لا شك أن التوثيق لمسارات تكون نسق البناء النظري والتطبيقي للممارسة التشكيلية الوطنية المعاصرة، يفتح الباب أمام العودة المتجددة لمساءلة رصيد منجز الرواد الذين أسسوا للفن التشكيلي المغربي المعاصر. ولا شك أن رصد معالم التحول والخصب داخل هذه التجارب، يظل أمرا لازما لتشخيص مختلف أوجه القطائع القائمة/ أو المفترضة بين تراث العطاء «الفطري» وبين تقليعات الحداثة كما تحفل بها الساحة الثقافية الوطنية المعاصرة. ولا شك – كذلك – أن خلاصة نتائج البحث في هذه الإبدالات تشكل مدخلا لتطوير درس «تاريخ الذهنيات» كما بلورته مدارس الكتابة التاريخية العلمية المعاصرة.وإذا كنا – في هذا المقام – لا نزعم اكتساب الأدوات التفكيكية التقنية اللازمة لإنجاز التقييمات النقدية الضرورية لحصيلة عطاء أكثر من نصف قرن من الممارسة التشكيلية الوطنية المعاصرة، فإننا نؤكد – في المقابل – أن الأمر أضحى يستلزم انفتاحا متواصلا للمشتغلين بحقل كتابة التاريخ على حقول التشكيل وعوالمه التخييلية الرحبة، لا بهدف التوثيق للأحداث وللوقائع المميزة وتوطينها زمانيا ومكانيا، ولكن بهدف الاستثمار العميق لعطاء التراث الرمزي الذي تنتجه النخب في إطار اهتماماتها الثقافية المخصوصة والمرتبطة بسياقات تاريخية مميزة. ومعلوم أن المؤرخ يظل حريصا على الكشف عن الخيوط الرفيعة الرابطة بين عطاء هذا التراث الرمزي من جهة، وبين ظلاله الوارفة المرتبطة بتحولات الواقع المادي من جهة ثانية. إنه انفتاح منهجي يعيد قراءة التعبيرات المباشرة للتراث الرمزي، مع السعي المتواصل لتوسيع مفهوم «الوثيقة» كي تستوعب مجمل التطورات المعرفية والمنهجية التي يعرفها مجال علم تاريخ الذهنيات. وتأسيسا على ذلك، أمكن القول إن تنظيم الاشتغال على سجل الرواد في مجالات الإبداع مترامية الضفاف بين فنون شتى، لعل أبرزها المسرح والشعر والرواية والتشكيل والسينما …، يشكل مدخلا لا بد منه لفهم أسرار القطائع المعرفية التي أشرنا إليها أعلاه، وكذا تحديد سقف التحول المجتمعي الشامل المؤثر في الذهنيات الجماعية وفي التأملات الفردانية للذات وللمحيط، إلى جانب استثمار التمثلات الجماعية أو الفردية التي نقرأ – من خلالها – معالم الثابت والمتغير في تحولات الوعي الجماعي، وفي رؤى الذات تجاه نفسها وتجاه محيطها، ثم في أشكال التعبير عن قلق السؤال الثقافي للمرحلة. مناسبة هذا الكلام صدور كتاب تجميعي هام لحصيلة تجربة الفنان التشكيلي محمد المليحي، سنة 2014، للأستاذ محمد الشيكر، تحت عنوان «محمد المليحي: سيرة منجز»، في ما مجموعه 94 من الصفحات ذات الحجم المتوسط.والعمل إضافة نوعية لمجال الدراسات القطاعية الفاحصة لتحولات الممارسة التشكيلية ببلادنا منذ بروز معالم التأسيس الأولى خلال العقود الأولى للقرن 20، مرورا بمخاضات الولادة العسيرة لخمسينيات وستينيات نفس القرن، وانتهاء بملامح العوالم المميزة التي نجحت في التأصيل لمعالم تبلور المدارس الوطنية التشكيلية الراهنة، بعيدا عن النزوعات الفطرية أولا، والانزياحات المدرسية ثانيا، ثم الارتباطات الكولونيالية ثالثا. ولا شك أن الفنان محمد المليحي اكتسب، على امتداد عقود زمنية طويلة، كل شروط الريادة إلى جانب الأعلام الكبار للممارسة التشكيلية الوطنية الراهنة، من أمثال الغرباوي وشبعة وبلكاهية والقاسمي… لقد سعى هذا الكتاب إلى الاحتفاء بتجربة الفنان محمد المليحي في إطار رؤية جمالية، ترصد