في كل مرة أزور فيها باريس، أحس كأنني أزورها لأول مرة.. هذه المرة، ضمدت باريس جراحها، بعد أن عاشت في خريف السنة الماضية واحدة من أسوأ لياليها، قتلى وجرحى وحزن عميق.. باريس، في يوم ربيع، لملمت من حولها بقايا صبر، اغتسلت بنهر "السين"، تعطرت بكل ماتملك من عطور ، أضاءت أنوارها الملونة وفتحت ذراعيها لاستقبال كل الزوار.. لم يخطف الإرهاب الابتسامة من وجوه كل الباريسيين.. واستمرت الحياة وفي الحلق غصة..في باريس، لا يمكن أن تشعر بالغربة، ففي كل الأحياء، في الشارع وفي كل الأماكن العامة لابد أن تلتقي بمغاربة يعيشون في البلد مند عقود من الزمن.. يحملون الجنسية الفرنسية.. ويفخرون بأصولهم العربية وبانتمائهم لبلد مغربي يعشقونه حد الجنون.. استشعرت ذلك في ساحة "تروكاديرو" حين تجمع مئات المغاربة للتنديد بتصريحات بان كيمون.. جاؤوا من كل المدن الفرنسية، ليعبروا عن تضامنهم الكامل دفاعا عن وحدتهم الترابية.. كان المشهد رائعا جدا.. لقاء وتعارف وديما مغرب.. تزينت الساحة بالأعلام الوطنية، كان هناك مثقفون ومبدعون وفنانون… فالمناسبة في صبيحة ذلك الأحد لم تكن سوى لحظة للفرح.. أغاني وأهازيج واحتجاجات أعجب بحسن تنظيمها كل السياح القادمين من دول أخرى لأخذ صور تذكارية أمام برج إيفل.. في ساحة تروكاديرو، التقيت شابا سينغاليا يبيع عصا السيلفي ومجسمات صغيرة لبرج إيفل، حكا لي الرجل عن تكلس العظام في الغربة، وكيف يقضي الليالي الباردة في محطات الميترو حين يتعذر عليه أحيانا إيجاد مكان لينام فيه.. لا يملك أوراق إقامة، جاء إلى فرنسا قبل سنتين من الآن.. ويحلم بغد أفضل، يقضي أيامه في باريس، وقلبه معلق مع عائلته في موريتانيا والسينغال فوالدته موريتانية الأصل.. قال لي: "أنت مغربي، ونحن جميعا مسلمون والحمد لله، ولكنني أستغرب كيف يقبل بعض المغاربة بالمبيت معنا في محطات الميترو، لقد زرت المغرب وقضيت ستة أشهر بمدينة الرباط، أعجبني البلد كثيرا.. "الماروك زوين أمونامي".. تمتمت أمامه ببعض كلمات.. وتركته يعرض بضاعته على الزبائن.. وفي بولونيا، المدينة الإيطالية التي تستقر في إقليم إيميليا رومانيا.. عاصمته الجميلة، التي يستقر بها عدد كبير من المغاربة، التقيت شابا مغربيا يعمل في محل لبيع البيتزا، سعد كثيرا حين علم أنني من البيضاء.. وأخبرني أنه لا يملك أوراق إقامة، يسكن في شقة يتقاسمها شبان من جنسيات مختلفة يدفع مقابل ذلك 200 أورو، مقابل سرير للنوم، وبرغم ذلك فهو سعيد بوضعه الحالي، ولم يندم لأنه جاء يوما إلى هذا البلد عن طريق الهجرة السرية، اختصر لي الحديث بجملة واحدة.. "هنا ماعمرك تموت بالجوع، حتى وإن لم يكن لديك عمل، ولكنني قد أتعب كثيرا في حي السالمية للحصول على سبعة دراهم للجلوس في واحدة من مقاهي حينا الشعبي".. ودعته بابتسامة وضرب معي موعدا على أن نلتقي في اليوم الموالي ليحكي لي مغامرة الوصول إلى إيطاليا.. وفي دبي، ذات ربيع، التقيت شابا من مدينة القنيطرة يعمل داخل صالون للحلاقة، قال لي حين سألته عن أحواله في بلد الإمارات: "عرفتي خوك عايش هنا بحالا فلعواكش.. أكتري سريرا ب 1500 درهم، أتقاسمه مع بعض الهنود.. لم يتحقق حلمي بالحصول على عمل مذر للدخل.. كنت في القنيطرة أحصل على مبلغ قد يصل إلى ثلاثمائة درهم في اليوم الواحد في صالون للحلاقة.. واليوم أحصل عل مبلغ شهري ما كيكملش ليا حتى الشهر.. ولا يمكن أن أغادر البلد قبل انقضاء عامين كاملين كي لا أحرم من الدخول مرة أخرى إلى دول الخليج.." انتهى كلام ولد القنيطرة وهو يحلم بغد أفضل.. وفي دول أخرى تتعدد الحكايات.. يضطر البعض للسفر بحثا عن لقمة عيش.. وكل واحد وزهرو.. ولكنني أعود لأردد في صمت ماقاله لي الشاب السينغالي.."الماروك زوين أمونامي".