أين هو برنامج المقاومة السلمية إذن، إذا سلمنا جدلاً بالمنطق الخطير الداعي إلى وقف المقاومة المسلحة؟ يروي مقربون من الرئيس الشهيد ياسر عرفات، في معرض الحديث عن الطريقة التي كان يدير بها أبو عمار الصراع مع العدو الصهيوني بعد اتفاقية أوسلو، أنه كان يواجه ضغوطاً إسرائيلية وأمريكية لاعتقال أحد أبرز مجاهدي (حماس) في الضفة الغربية، وأن الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش كان يتصل به يومياً، وبل أكثر من مرة في اليوم الواحد، لإلقاء القبض على المجاهد المذكور. وفي إحدى الليالي، وحين كان أبو عمار يجلس في مكتبه في «المقاطعة» وحوله عدد من معاونيه، دخل عليه أحد ضباط الأمن وأبلغه أنه قد حدد مكان المجاهد «المطلوب»، وأنه جهّز دورية لاعتقاله. أبدى أبو عمار، كما يقول الراوي، أمام معاونيه وبينهم بعض «المتعاونين»، ارتياحه الظاهري لما أبلغه إياه ضابط الأمن، ثم خرج لبرهة من المكتب داعياً أحد الرجال الذين يثق بهم ليبلغه بصوت خافت: حاول أن تعرف من الضابط مكان وجود المجاهد «الحمساوي»، وأسرع إليه قبل وصول الدورية إليه لدعوته إلى تغيير مخبئه. وهكذا كان.. تذكرت هذه القصة لا لكي أذكّر بالتوازن الذي كانت تقوم عليه سياسة القائد الفلسطيني التاريخي بين مفاوضات يجريها مع المحتل الصهيوني، ومقاومة يرعاها أو يحميها ضد قواته، وهي سياسة، كلفته على ما يبدو حياته (وهو الذي حمل روحه على راحتيه طيلة أيام كفاحه)، حين نجح العدو في تسميمه بعد محاصرته في المقاطعة لأكثر من عامين ونصف، انتهت بالإجهاز على حياته. وفرضية تسميم عرفات تبقى الأقوى حتى يثبت عكسها، خصوصاً أننا أمام لجنة تحقيق أعلن مؤتمر (فتح) الأخير عن تشكيلها منذ أشهر وما زلنا ننتظر نتائجها.. أتذكر هذه القصّة في كل مرة أسمع بها السيد محمود عباس، خليفة أبي عمار في رئاسة السلطة الفلسطينية، يعلن فيها عدم إيمانه «بالمقاومة المسلحة» في سياق سياسة معروفة لأبي مازن بدأها منذ رفضه قبل سنوات ما أسماه «بعسكرة الانتفاضة»، بل في إطار مناخ عام تعبر عنه سياسة النظام الرسمي العربي منذ سنوات، القائمة على التنكر لخيار المقاومة، والتحريض على المقاومين، والسعي لمحاصرتهم دون أن يقدم هذا النظام بديلاً مقنعاً لمواجهة التعنت والاحتلال والعدوان الصهيوني. ولعل في تصريح عباس الأخير، الذي تزامن مع إعلان عدد من كوادر فتح في نابلس عن استقالات جماعية، ومع اغتيال الموساد لأحد قياديي حماس (أبو العبد المبحوح) في دبي، ومع الإعلان عن عملية عسكرية نفذتها مجموعة من كتائب أبي علي مصطفى (الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الشريك الفاعل في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير) ضد مجموعة صهيونية شرق قطاع غزّة، ما يحتاج إلى نقاش عميق وصريح وجريء تشهده الساحة الفلسطينية عموماً، والحوارات الجارية داخل حركة (فتح) خصوصاً. ولن يكون نقاشي اليوم مع منطق أبي مازن منطلقاً من منطلقات حركة (فتح)، التي أعلنت قبل 55 عاماً رصاصاتها الأولى، وتبنت فيها منطق الكفاح المسلح لتتميّز عن غيرها من فصائل العمل الوطني الفلسطيني آنذاك، ولتتقدم بسببها الساحة الفلسطينية والعربية والعالمية، ولتتسلّم زمام الأمور في منظمة التحرير الفلسطينية نفسها. كما لن يكون نقاشي مع هذا المنطق معتمداً على ما أقره مؤتمر فتح الأخير ذاته الذي دعا إلى اعتماد خيار المقاومة بكل أشكالها، بما فيها المقاومة المسلحة بالذات، تأكيداً على فكرة العودة إلى «المربع الأول» وقد تردد مؤخراً على لسان عدد من مسؤولي فتح كمصطلح استراتيجي يشير إلى الكفاح المسلح... النقاش هنا سينطلق من سؤال بسيط: إذا صار طريق المفاوضات مسدوداً (حسب تصريحات كبار المفاوضين الفلسطينيين، بمن فيهم عباس نفسه الذي يهدد كل يوم بالاستقالة بسبب التعنت الصهيوني)، فلماذا لا تترك السلطة الفلسطينية ورئيسها الباب مفتوحاً على جميع الخيارات؟ ولماذا تسقط السلطة كل «الأوراق» التي بيديها، لاسيّما «الورقة» الوحيدة التي يخشى العدو استخدامها؟ ثم هل دفع منطق التخلي عن المقاومة المسلحة (الذي راج في بعض الأوساط الفلسطينية والعربية منذ سنوات، بل عقود)، العدو إلى تقديم تنازلات، مهما كانت محددة، أم أنه أدى بالعدو إلى المزيد من التعنت وإدارة الظهر لكل الحقوق والضغوط، بل إلى المزيد من الحصار والعدوان والتهديد من غزة إلى القدس مروراً بكل الأرض الفلسطينية. وإذا كان السيد عباس دعا إلى المقاومة السلمية بديلاً للمقاومة المسلحة، علماً بأنهما متكاملان وغير متعارضين، فأين هي هذه المقاومة السلمية التي يفترض أن تمتلئ بها يومياً كل المدن والبلدات والمخيمات الفلسطينية لاسيّما في الضفة الغربية، التي فاخر الجنرال الأمريكي دايتون في شهادته أمام الكونغرس الأمريكي قبل أشهر بأن خطته نجحت في «منع انتفاضة شعبية في الضفة الغربية انتصاراً لغزة إبّان العدوان عليها قبل عام»، بل قال «إن الحاكم العسكري الإسرائيلي للضفة الغربية خلال الحرب على غزة، لم يجد ما يحول دون غيابه عن مقر قيادته في الضفة لمدة أسابيع لاطمئنانه إلى هدوء الأوضاع فيها». فهل ما يجري في القدس، من تهويد وتهجير وهدم منازل وأحياء وحفريات وتدنيس مقدسات إسلامية ومسيحية تمهيداً لإزالتها، هو أمر يخص المقدسيين وحدهم دون استراتيجية فلسطينية – عربية وعالمية تضعها القيادة الفلسطينية وتسعى لتنفيذها، وهل استمرار الصهاينة في بناء جدار الضم والقضم العنصري، شأن يعني الأهالي الشجعان في بلدات بلعين ونعلين ومعصرة بيت لحم ومعهم بعض المتضامنين الأجانب الشرفاء دون غيرهم، بل ودون تحرك فلسطيني – عربي شامل لتفعيل قرار محكمة العدل الدولية بإزالة الجدار، وهل قضية آلاف الأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال هي قضية هؤلاء المعتقلين وذويهم، الذين يعتصمون ويتحركون دون وجود آلية استنهاض فلسطيني وعربي ودولي تحول قضيتهم إلى قضية ضمير عالمي تتم من خلاله محاصرة العنصرية الصهيونية. فأين هو برنامج المقاومة السلمية إذن، إذا سلمنا جدلاً بالمنطق الخطير الداعي إلى وقف المقاومة المسلحة؟ ثم هل يمكن لأبي مازن أن يقدم لشعبه ولأمته مثلاً واحداً عن حركة تحرير وطني نجحت في إنجاز التحرير والاستقلال عبر إسقاط خيار المقاومة المسلحة. هل فعل الفيتناميون ذلك، وقد كانت أعنف جولات قتالهم على أرضهم متزامنة مع جولات المفاوضات في باريس، وهل رضي الجزائريون بالعرض الفرنسي بوقف القتال قبل المفاوضات، وهل ألقى الإيرلنديون السلاح قبل الوصول إلى اتفاق يحترم حقوقهم، وهل تخلى المصريون عن فدائييهم قبل إنجاز اتفاقية الجلاء، وهل رأينا في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية بلداً تنازل عن مقاومته المسلحة قبل نيل الاستقلال، وهل حرر الصينيون بلادهم بغير المقاومة المسلحة، وكذلك الفرنسيون الذين يفاخرون بمقاومتهم المسلحة، والأمريكيون الذين يحتفلون حتى اليوم بحرب الاستقلال قبل قرنين وربع القرن، ناهيك عن المقاومة الروسية واليونانية واليوغسلافية ضد النازية. وإذا تطلع أبو مازن حوله إلى تجربة المقاومة اللبنانية وما أنجزته، وإلى المقاومة الفلسطينية التي دحرت المحتل في غزّة بعد أن تمنى لو تسقط في البحر، وإلى المقاومة العراقية التي فرضت على الجيش الأكبر في العالم جدولة انسحابه. قد يستشهد دعاة (المقاومة السلمية) بتجربة المهاتما غاندي في الهند ويرون فيها نموذجاً يمكن اعتماده رغم الفارق الكبير بين ظروف قارة كبرى كالهند تضم كماً كبيراً من الإثنيات والأديان والقوميات، وبين بلد صغير كفلسطين، بل بين انتداب بريطاني آنذاك مرتبك واستعمار صهيوني عنصري تزداد شراسته مع الأيام. ولكن لهؤلاء نقول: حتى المهاتما غاندي نفسه، رغم ابتداعه لنموذج المقاومة اللاعنفية، لم يسقط يوماً خيارات أخرى أمام شعبه، وربما كان يهدف من تصعيد مقاومته السلمية إلى توحيد شعبه لينتقل به إلى مرحلة أعلى إذا لم تنل الهند الاستقلال. في لقاء أخير لي مع أبي مازن في بيروت، هدفت من خلاله إلى دفع مساعي المصالحة الفلسطينية أساساً، سألت رئيس السلطة الفلسطينية: ألا تعتقد أن وصول المفاوضات إلى طريق مسدود، وإلى الفشل الذريع، كما يقول كبير المفاوضين صائب عريقات (الذي كان حاضراً) يحتم عليكم مراجعة المسار التفاوضي برمته، وأن هذه المراجعة تفرض أمرين أساسيين، المصالحة الوطنية وتذليل ما يعترضها من عقبات، والمقاومة بكل أشكالها والتي كانت مبرر وجود (فتح) برمتها. قد لا يكون أبو مازن في وضع يسمح بمثل هذه المراجعة، لكن أليس من مسؤولية قادة فتح وكوادرها، وفصائل منظمة التحرير جميعاً، وكل فصائل العمل الوطني الفلسطيني السير على طريق المراجعة التي هي عربة يقودها جوادان: المصالحة والمقاومة، بل مصالحة ركيزتها المقاومة، ومقاومة تعزز روح المصالحة.