منعرجات التجربة التي تقلب فيها المليحي عبر محطات شتى، وتشكل تخصيبا لأفق جمالي لتطويع اللوحة والألوان في إطار نظيمة «الموجة» التي فجرت ملكة الإبداع وخزان الأشكال والألوان لدى المليحي. ويلخص المؤلف السقف العام لهذا الكتاب، قائلا في كلمته التقديمية: «إننا نسعى، في هذه المونوغرافيا، أن نقترب من عالم المليحي الجمالي ونتعقب مسارات وسيرورات تشكله، وندلف من صاحبه ومن رؤاه وأطروحاته، ومن أهم مواقفه وتموضعاته في المشهد الثقافي والفني المغربي. وككل عمل مونوغرافي يظل مسعانا هذا توصيفيا أكثر منه تشخيصيا، يرمي إلى الإشارة العجلى والإلماعة الخاطفة، أكثر مما يدعي الاستفاضة والإحاطة والتفصيل. إن المقصد أن نضع القارئ أمام سيرة ومنجز فنان عملاق في عيار محمد المليحي» (ص: 6). واستجابة لأفق هذا المطلب في البحث وفي التشخيص، انطلق المؤلف من رصد معالم التحول في تجربة الفنان محمد المليحي، بدءا من ظروف الميلاد بمدينة أصيلا سنة 1936، وتتبعا لمجمل المسارات التي ميزت مرحلة النشأة والتكوين. واستكمالا لملامح السياق العام كان لا بد من تشخيص خصوصيات وضعية التشكيل بالمغرب في ظل واقع الضغط الكولونيالي، وفي ظل نزوعات الفنان المليحي نحو التحرر من تمارين المدرسة الكولونيالية الغرائبية ومن أسئلة المدارس الغربية ما بعد الكولونيالية في التعامل مع الممارسة التشكيلية. فعند عودته إلى المغرب سنة 1964 التحق بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء لتدريس الصباغة والنحت والتصوير الفوتوغرافي. وفي سنة 1965 ساهم إلى جانب بلكاهية وشبعة وأطاع الله وحميدي وحفيظ وطوني مارياني وبيرت فلانت في تأسيس «حلقة 65»، على أساس الانخراط في المشروع الثقافي الحداثي البديل، كما كان ينظر له ويحلم به جيل التأسيس.وفي سنة 1966 ساهم الفنان المليحي إلى جانب عبد اللطيف اللعبي ومصطفى النيسابوري في تأسيس مجلة «أنفاس» كتعبير عن آفاق جديدة لتكييف الفعل الثقافي المبادر مع التحولات المجتمعية لمغرب ستينيات القرن الماضي، في ظل انبثاق خطاب يساري انخرط في حلم المغامرة الكبرى للتغيير. ومنذ سنة 1970، أخذ محمد المليحي في الاعتماد على «الموجة» كعلامة إيقونوغرافية مميزة وكموضوعة جمالية أثيرة في خطابه البصري. ومعلوم أن تحولات هذه «الموجة» وانزياحاتها الهندسية والجمالية والتعبيرية أضحت علامة فارقة ومهيمنة في التراكم البصري للمبدع المليحي، منذ تلك الفترة وإلى يومنا هذا. وعلى أساس ذلك، أصبح الفنان المليحي مرجعا في الثقافة التشكيلية الوطنية المعاصرة، وأحد أبرز منظري توجهاتها الحداثية النوعية. وقد لخص الأستاذ الشيكر هذه القيمة الثقافية الريادية في كلمته التصديرية، عندما قال: «يعتبر اسم محمد المليحي جزءا لا يتجزأ من الحداثة الإستتيقية في المغرب الثقافي المعاصر، إن لم يكن يمثل وعيها الجمالي اليقظ، وصوتها الطليعي الأكثر فعالية والأوسع حضورا. فلم يكن، شأنه شأن أصدقائه في «حلقة 65»، يتمثل الحداثة بوصفها ذلك الإبيستمي الجمالي المقترن بالغرب والموقوف عليه، بل عانقها باعتبارها موقفا جماليا ونمطا وجوديا وحضاريا يؤسس فيه الفنان علاقة مغايرة مع الذات والتراث من جهة، ومع الغير والعالم من جهة ثانية». وعلى امتداد عقود النصف الثاني من القرن 20، استطاع المليحي بلورة مشاريع ثقافية رائدة، أصبحت تشكل إحدى دعامات التوثيق لعطاء الممارسة التشكيلية الوطنية