرى الباحث عبد الرحيم المنار اسليمي، في تحليله للتحولات الأخيرة التي يشهدها حزب الاتحاد الاشتراكي، أن الوضع داخل هذا الحزب يثير ثلاث ملاحظات متناقضة لها ارتباط بوضعية الأحزاب السياسية بالمغرب. الملاحظة الأولى تتعلق بالكيفية التي يتحول بها الزعيم بسرعة من مهندس للمصطلحات الحركية الاستراتيجية في الاتحاد الاشتراكي إلى «ثقب في جدار المخزن»، ل«تحصين الانتقال الديمقراطي». وبالتالي، تبين هذه الحالة كيف تتبدد مقولة الزعماء الحزبيين بالمغرب القائمة على أساس: «إما أن ينتصر الزعيم أو يفنى التنظيم». أما الملاحظة الثانية فهي ترتبط باستمرار الزعيم في الاعتقاد برمزيته وكارزميته في لحظة الأزمة، رغم التحولات الاجتماعية والتمثلية والقيمية التي يشهدها المغرب، وذلك لما يذكر اليازغي، في رسالته إلى المكتب السياسي، خصاله النضالية ويخاطب من خلالها باقي جماهير الاتحاد الاشتراكي ويشبه ما يقع له بما وقع للمهدي بنبركة في صراعه في الستينيات مع الكاتب العام للاتحاد المغربي للشغل المحجوبي بن الصديق. فدراسة الخصوصيات النفسية للقيادة الحزبية تبين أن الزعيم يركز على السلبية الموجودة في عقلية ونفسية القواعد الجماهيرية وفي مخزونها النفسي ويستعملها لكي يحرك الجماهير في اتجاه رفض وضعية ما أو في اتجاه رفض وضعية مستقبلية. لكن الإشكال في هذا الاعتقاد هو أن التحريك والتهييج كان ممكنا مع الزعامات الكارزمية الاستثنائية في الحزب، كعبد الرحيم بوعبيد، لما كانت الزعامة تخوض صراعا يعكس من خلالها الاتحاد الاشتراكي صورة مجتمعية. ولما كانت الزعامة بدون منافع وبدون عوائد الجماهير، آنذاك لا تختبر فيها الجماهير الزعيم في ميدان توزيع المنافع. في حين يلخص الملاحظة الثالثة في أن أزمة الاتحاد ومعها باقي أحزاب الحركة الوطنية وقعت لما دخلت هذه الأحزاب في محك تدبيري حقيقي في التفاوض مع الدولة. وبالتالي، فمعاتبة الزعماء الحزبيين من منطلق التدبير والتفاوض تنهي أسطورة الكارزمية وفكرة أن الجماهير مفطومة على شخصانية القيادة. فشخصية الزعيم الحزبي حاليا أضحت بدون كارزمية مادامت الأحزاب غير قادرة على إنتاج قيادات استثنائية، وأضحت مرتبطة حاليا داخل كل الأحزاب بقدرة الزعيم على توزيع كل العوائد الحكومية لفرض سلطته في الحزب كما هو الشأن، مثلا، في حزب الاستقلال. ويقول سليمي إن الأحزاب السياسية المغربية تدرجت في زعاماتها من الزعيم التاريخي الكارزمي، إلى الزعيم المداوم على الحزب الذي يبني كارزميته بقدرته على مراقبة حركية المقرات في كل الأقاليم، إلى زعماء بدون كارزمية وتتوقف قوتهم الشخصية على القدرة على جلب المنافع الحكومية وتوزيعها على مكونات الحزب. «وبالتالي، إذا وظفنا «نظرية الإحباط» المتبعة في العلوم الاجتماعية، التي تقوم على أساس فكرة «الإزاحة»، على حالة الاتحاد الاشتراكي وزعيمه، تبين أنه عندما يكون هناك عجز في التوجه إلى السبب الأصلي لمصدر الإحباط يقدم القائد الزعيم كبشا للفداء. وعن طريق عملية كبش الفداء هذه تحمّل جماعة معينة شخصا معينا مسؤولية ما تعانيه من مشاكل ويكون الزعيم في هذه الحالة مهيأ ومؤهلا لأن يكون كذلك، وهذا ما أظهره اليازغي وقبله أحمد عصمان في التجمع الوطني للأحرار وما يجري حاليا مع المحجوبي أحرضان». وفي مقابل ذلك، يعتبر اسليمي أن استقالة محمد الساسي ارتبطت بخيبة أمل في انتخابات السابع من شتنبر وبتجربة ميدانية في دائرة تصارعت فيها قيادات اليسار وهي داخل نفس التحالف قبل الانتخابات، لتظهر العملية الانتخابية استمرارية محنة اليسار في علاقته بالانتخابات، مضيفا أن المثير للانتباه في رسالة الساسي المبررة للاستقالة هي انحصارها بطريقة احتجاجية ضمنية في العلاقة بين المرشح اليساري والانتخابات، دون خروجها من داخل الانتخابات نفسها إلى مناقشة مهام اليساري اليوم في المغرب، وكيف تختفي مقولات وخطابات «خصال النضال اليساري» في لحظة معينة وتتصارع الزعامات في محيط تحالفي قبل المحيط الانتخابي، وكيف يمكن لليساري أن يجعل من موضوع حملته الانتخابية يساريا من نفس طبيعته، وهل فعلا كانت تعتقد هذه النخبة أن خطابها له علاقة بالجماهير الانتخابية. ويذهب هذا الباحث إلى أن استقالة محمد الساسي ولو ارتبطت بظرفية محدودة، فهي إعلان عن أزمتين داخل النخبة اليسارية: الأولى وهي استمرار أزمة الفكر اليساري في علاقته بالانتخابات وبالمشهد السياسي ككل رغم وضوحه أمامه. والثانية، هي معادلة معقدة يكون فيها اليساري قادرا على تعبئة الجماهير وإخراجها للاحتجاج على غلاء الأسعار أو فاتورات الماء والكهرباء، مقابل عدم قدرته على نقل هذه الجماهير نفسها إلى المجال السياسي في لحظة الانتخابات. ويبدو أنه في الحالتين معا يكون سؤال: ما هي مهمة اليساري في المشهد السياسي المغربي الحالي؟ أساسيا وجوهريا. أما الباحث أحمد مفيد، وفي حديثه عن ظاهرة الزعامة السياسية في المغرب، فيعتبر أن تمسك الزعماء في المغرب بمناصبهم بهذا الشكل يعد ظاهرة مرضية تحتاج إلى علاج، لأن من يعتبر نفسه صالحا لتحمل مسؤوليات التدبير مدى الحياة رغم اختلاف الثقافات والظروف والأجيال... يعد شخصا مريضا. ويلاحظ أن تناوب الأجيال عموما داخل الأحزاب يكون إما عن طريق الموت (وفاة الزعيم) أو (في حالات قليلة) عن طريق تجميد النشاط السياسي الذي غالبا ما يكون بسبب المقاومة التي قد يتعرض لها «الزعيم» داخل الحزب. وعن غياب مقاومة من لدن الأجيال الجديدة في الأحزاب لهذه الظاهرة التي يصفها بالمرضية، يقول مفيد إن الشباب لديه الإرادة للمقاومة، ولكن تعوزه الإمكانيات، ويصعب عليه تحقيق التوافق لأن هذا الأخير تتدخل فيه أطراف أخرى خارج الأحزاب. ويزيد قائلا إن الدولة تراعي أيضا مصالحها، ومصالحها مضمونة أكثر من قبل «شيوخ» السياسة لأن لهم مصالح متبادلة. «ويجب ألا ننسى أن العديد من الشباب حاولوا جاهدين تغيير هذا الأمر داخل أحزابهم، لكن مصيرهم كان خارج هذه الأحزاب. ويشهد الوضع الحزبي حاليا عدة تحركات لشباب ومناضلي عدة أحزاب من أجل إعادة الاعتبار إلى العمل السياسي وإلى السياسة كقيمة». ويضيف أن الدولة تعمد إلى خلق حلفاء وأتباع في جميع الأوساط، وخصوصا في وسط الأحزاب، وقد وصل بها الأمر في عدة مناسبات، يقول هذا الباحث، إلى خلق عدة أحزاب