«يمكن للمؤرخين أن يستمروا فترة طويلة في النقاش حول هذه النقطة: من هو صاحب المجد؟ المدينة أم النهر؟».. المدينة هي باريس، والنهر هو نهر السين، الذي يعبرها منذ مئات السنين.. وصاحب هذه العبارة النفاذة البليغة، هو الراحل محمد باهي، الصحفي المغربي والعربي، الذي كتب واحدة من أجمل النصوص، حول عاصمة فرنسا التاريخية.. وهو النص الذي صدر في كتاب يحمل عنوان «اكتشاف باريس»، ضمن منشورات «مرسم» و«الفنك» بالمغرب و«تقاطع طرق» بفرنسا، برعاية ومبادرة من مجلس الجالية المغربية بالخارج والوزارة المكلفة بالجالية المغربية المقيمة بالخارج.. الكتاب تحفة، لأنه كتب بلغة عاشقة أولا. ولأنه ثانيا، عبارة عن بناء متراكب أشبه بجسد فاتن تصنعه الآلهة.. ومع هذا الكتاب الجديد للراحل الكبير محمد باهي، نكتشف ليس فقط حجم الخسران في فقدان الرجل كهرم صحفي، بل نكتشف ملامح مدرسة صحفية مغربية، ارتقت بالمهنة إلى مصاف «التأريخ لليومي»، بذلك الشكل الذي يجعل الصحفي باحثا عن المعنى، بانيا للحكايات من بداياتها البكر، منقبا مثل كل محقق محترف، عن الحقيقة كما وقعت، وكما كانت.. مع هذا الكتاب أحببت باريس أكثر، لأنها صارت أصفى وأوضح وأجمل في براح الخاطر. وصار لها معنى وجود آخر.. ومع هذا الكتاب كبرت صورة محمد باهي وتسامقت أكثر، لأنه بنى لنفسه معنى ديمومة لن تمحي في ذاكرة الأىام. لأنه مع كتابه الجديد هذا «اكتشاف باريس»، ومع كتابه الآخر عن «الصحراء»، وكتابه عن «الجزائر في مفترق الطرق»، وباقي مشاريع كتبه النائمة ضمن أرشيف العائلة، نتلمس فداحة الخسران، ونتلمس معنى أن يبني الرجل لنفسه معنى ساميا للكاتب الذي يراهن على الأبقى، أما الباقي فهو تفاصيل تنسى في الطريق. لقد بنى باهي مجدا لاسمه بمثل هذه الكتابة التي ستدوم، لأنه ليس هناك في ما أعلم مرجعا باللغة العربية حول عاصمة الأنوار باريس، مثل هذا الكتاب. لقد عاد بنا الرجل إلى سلسبيل الحياة البكر للمكان، إلى معنى بناء الحضارة الذي هو ببساطة خلط الماء بالتراب. أليس مبعث الحياة نفسه هو خلط الماء بالتراب، أليس الإنسان نفسه سليلا شرعيا لهذه الخلطة العجيبة، أليس ذلك ما يعلمنا العلم اليوم، ويعلمنا إياه النص المقدس (القرآن) قبل ذلك؟!!.. لهذا، كم كان فاتنا، أن نسافر مع باهي في قصة تكون باريس، ليس كجغرافيا مدينة، بل كمعنى وجود، منذ الأزمنة السحيقة لتكون الحياة. منذ كان الجليد سيدا على النصف الشمالي من الكرة الأرضية، منذ كانت الحياة ليست أكثر من بكثيريات نائمة هنا وهناك، منذ أن كان الماء لا يزال يصنع مساراته ويحفر جغرافياه في أديم الكرة الأرضية كلها. ومع توالي الصفحات، نسمع هدير المياه الجارفة، الطوفانية الهائلة، ونتشمم رائحة الكلس ورائحة التراب المتكون بالترسبات المتراكمة مع توالي القرون.. لنكتشف أن سيرة المدينة ارتبطت إلى الأبد بالماء، وأنها ونهر السين، أشبه بالسياميين العاشقين الفرحين بجمال بعضهما البعض.. الأمر، أيضا، أشبه ببحث أركيولوجي، ننزل فيه مع ترسبات تكون ذاكرة المكان، حيث القطائع تأخدنا إلى التفاصيل النائمة في حكاية تكون المكان والمدينة. حينها نكون أمام لوحة بادخة، تتراكب فيها التفاصيل والألوان والآثار والروائح واللقى والأصوات والصخب والأنين وصوت الماء والحجر... إن باريس التي يأخدنا إليها محمد باهي، ليست باريس المطاعم الفاخرة ودور النشر والعطور والنساء الفاتنات ومقابر الكلاب ( التي كان رحمه الله يزورها بليل ويقرأ عند شاهدة القبور الصغيرة، فيها، قصائد دي الرمة الحزينة ).. ولا باريس، المعالم التاريخية الكلاسيكية التي تحرص على إبرازها مطويات شركات السياحة، من برج إيفل وكنيسة نوتردام، ومتحف اللوفر، وساحة تروكاديرو، وساحة الفنانين في شاتلي ليهال، ولا دهاليز الميترو ومحطات قطارات باريس الكبرى الأربعة ( الشمال، الشرق، أوسترليز، الوسط)، ولا أحياء العرب والفقراء والمهاجرين الإيطاليين والإسبان والبرتغاليين والهنود والصينيين، ولا مهاجري الجزائر من أصحاب «الأقدام السوداء»، ولا باريس مظاهرات ماي 1968، والحرية الفكرية والسلوكية والموضة وشكل الهندسة القوطية البادخة.. لا، باهي رحمه الله يأخدنا إلى باريس أخرى، منسية لا ينتبه إليها كثيرا، تلك النائمة في دفتر التراب والماء، وذاكرة المكان. باريس التي تتناجى ونهر السين، والتي تتناجى وذاكرة الشجر، والتي يجري فيها نهر من الدم في صراعات غابرة. إن باريس التي يأخدنا إليها، باهي، هي : مشاهد من عصر الطوفان، وكيف نهضت باريس من تحت الماء، ورحلة النهر نحو المدينة وكيف بلغ نهر السين سن الرشد (ما أجمل هذه الصورة). كيف اقترب من المدينة ودخلها ليحوز معها شرف القران الأبدي، ثم رحلة النهر في داخلها، وقصة المياه المتشعبة والجسور المعلقة وكيف يفيض الماء شوقا، وقصة أصحاب القوارب ضد مداهمة الجسور لمصدر رزقهم ذات زمن بعيد. ثم حكاية الملك هنري الرابع مع كوخ صياد متحد لسطوة الملك، وكيف طردت السفن البخارية السفن الشراعية من سرير الماء. كيف كان السين قاهرا للبرد القارس، وكيف نافست « مجمرة» الألمان « مدفأة» الفرنسيين. في باريس باهي، نكتشف قصة مؤامرة الطليان على المدينة في عرس أحمر. وكيف سال الدم قبل أن تقرع أجراس الفرح، وكيف ركض الموت في الشوارع. ثم يوم أضرب الجلادون عن ضرب الناس وجلد المتهمين، وكيف تظاهر الشعب بالمقلوب وكيف انهزم الساسة أمام القدود المياسة، وكيف سُرق الملك هنري الثالث.. في باريس باهي، نرحل في أحشاء المدينة، ننزل إلى تحت، ننزل إلى الذاكرة المنسية، تلك التي لا يتذكرها حتى باريسيو اليوم. ننزل مع الرجل إلى السراديب، وكيف بنيت قنوات التطهير، وكيف نسجت معابر الأمن للعائلات الغنية وللأمراء والملوك. نطل معه على حمام منتصف الليل، وعلى مثلث الحرب والموت والجنون. ونقف معه مشدوهين على أول محاولة عربية لغزو باريس، وهي التفاصيل التي شخصيا أعرفها لأول مرة، رغم الكم الكبير من الكتب التي سمحت لي ظروفي