الراهنة. وسواء داخل المغرب أم خارجه، ظل المليحي يحمل «إيقوناته» المستلهمة من خصوبة التراث المحلي لمدينة أصيلا، ومن عشق صوفي للحمولات الثقافية الرمزية لهذه الإيقونات. ولعل هذا ما يفسر انخراطه في مغامرة التأسيس، بمعية رفيقه محمد بن عيسى، لتجربة مهرجان أصيلا منذ سنة 1978، وهي التجربة التي استقطبت تجارب تشكيلية عالمية، وبلورت رؤى بصرية مجددة مثل الجداريات والمعلقات والورشات … وفي كل هذه المبادرات، ظلت «بصمة» الفنان المليحي قائمة ومعبرة عن رؤاها الجمالية الواسعة، وعن عمقها الأكاديمي المجدد، عبر مختلف الأنماط التواصلية التي ميزت مهرجان أصيلا. فبصمة المليحي كانت حاضرة في كل شيء، من الملصق إلى الإعلان، ومن المعرض إلى الجداريات، ومن تصفيف أرضية المدينة العتيقة لأصيلا إلى أوراش النحت والرسم بقصر الثقافة (قصر الريسوني). لكل ذلك، أمكن القول إنه لا يمكن قراءة تلاوين الفعل والعطاء والتجاوز والتجديد والانبهار والجمال في الممارسة التشكيلية الوطنية الراهنة، بدون الإحالة المستمرة لتجربة الفنان محمد المليحي. ولا يمكن تتبع جزئيات التحول بالنسبة «لمدرسة أصيلا التشكيلية»، إن صح هذا التعبير، بدون استلهام عطاء هذا الفنان الذي أضحى حضوره الرمزي والثقافي علامة مميزة للهوية البصرية لمدينة أصيلا، وهي الهوية المهيمنة التي أرخت بظلالها على الفضاء العام للمدينة، على الأقل منذ مطلع سبعينيات القرن 20، ولازالت تمارس سطوتها على الأجيال المتعاقبة للممارسة التشكيلية المحلية الراهنة. الأنساق الفلسفية والبلاغية في كتاب "الاستعارة والنص الفلسفي" يقدم الدكتور توفيق فائزي في كتابه الصادر حديثا عن دار الكتاب الجديد المتحدة ببيروت لبنان 2016 عملا أصيلا اختار له عنوان «الاستعارة والنص الفلسفي» في مساحة تتجاوز 530 صفحة، وهو عمل أكاديمي رصين يتوخى دراسة علاقة التخييلي بالتصديقي، فالأول مجاله الأدب، والثاني مجاله الفلسفة. والاستعارة بوصفها لُبَّ الشعري، بتعبير الباحث توفيق فائزي، هي أساس هذا العمل الذي يراوح بين دراسة الاستعارة والتمثيل منطلقا من الرؤية الفلسفية للاستعارة والتمثيل وتصوراتهم (أرسطو، الفرابي، ابن سينا، ابن رشد)، ودراسة الآثار الناتجة عن تصورهم الخاص عن الفلسفة وحدود الرؤية الفلسفية للاستعارة والتمثيل، وتقديم بدائل نظرية استقاها الباحث من رؤية قديمة هي رؤية ابن تيمية، وهذا التقويم سيَمس كلا من نظرية التصور والبرهان، مع انفتاحه على الرؤية الحديثة مع كل من دولوز وغرانجي. وقد عمل الدكتور توفيق فائزي وفق استراتيجية بحثية دقيقة ورصينة تتوخى التمهيد لتجاوز رؤية الفلاسفة، وبمعيتهم البلاغيون القدماء، لما هي الاستعارة وماهي وظائفها من خلال المقارنة بين الرؤية الاستبدالية التي يمثلها الفلاسفة والبلاغيون القدماء، والرؤية التفاعلية التي يمثلها ابن تيمية قديما، وجماعة من البلاغيين حديثا، لينتهي إلى اقتراح رؤية جديدة للاستعارة تراعي بعديها الناتجين عن التركيب والتمثيل. إن كتاب «الاستعارة والنص الفلسفي» للدكتور توفيق فائزي يشكل مراجعة دقيقة لميراث الفلاسفة وأهل البلاغة وتأملا دقيقا في مفاهيم لها أهميتها الكبيرة في الدرس الفكري والنقدي. وهذه الرؤى التحليلية لا يمكن فهمها إلا بالسفر نحو عوالم ومعالم هذا الكتاب الذي يتكون من باب أول حمل عنوان «الرؤية الفلسفية لنفسها والاستعارة والتمثيل قديما»، والذي يتضمن في الآن