وضمان الأغلبية لصالحها... «لهذا نجد حاليا مجموعة من زعماء الأحزاب هم بمثابة ناطقين رسميين باسم الدولة، وبرنامجهم هو برنامج الدولة، وهدفهم هو هدف الدولة... ولهذا، فالدولة ترى أن من مصلحتها أن يكون القرار بيد فئة أو شخص ما دون الفئات والأشخاص الآخرين. ولهذا لا نجد تقليد الاستقالة التي تعد جزءا من الممارسة الديمقراطية خاصة بعد الفشل في تحقيق الأهداف المسطرة أو في تغيير الظروف والأحوال السياسية، فالزعيم يفشل في التسيير والتدبير، ومع ذلك يستمر في التحكم في قيادة الحزب بشكل يجعل منه زعيما شبه مفروض بالقوة على ذلك الحزب، ولهذا يصعب في المغرب التفريق بين الحزب والزعيم، حيث إن الأغلبية من الناس تشير إلى الأحزاب بقولها: حزب فلان أو فلان دون معرفة الاسم الحقيقي للحزب»... وفي السياق ذاته، يذهب الباحث محمد أتركين إلى وجود ما يسميه ب«الفجوة الجيلية» بين الزعماء والقواعد الحزبية وصعوبة تواصل جيلي بين رئاسات الأحزاب وفئة الشباب المشكلة لجزء كبير من الهرم السكاني المغربي. و»هذه الفجوة الجيلية غير مقتصرة على بعد العمر أو السن بل تحيل على وجود جيل في طريقه إلى الاندثار الفيزيائي لازال يتمسك بكونه قادرا على تمثيل ليس فقط الأجيال القائمة بل الأجيال التي لم تولد بعد». وفي تحليله لغياب ردود فعل قوية من لدن «شباب» الأحزاب السياسية لمواجهة هذه الظاهرة، يرجع أتركين هذا «التقاعس» إلى سببين، «الأول: يكمن في استبطان «ثقافة الزعيم» المنظور إليها في إطار «شخصنة» المؤسسة الحزبية، فالزعيم، وفق هذا المنطق يتماهى مع المؤسسة وغيابه يحيل على المجهول أو على نهاية التنظيم، وبالتالي فهناك من يخاف من لحظة غياب الزعيم ويقربها مما يعبر عنه فقهيا بلحظة «الفتنة»، لذلك فإن التغيير، من هذا المنظور، يعتبر دائما سؤالا مؤجلا بمبررات غياب البديل، عدم نضج المنطق المؤسساتي داخل التنظيم، غياب شخص قادر على توحيد الفرقاء والتيارات القائمة داخل الحزب.... والثاني: يستحضر أن «الزعيم» لا يستمر داخل التنظيم لكونه يتوفر على خصال استثنائية يعبر عنها عادة «بالكاريزم»، لكن لقدرته على تسييج دعوات التغيير وإحاطته التنظيم بالمقربين وفق أنماط متعددة للمكافآت، وإقصاء كل التيارات غير المنضبطة قبل لحظات المؤتمر التي تتحول إلى ساحة للتصفيق للزعيم. وهو سيناريو يوظف كثيرا في المشهد الحزبي المغربي، حيث إغراق قاعات المؤتمرات واستعمال «الميليشيات» وغلق لائحة الترشيحات واعتماد التصفيق كبديل عن ثقافة الاقتراع». وبالتالي، يسترسل أتركين، فإن الأمر لا يتعلق فقط «بكسل» تنظيمي أو عدم «ثورية» القواعد ولكن بمحددات ثقافية وتنظيمية تبقى قادرة على امتصاص دعوات التغيير داخل الجسم الحزبي. ويختم أتركين حديثه حول الظاهرة بالقول إن الأحزاب المغربية تعيد اليوم إنتاج المرض الزعاماتي وتعطل آليات دوران النخب والتناوب الجيلي، معتبرا أنه لا يجب أن نرجع ذلك إلى وجود ثقافة مخزنية بحكم أن مؤسسة المخزن اليوم قد أحدثت «ثورة جيلية» في مستواها بدليل حداثة عمر المتواجدين بالدائرة الملكية أو المعينين في المكاتب والمؤسسات العمومية.