بقراءتها عن هذه المدينة الفاتنة اللغز. مثلما يأخدنا الرجل إلى تأمل قصة موتى بلا قبور، أي إلى تلك المقبرة الجماعية التي تمتد على مساحة 11 ألف متر مربع، والذين يصلون إلى 7 ملايين ميت، نعم سبعة ملايين ميت بلا قبر، بل إنهم مدفونون في مقبرة جماعية واحدة. وهي المقبرة التي تجلب اليوم ملايين السياح سنويا. قبل أن ينقلنا الرجل إلى قصة الميترو، ميترو الأنفاق الذي هو هدية العصر الجميل للمدينة، والذي شرع فيه في بدايات القرن 19. ولا يزال الخط رقم واحد، الأقدم على الإطلاق، الذي يربط بين محطتي فينسين و نويي، يغري بالتأمل هو الذي يعبره سنويا إلى اليوم 200 مليون مسافر!!.. ثم نتوقف معه عند حكاية البواخر التي تقف تحت الأرصفة، منذ زمن غزو الإسمنت الذي قاده المنهدس هوسمان (الذي هو مرجع في الهندسة اليوم وتسمى تقنياته في البناء بالتقنيات الهوسمانية). والحكاية وما فيها، هي تلك البواخر الصغيرة التي تعبر ممرا نهريا تحت الأرض في باريس، نعم ممرا نهريا في سرداب كبير تحت الأرض. ذلك النهر السفلي، يقول لنا باهي «لا يعرفه أغلب سواق الشاحنات والحافلات والسيارات المارة من ساحة الباستيل في اتجاه ميدان الجمهورية، ولا يكاد يعرفه أحد من السياح الأجانب أو المتظاهرين أو الزوار العاديين الذين يجولون في أسواق الدائرة الحادية عشرة. هؤلاء وأولئك لا يدركون أنهم يتحركون فوق قناة مائية مسقوفة تجوبها بواخر تخترق أعماق الأرض الباريسية».. قبل أن يأخدنا الرجل في رحلة رائقة إلى دروب العمل السري وأسئلة الوجودية كمذهب وفلسفة. ودروب العمل السري ترتبط بالمقاومة الوطنية الشعبية لأهل باريس ضد التواجد النازي بالمدينةوبفرنسا. خاصة الإنتفاضة التي نظمها الشيوعيون والديغوليون في تنسيق وطني سري مثير، صيف 1944. في باريس باهي، أخيرا، نقف معه عند تفاصيل المقهى الذي عمره 300 سنة، نعم 300 سنة، الذي هو « مقهى بروكوب » بالدائرة السادسة في قلب الحي اللاتيني، والذي أنشأه رجل إيطالي إسمه « فرانسوا بروكوب » زمن هجرة الإيطاليين الكثيفة إلى باريس في عهد آل مديتشي، وهو من أصل صقيلي، الذي أدخل شيئا جديدا غير مسبوق إلى سوق الإستهلاك بباريس وهي القهوة. أي ذلك المشروب السحري الأسود الذي سوف يزلزل قيم الإستهلاك كاملة في العالم. لنختم معه الرحلة بوقفة وداع في البرج الفضي للمدينة. الذي هو مطعم فاخر بها ويعتبر من معالمها الأثرية الباذخة. المطعم الذي أنشأ سنة 1582، في عهد الملك هنري الثالث. ولقد بني في البداية في منطقة خلاء، حينها بباريس قرب سقاء ماء شهير، كان يزود الناس بالماء الصالح للشرب بعد أن منعت بلدية المدينة الناس من شرب ماء نهر السين الملوث.. وفي هذا المطعم ستظهر كل الطقوس الفرنسية الأرستقراطية للأكل، وفي مقدمتها « الشوكة الملكية » ( الفورشيت ).. هذا هو كتاب محمد باهي، الفاتن حول باريس، الذي يخلد صاحبه في ذاكرة الوقت، ويعلي من مقامه في جغرافيا الإعتزاز به صحفيا مغربيا، وإنسانا عاش.