نفسه فصلا موسوما ب»تمييز الفلسفة» من خلال مباحث تعنى بنظرية التصور عند الفلاسفة، ونظرية التصديق الفلسفي، ونظرية البرهان الفلسفي. أما الفصل الثاني فقد خصصه الدكتور توفيق فائزي للحديث عن الاستعارة عند الفلاسفة من خلال مبحث يرصد مواضيع الحديث عن الاستعارة عند أرسطو وآخر يرصد الاستعارة عند الفلاسفة المسلمين، ويضم قسمين: الأول ارتبط بالاستعارة عند ابن سينا، والثاني بالاستعارة عند ابن رشد. أما الفصل الثالث فقد خصصه الباحث لدراسة التمثيل عند الفلاسفة من خلال مبحث يرصد مواضيع الحديث عن التمثيل عند أرسطو وآخر يرصد التمثيل عند الفلاسفة المسلمين وعلى نحو خاص من خلال أقسام تعنى بأنواع التمثيل وحقيقته عامة وعلاقته بالقياس والاستقراء ونظم التمثيل وجهتي الانتقال في قياس الغائب على الشاهد وبيان قياس الغائب على الشاهد، وهو القياس الفلسفي أيضا، وتقويم التمثيل، وأنواعه في كتاب الخطابة ومناسبة الأمثلة. فضلا عن مبحث يعنى بالتمثيل الفلسفي القصصي. الباب الثاني من هذا الكتاب حمل عنوان «حدود الرؤية الفلسفية للاستعارة والتمثيل»، ويركز في فصله الأول على تقويم رؤية الفلسفة لنفسها قديما: مثال ابن تيمية من خلال مبحثين، يعنى الأول بتقويم نظرية التصور من لدن ابن تيمية، والثاني بقياس التمثيل بديلا لقياس الشمول. وارتبط الفصل الثاني بتقويم الفلسفة لنفسها حديثا من خلال مبحث يرصد نظرية التصور الفلسفي، وآخر يرصد نظرية الاستدلال الفلسفي في ضوء الدراسات الحجاجية المعاصرة عبر أقسام ترتبط بالتقصي العلمي الدقيق للأبعاد الجدلية والخطابية والشعرية للفلسفة وعودة إلى مساءلة الوضع القديم، وعن ميلاد الدراسات الحجاجية، ومقتضيات تتعلق بالحجاج الفلسفي عند بيرلمان، والمنطق الفطري لدى غريز، والنظرية التكاملية للحجاج الفلسفي عند كويتا. وتضمن الفصل الثالث الموسوم ب «الاستعارة بين الرؤية الاستبدالية والرؤية التفاعلية» مباحث تشير بالتحليل الدقيق إلى بعض الرؤى الفلسفية البديلة عن الاستعارة والتمثيل في الفلسفة، والوضعية المنطقية وفلسفة اللغة العرفية من خلال قسمين، خصص الأول لبرغسون ونيتشه، والثاني للاستعارة الكبرى عند دريدا. في حين حمل المبحث الثالث عنوان «نحو نظرية للتمثيل والاستعارة الفلسفيين» وفق مباحث ترتبط بصورة جديدة للفكر من خلال نظرية لايكون وجونسون، وخصوصية التمثيل والاستعارة عند البلاغيين عامة وعبد القاهر الجرجاني خاصة، وخصوصية الاستعمال الفلسفي للاستعارة والتمثيل، والاستعمال الجيد والاستعمال الرديء للاستعارة، ووظائف الاستعارة والتمثيل الفلسفيين. واختص الفصل الخامس والأخير من هذا الكتاب بتقديم تمثيلات ونماذج تطبيقية من خلال مبحث التمثيل آلية مستعملة في فلسفة أفلاطون، ومبحث آخر يرصد التمثيل الفلسفي من خلال تماثلية الموجود، ومبحث ثالث يتغيى رصد تمثيلات واستعارات في المتن الأرسطي ومتن الفلسفة الإسلامية، ومبحث رابع يرصد استعارة الحلم عند ديكارت وكانط وشوبنهور. واختص المبحث الأخير بدراسة نماذج من التمثيل الفلسفي القصصي. هذا الكتاب يمكن الباحث من تتبع منعطفات الاستعارة وأنساقها، وقسمات الرؤى لدى البلاغيين والفلاسفة في مستويات متعددة. وهذا العمل الأكاديمي سيمكن الباحث من الوعي بأهمية الاستعارة ومنزلتها ووظائفها التي لا تنحصر في وظيفتها البيانية والبلاغية أو وظيفة التحسين والتزيين فحسب، ولكنها تتجاوز ذلك إلى وظيفة