«أذكر أنني في عام 1956، جئت إلى مدينة كلميم التي كان ينظم بها أكبر سوق للإبل في الصحراء، وكان يرافقني أخي محمد سالم وبحوزتنا 10 من الإبل، جئنا لبيعها في ذلك السوق. وأثناء وجودنا في كلميم، علمنا بأن السلطان سيدي محمد بن يوسف (الملك محمد الخامس) عاد هو وأسرته من المنفى، وأن هناك وفدا من القبائل في طريق التشكل للذهاب لمبايعة السلطان، فتركت ما كان بيدي وانضممت إلى وفد القبائل المتوجهة إلى الرباط. وعند وصولنا إلى هناك، استقبلنا السلطان ورحب بقدومنا وأكرم وفادتنا». كانت هذه من اللحظات الكثيرة التي يتذكرها الرجل الذي جاوز عمره الثمانين حولا بسنوات، بعربية فصيحة كعادة أهل الصحراء يتذكر الشيخ الخليلي بن محمد البشير الركيبي ذكرياته مع جيش التحرير ومع الجيش الملكي، وكيف أصبح ابنه خصم المغرب الأول، إنه والد زعيم «جبهة البوليساريو» محمد عبد العزيز المراكشي، لم يكن الرجل قبل 1956، يعرف غير الترحال «كنا رحلا نكثر من الترحال بحثا عن الماء والكلأ، نتبع حركة المزن (الأمطار)، وأينما سقط المطر نتجه»، كان الخليلي الركيبي الشاب آنذاك، لا يعرف غير الإبل ورعايتها، لكن سماع خبر عودة السلطان محمد الخامس سيحرك فيه حماسة الشباب ويتوجه مع المتوجهين لاستقباله ومبايعته بعد عودته من المنفى، كانت كلمات السلطان القليلة كافية لأن تبث في الشاب الخليلي الركيبي رغبة عارمة في الانخراط في مشروع حمل السلاح وتحرير الأرض من الغاصب المستعمر، سواء الإسباني في الشمال والجنوب أو الفرنسي في وسط البلاد، لذلك فما إن التقى المجاهد محمد بنحمو حتى ترك ما بيديه وشكل فيلقا صغيرا مكونا من 25 فردا، توجهوا إلى منطقة «فم العشار» لمواجهة قواعد الفرنسيين، وسرعان ما التحق بالفيلق الصغير مقاومون من كل فج عميق، لتتشكل نواة جيش التحرير من قبائل الصحراء، قاوموا المحتل بأسلحة متواضعة كانت عبارة عن «رباعيات» بنادق تقليدية صغيرة في مواجهة الأسلحة الثقيلة للمحتلين الفرنسي والاسباني، لم يكن الخليلي الركيبي ورفاقه يقيمون للحدود معنى فقد اعتقل منهم 46 شخصا في منطقة «تلة» بموريطانيا من طرف الاحتلال الفرنسي، وكان أن تدخل محمد الخامس لفك المأسورين، استمر المقاوم الخليلي الركيبي في حمل السلاح قائدا لفرقة «المائة» المكونة من 10 مجاهدين، ليصبح نائبا لقائد «الرحى» التي تتكون من 300 فرد، واحتفظ بهذه الصفة إلى أن تم حل «جيش التحرير المغربي»، وقام بعدها بتسليم سلاحه إلى الجيش الملكي سنة 1960، ليقع عليه الاختيار لينضم إلى القوات العسكرية للجيش الملكي، خضع بعدها لتدريب من ثمانية أشهر بقاعدة «أهرمومو»، شارك بعدها في حرب المغرب والجزائر سنة 1963. نقل الخليلي الركيبي رفقة عائلته بعد ذلك إلى مدينة الحاجب، وبعدها إلى شفشاون، فالقنيطرة، ثم فاس، ليتم اختياره للعمل تحت إمرة البشير ولد امبارك بالمكتب الثاني (جهاز مخابرات تابع للجيش الملكي)، «قبل أن يتم تنقيله إلى الزاك، وبعدها إلى منطقة «أم أصبع»، حيث بقي في تلك السرية إلى 1973، سنة تحركات الشباب بمنطقة طانطان، والتي ستكون النواة لتشكيل ما يعرف اليوم بجبهة البوليساريو، كان الوالد الخليلي الركيبي جنديا يحمل السلاح في القوات المسلحة الملكية عندما اعتقل أفراد من عائلته بمن فيهم زوجته بمدينة طانطان. كان العامل صالح زمراك يرى في شعارات رفعها شباب صحراويون آنذاك عصيانا مدنيا، في حين رآها بعض الصحراويين «ضيق أفق من السلطات، فشعار: «بفضلك يا سيدنا الصحراء ستصبح بيدنا» فسرته السلطات بأن الشباب يريد أن يستولي على الصحراء بفضل من الله، سيد الخالقين. لكن كان المقصود بكلمة سيدنا آنذاك هو الملك الذي يفضل أن يناديه أهل الصحراء بلقب سيدنا بدلا من ألقاب الجلالة». يحكي المقاوم الخليلي الركيبي عن تلك الأحداث بألم كبير قائلا: «آلمني أن يعتقل أفراد من عائلتي بينما أنا أؤدي واجبي في الدفاع عن بلدي. وقد طالت الاعتقالات أخي عبدي بن محمد بن البشير بمنطقة «توزكي» وابني البكر محمد الحبيب الذي كان يدرس بالرباط (محام الآن بهيأة أكادير) وابن أخي محمد إبراهيم وزوجتي التي اعتقلوها من بيتها في طانطان واقتادوها إلى أكادير، وتركت خلفها أبناءها الصغار الذين لم يجدوا من يهتم بهم في غيابي وغياب أمهم، وظلوا على ذاك الوضع شهرين إلى أن تم الإفراج عنها». تم إطلاق سراح زوجته وابنه رفقة من أطلق سراحهم، وتم بعدها تنقيله إلى مدينة إفني قبل مدينة قصبة تادلة بإقليم بني ملال التي استقر بها إلى يومنا هذا . اختفى ابنه محمد عبد العزيز بعدها، كان طالبا يدرس بالرباط. كان كما يحكي عنه، شابا يافعا دون شعر في وجهه، واحتفظ الأب لابنه في مخيلته بصورة الشاب الفتى الأمرد، لذلك كان جوابه الطبيعي أنه لا يعرف من بالصورة في جوابه عن سؤال للعقيد القذافي عندما استفسره عن صاحب صورة كانت مع القذافي أشهرها في وجهه، كان برفقة الخليلي الركيبي 12 شخصا من أعيان الصحراء استضافهم القذافي أربعة أيام بخيمته بليبيا، بعد لقاء به في الرباط سنة 1983، وكان من ضيوف العقيد أيضا الخطري ولد سيدي اسعيد الجماني وبيبا ولد محمد الدويهي (والد رئيس وزراء سابق في جبهة البوليساريو ورئيس المجلس الشعبي الحالي محفوظ علي بيبا) . يحكي عن فترة كانت الداخلية تحرم فيها الكلام عن الصحراء بالسلب أو الإيجاب على عهد الراحل الحسن الثاني ووزيره في الداخلية القوي إدريس البصري. يحكي والد أكبر خصوم المغرب عن ظروف اجتماعية قاسية عاشها بعد تقاعده قائلا: «تم تهميشنا نحن الذين حملنا السلاح منذ البداية للدفاع عن وحدة المغرب، وكل ما (كنت) أتقاضاه من الدولة 1100 درهم أعيل بها عائلة كبيرة تتكون من 14 فردا». ظلت رخصة النقل التي منحها إياه الحسن الثاني بعد لقاء القذافي والتي تربط بين الرباط والدار البيضاء