حجاجية وجمالية فضاء المكان في ديوان «رماد اليقين» ينتشر ديوان «رماد اليقين» للشاعر محمد بلمو على امتداد 75 صفحة من الحجم المتوسط، حظي بتقديم ناصيته من طرف الناقد عبد الجليل الأزدي. وبين مبتدأ الديوان ومختتمه، ارتسمت فضاءات نصية يؤثث معالمها وعوالمها كثير من الرماد ومثيله أو يزيد من اليقين، وهما معا يستدعيان مفهومية مركزية تتناسل عنها ثنائيات ضدية مسطورة بإحكام، مثيل الضحك والبكاء، الليل والنهار، الحرية والقيد، الحضور والغياب، العرض والجوهر، البراني والجواني.. في تساوق نصي مقتدر، ينضاف إليه ويجاريه كل ما له علاقة بسعادة وتعاسة المهزومين والمقصيين والمحرومين من نعمة الشبع والاستقرار، مع كل ما تلزمه من طقوس الخبل والهبل ومخلفات المآثم من ميْت وحي. أول ما يواجهنا في هذا الإبداع البديع ثنائية رماد اليقين، التي أرادها الشاعر رسالة حبلى بالانزياحات والدلالات الفكرية والسياسية والاجتماعية. وباعتبار «رماد اليقين» نموذجا لنص مهيمن، فقد طُرحت لدينا بشأنه مسألة مبتدئه (عتبة العنوان) ومختتمه (قصيدة «رماد اليقين» ص75 من الديوان) مجموعة من التساؤلات والاستفهامات المرتبطة بماهية الرماد وتقليعة اليقين، وما يدور في فلكهما من مفاهيم التباعد والتقارب، ومدى ما يُحتمل أن يجمعهما من علائق ناظمة. فهل الأمر يتعلق باحتمال تجاوز الحقيقة والزيف وتساكنهما؟ وهل بالإمكان أن يجعل هذا الإعناء من الرماد مؤشرا على ظهور اليقين والحقيقة؟ أم أن ظاهرة التواري لا تعدو أن تكون مجرد تأجيل مقصود لفعل الاشتعال حتى تذرو الرياح الرماد. يقول الشاعر في باب درء الفتنة الذي يقترب من هذا المعنى: وأرى تحت الرماد وميض جمر ويوشك أن يكون له ضرام والأمر هنا شبيه بمنطق الانشغال والاشتغال لدى محمد بلمو، حيث يتطاير الرماد ويشتعل اليقين، فيشتاط الشاعر غضبا وثورة ويستعر نارا موقودة على المألوف والموروث من الحياة والمعتقد، بوجودهما تتعطل للتو حركة الدوائر وتُعاق جراءها كثير من المصائر. بهذا المعنى يصبح مؤدى المنطوق أن «تحت الرماد رجل يحترق» أو بلمو يحترق. حينها يفهم أن الحصار قد أكمل دورته حول الشاعر لِتَبَحَّ الأصوات وتجف الأقلام وتُصادر الصحف، وتتزاحم في مخيلته صورة الجبل والنهر والبحر بشكل يبعث على الطيرة وانفراط العقد والعدد. ويبقى الشاعر وحيدا في مواجهته نوائب الدهر، شغوفا بتحمله، لكأن الصبر يفزع من صبره كما يقول في ص 19: «حين يفزع الصبر من صبري»، بل إن الجمر نفسه لن يجرؤ على التمادي في إحراق الشاعر، فاتحا أمامه آفاقا منتظرة واعدة. يقول في تفاؤل حذر ينم عن قليل من القلق الوجودي: أمتيقن أن زهرة الجمر التي اشتعلت لن تتمادى في إحراقك وأنك لن تتيه بعد كل حرف وأن الشعرة التي تشدك للحياة لن تضيع وبزوال الرماد وانتفائه وظهور اليقين وانجلائه تكون صورة اللغة (العنوان) قد تماهت أو تكاد في لغة الصورة (اللوحة) لتظل انتفاضة اليقين على الرماد شرطا من شروط الحياة وناموسا من نواميس الأحياء، وتبقى الذات الشاعرة مُشْرَعَة على كل الاحتمالات، تواقة باستمرار إلى ركوب الريح ومعانقة الحلم، اعتقادا منه أن الحلم : وحده لا يستطيع الحراس إلقاء القبض عليه إنه القلق الشعري الذي طالما اكتوى الشاعر بلظاه، وتحمل بشغف كبير أوزاره وأضراره. فبمعانقة الشاعر للحلم يصبح بإمكانه وحده ألا يترك للشمس متسعا للعدول عن المغيب: لن تذهب الشمس إلى سريرها هذا المساء. فضاء القصائد: أما على مستوى فضاء قصائد «رماد اليقين»، فتتوزع حسب تراتبيتها في الديوان على أربعة أصناف: فضاء سلا: ويشمل قصائد تحمل توقيع هذه المدينة التي حل بها الشاعر نازحا غير مطمئن على المصير، والتي يبلغ تعدادها سبعا: غياب، التي استهل بها الشاعر ديوانه والموقعة في 23/10/2007. سيشمت الزرنيج في الورد، وهي بتاريخ 31 مارس 2006. هل أنا الريح أيها المداد، التي تحمل توقيع 21 مارس 2009. تعريفات بدائية جدا، التي هي تعبير عن موقف الشاعر من المرأة والسياسة وغيرهما من المواضيع الحساسة، وقعت بين 16 و24 يونيو من سنة 2010. وأخيرا قصيدة هل يحدث الآن، المؤرخة في 24 يناير من سنة 2011. فضاء الرباط: وتمثله قصيدة واحدة ووحيدة «لو بمقدوري»، التي فتحت ب»لو» بابا آخر من الامتناعات الوجودية ومن مؤشرات العجز وعدم القدرة على إنجاز الفعل، ما يدعو إلى الحيرة والوهن. فلا سلا سلت ولا الشاعر، ولا الرباط فك قيد الطائر الجريح وحرره من المعتقل. فضاء زرهون: وتعكسه عوالم قصيدة «رماد اليقين» التي وقعها الشاعر منذ أمد بعيد بتاريخ 14 يناير 2005، والتي تعد حمّالة الديوان، ومصدر إلهام لكل القصائد والمقاطع واللازمات السابقة واللاحقة لا فرق. إنها معا بداية الديوان ونهايته، وتجسيد لقلق شعري على التاريخ والجغرافيا. فلم يكن لينتهي الشاعر من ديوان «رماد اليقين» حتى بدأ بالقصيدة التي تحمل نفس العنوان، مما فتح للشاعر آفاقا رحبة من الطموح والأمل غير المسبوق، ويُسيل مداده بلا انقطاع. لقد اجتمعت في فضاء القصيدة/الديوان، دفعة واحدة، مفاهيم المولد والمورد والموقف والخيبة والقداسة والدنس. إنه فضاء الكوابيس والحلم الجميل والتأكيد على الهوية والاعتزاز بالانتماء، أراد الشاعر من خلالها أن يفك العزلة عن مدينته زرهون، موقع قدم في جغرافيا الوطن، وينفتح أمام الشاعر، بموجب ذلك، موقع قلم في خارطة الشعر الحداثي المغربي، تستجيب لطموحاته، خصوصا «أن الشمس طالعة كل صباح». فضاء القصائد غير الموقعة: ويبلغ عددها ثلاثا: «حلم»، «لا موطئ قلم..لي»، «ورشات مرتبكة ضد الموت». وهي عبارة عن غيض من فيض «رماد اليقين»، مجرد أفلاك، تتلقى من المركز جمرها ونارها قبل أن تلتقي بأخواتها في رمادها ووهجها. لقد أمكن للقصيدة الأم «رماد اليقين» أن تنجب أخوات لها من طينتها، يرددن للأجيال القادمة حكايات غير طريفة عن زرهون وأهلها. ولولا «رماد اليقين»/زرهون التي بر بها الشاعر وبرت به، ما كان لهذا الطائر الجريح أن يجد لنفسه في الوطن موقع قلم ولا قدم. السيادة الثقافية لعلَّ المزيَّة الأولى التي أخذناها، عن البحث العلمي، أنَّ على المرء أن يتحوطَّ لنفسه، عند إبداء الرأي، وأن يتخذ له من العدة المعرفية ما يكون له سندا، وأنْ يصدرَ عنْ أهليةٍ متأتيةٍ من تقليب النظر في نازلة، تمحيصا وافتحاصا، حتى إذا أعربَ لم يكن مغربا، وحتَّى إذا عجم العيدان توسم منها ما يكون ذا أثر في بناء القول. تعلمنا، في كلية الآداب، أن نعبرَ من الأثر إلى الخبر، ومن الهُويَّة إلى الماهية، ومن الكلام إلى دواعي الكلام، ومن النزول إلى أسبابه وأطره وسياقاته، ومن الرواية إلى الدراية باتخاذ المنطق إطارا واعتماد استبار المعنى منهجا. وتعلمنا، على مقاعد البحث العلمي، في الجامعة المغربية على يد الكبار الماهدين الرائدين، أنَّ بين الحقول المعرفية حبلا سُريا، وأنها ذات نسب، وأنها تتقاطع ولا تتدافع، وأنها