مجمدة.. كاتب وزير الداخلية آنذاك ووزير النقل والديوان الملكي.. لكن دون جدوى. كان القليل من المغاربة يعرفون أن والد زعيم البوليساريو يوجد بمدينة قصبة تادلة، كما كان يجهل هو أن ابنه زعيم للانفصاليين بجنوب المغرب، بل كان يشك إن كان مايزال على قيد الحياة بعد طول بعاده وانقطاع أخباره، قبل أن يؤكد الحسن الثاني في إحدى خطبه سنة 1987 أن والد محمد عبد العزيز المراكشي يعيش في قصبة تادلة . رفض الخليلي الركيبي الالتحاق بحزب الاستقلال، وكذلك بحزب الحركة الشعبية عند تأسيسه سنة 1958، لقناعته بأن أفراد الجيش «محرم عليهم الاهتمام أو الاشتغال بالسياسة» ولكونه لا يحب «السياسة ولا أريدها، فالسياسة تخلق المشاكل بين الناس والعداوة بين الإخوة»، لكن سيجد الشيخ الخليلي الركيبي نفسه من بين أعضاء المجلس الملكي الاستشاري للشؤون الصحراوية في مارس من سنة 2006. تغيرت أمور كثيرة بعد استلام محمد السادس مقاليد الحكم، ففي أول زيارة له لبني ملال طلب من والي الجهة آنذاك أن يرى والد محمد عبد العزيز الشيخ الخليلي الركيبي، استقبله الملك فسأله عن المرض الذي كان يعاني منه، وعن أحواله، وسرعان ما انخرط والد أكبر خصوم المغرب في المشروع الوطني لحل مشكل الصحراء، «رأيي سيكون مع رأي العاهل المغربي الملك محمد السادس، وهو رأي يقول بمنح السكان حكما ذاتيا لتسيير شؤونهم بأنفسهم تحت السيادة المغربية، وبذلك تظل لحمة الإخوة المؤمنين قائمة، أما تشتيت الناس فلن يفيد في شيء، بل سيزيد من تأزيم حالات الإنسان النفسية»، يقول والد زعيم البوليساريو. ويكاد الحاضر لكل التظاهرات الوطنية والدينية لا يخطئ شيخا كبيرا بلباس صحراوي رفقه ابنه المصطفى الذي ينوب عن إخوته: الحبيب المحامي بأكادير، وإدريس الطبيب في رعاية الوالد، يشارك في كل مناسبة ويحظى بتقدير واحترام كل من يلاقيه، لا تفوته محطة من محطات المشروع المغربي لحل قضية الصحراء، كانت كلمته القوية والمؤثرة في بني ملال أهم ذكرى من قافلة صلة الرحم التي مثلت فيها أسرته جهة تادلة أزيلال، أصبح الأب خصما عنيدا لابنه، يدعوه كل مرة إلى العودة لبلده: «أنا غاضب على ابني ولا أوافقه على ما يفعله، وأدعوه إلى أن يعود إلى أرض الوطن حتى أقول إنه بالفعل ابني». ويتذكر أن أمد الفراق طال لأزيد من 35 سنة: «كنت أعمل وأكد لأرسل له المال حتى يتابع دراسته بمدينة الرباط، وكنت أعتقد أنه يثابر من أجل التحصيل المعرفي، لكني فوجئت به يغادر الرباط في اتجاه العاصمة الجزائر». تنزع بالأب نوازع الأبوة: «تنتابني رغبة في احتضانه، والربت على كتفيه» قبل أن يختم: «أريد منه أن يأتي عندي إلى المغرب لأراه، لقد طال أمد الفراق، ولم أعد أقوى على فعل أي شيء، أتمنى أن يرجع إلى المغرب، أرضه ووطنه ووطن أجداده... فهو مغربي، وأريد لقياه، قبل أن أرحل إلى دار البقاء». فهل تتحقق رغبة الشيخ الخليل؟