حيوية اتصال ينأى عن كل انفصال. وأدركنا، ونحن بعدُ في ميعة العمر، أن لا مفاضلة في العلم وأنْ لا منازلة بين التخصصات، وأن لا تقدمة لهذا على ذاك، وأن لا فضل، لأيتها، إلا في ضوء ما يتأتى للمحيط أن ينتفع بها في بحثه عن ذاته، وفي حث سيره إلى ما ينشد من ارتقاء البلد، موقنا أن ذلك الارتقاء لا يعدو حلما أو لا ينفك هذيانا إذا لم يترتب عن رؤية شمولية يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي، ويتفاعل التربوي والثقافي، ويتكامل التنظيري والتطبيقي؛ وتلك من مهام المؤسسة كيفما كان وضعها ووقعها، وتلك من مسؤولية المؤسسة المنوط بها تدبير الشأن العام، وينخرط فيه الشأن التربوي / التعليمي، وتلك من وظائف المؤسسة، متنزلة من رئاسة الحكومة وإلا ما الفاعلية الإجرائية لتصريح حكوميٍّ يعرض على البرلمان بغرفتيه؟ بذلك هلْ يعتدُّ بمقترح وزيريٍّ إذا لم يكن متفرعا عن الخطة الشمولية للحكومة؟ وبذلك هل يمكن اعتبار تصريح وزير، حول قضية ما، منفصلا عن الرؤية العامة للحكومة؟ وإذا كان كذلك أليس في الأمر خلل تنزيليٌّ يسأل عنه فقهاء القانون الدستوري. هلْ تنتج كلية الآداب «العاطلين»؟ وهلْ يمثل الحاصلون على الباكلوريا، من الشعبة الأدبية، خطرا؟ وهل كان السيد وزير التعليم العالي جادا عندما استنبت ذلك الخطر في تربة لا جذور ولا رواء فيها؟ وهل كان ذلك الاستنبات متصلا بمعطيات مستخلصة من مقاربة علمية لتلك البطالة ولهذا الخطر أم أنَّ الأمرَ إعادة إنتاج لرؤية طفق بعض المسؤولين يقول بها منذ عقود؛ ومنهم من شغل رئاسة جامعات، وكان آتيا إليها من تكوين» علمي»، وكان آخر قادما من تكوين» أدبي»؛ وهما معا يعتبران أنَّ كلية الآداب فاقدة جسور مع المحيط، وكأنَّ منْ مهامها توظيف الطلبة عقب تخرجهم، وكأنْ ليسَ شأنَها تكوينُ الطلبة تكوينا علميا يؤهلهم لممارسة الحياة، وللمساهمة في بناء الوطن، وكأنَّ القانون المنظم للتعليم العالي يشترط إرفاق الدرس بالتوظيف. أذكر أنني قلت مرةً لرئيسة جامعةٍ، وقد ألمَّتْ بشيءٍ من فيض كليات الآداب عن الحاجة، إنَّ مؤسسي» النهضة الفكرية في المغرب «أساتذة كلية الآداب، وأنَّ منْ أسهموا في تطبيق اسم المغرب شهرة في آفاق الشرق والمغرب خريجو كلية الآداب، وأنَّ من قاد الحركة الوطنية طلبة القرويين ومؤسسو المدارس الحرة، وأنَّ من ناب عن المؤسسة، وإلى الآن، في كتابة التاريخ الثقافي المغرب، بكل مكوناته، وطنيون أفذاذ، وأنَّ من كوَّن الأساتذة الذين قلصوا نسبة الأمية الأبجدية أو الثقافية مؤطرون من كلية الآداب، وأنَّ الذين ينفقون ما بأيديهم ليطبعوا كتبا ينتفع بها الطلاب هم أساتذة كلية الآداب في غياب محترم للمؤسسة، وأنَّ منْ يؤطر الباحثين، تدريسا وإشرافا ومناقشة، هم أساتذة كلية الآداب، وأنَّ من يحتضن السيادة اللغوية والثقافية للبلد هي كلية الآداب. لا تنتج كلية الآداب» العاطلين»، فهذه الدعوى تنتظم مختلف المؤسسات الجامعية، بما فيها كلية العلوم والتقنيات، التي يرتئي السيد الوزير أنها الخليقة الأولى بتقدم البلاد، وتلك ناجمة عن عطالة المخططات الحكومية، ثلاثية وخماسية، وعن افتقارها إلى قراءة مستقبلية في ضوء المتغيرات الدولية وما يحتمل منها، واستنادا إلى احتياجات المغرب ضمانا للتوازنات؛ ومتأتية عن عدم إدراك دور المدرسة في إدامة التماسك المجتمعي بما تنهض به تنويرا وتطويرا للعنصر البشري، منذ الابتدائي إلى العالي، وعاكسة للتذبذب الذي يعرفه قطاع التعليم منذ أربعة عقود على الأقل. لا تنتج العطالة كلية الآداب لأنها، على الأقل، تخرج طلبة يتقنون الإنجليزية التي يتنعم السيد الوزير بلذاذاتها، علما أن لا لغة أجنبية تحل محل اللغة الوطنية لأن في ذلك خرقا للدستور، وإدراكا، وأشك في اقتدار البعض على إدراكه، أن التمكن من اللغات يترتب عن حذق اللغة الأم، ولأنَّ الدول المتحضرة لا تقصر المعرفة على جانب دون آخر، ولا تقول بكون كليات الآداب فضلة، بلغة النحاة، بل تعتبرها عمدة تنضاف إلى عُمَدٍ ثانية لتشكيل مجتمع متوازن، مجتمع المعرفة، مجتمع الإنسان. كان خليقا بالسيد الوزير أنْ يقترح حلولا عوض تشخيص علة، وإلا فيم وجود وزارة التعليم العالي بكلِّ مستشاريها وأطرها؟ وكان حريا أنْ يقترح إنشاء مؤسسات جامعية للفنون الجميلة، وكان له أن يقول بكون البحث العلمي يستلزم إعادة نظر بما يكون تحفيزا على حركيةٍ ثانية تفضي إلى الاقتراب من مجتمع المعرفة، وكان أولى به الإلمام بكون ما اعتبر إصلاحا جامعيا، منذ ما يقارب عقدين، ليس من الإصلاح في شيء، وكان أجدرَ إحقاقُ شراكة حقيقية مع النقابة الوطنية للتعليم العالي لإعادة تأهيل المؤسسات الجامعية، بدل الانفراد بالقرار، وبدل المصادقة على مسالك ومسارات وماسترات تسعف، برأي السيد الوزير، في تخريج عاطلين؛ والمسؤولية تتحملها الوزارة الوصية، وكان ألزمَ الاستبشارُ بكون نسبة الناجحين في الباكلوريا ارتفعت، فذلك هو الطبيعيُّ، ولأن وظيفة المدرسة تنشئة التلميذ، تربية وعلما، لينجح وليس ليرسب. وما دام السيد الوزير مقتنعا بما تقترفُ كلية الآداب والعلوم الإنسانية بإنتاج «عاطلين»، فهل له أن يتخذ قرارا بتغليق أبواب تلك الكليات حتى لا يستبق إليها الراغبون، وحتى تصدق الرؤيا بكون سبع سنابل ما إنْ لها خضرةٌ، وبكون صواع دُسَّ في خرج التدبير، وبكون الريح لم تهبَّ، فإذا البصير ليس بصيرا، إذا كان من صلاحياته ممارسة حق التغليق؟ وطبعا ليسَ لأنَّ كلية الآداب تنتج العطالة، وليسَ لأنَّ تنامي نسبة الناجحين، من شعبة الآداب العصرية، في الباكلوريا ذو خطر، بل لأنَّ» الأدب في خطر». عين اللوح تقع عين اللوح وسط جبال الأطلس المتوسط، تعلو على سطح البحر بحوالي 1450 م، وتبعد عن مدينة أزرو ب 28 كلم تقريبا. وهي جماعة قروية تابعة لعمالة إفران دائرة أزرو. تحد شمالا وشرقا بجماعة سيدي المخفي وجنوبا وغربا بجماعة واد إفران. سكانها الأوائل هم قبائل بني مكيلد المكونة من فرق آيت مولي وآيت مروول وآيت محمد ولحسن وآيت واحي وآيت إلياس. تنتسب القبيلة إلى الولي الصالح سيدي مكيلد المنحدر من تافيلالت دفين جبل سيدي مكيلد. بعد التقسيم الجغرافي الأخير تغيرت الملامح سياسيا وانتخابيا… يعود أصل التسمية إلى الخشب (اللوح)، حيث كان سكان المنطقة يبنون به منازلهم، وهو من أشجار البلوط (الكروش) وأشجار الأرز. ولا يبدو أن العين هنا تشير إلى عين أو منبع الماء كما هو الشأن في عين فزوان أو عين الركادة، فينابيع أم الربيع توجد بعيدة ببضعة كلمترات. إثنوغرافيا: أجمل توثيق حي لعين اللوح هو ذلك الذي نعثر عليه في شريط بالأبيض والأسود تحت عنوان «يوم أمازيغي» 1951 من إنتاج المركز السينمائي المغربي والأخبار الفرنسية- ربورتاج فيليب إستي. يرصد الشريط بائعا للملح وهو في رحلته التي تمتد من الأماكن الصحراوية حيث الأحجار والصفائح الكبرى للملح المسماة «صخور الحجر الجيري» إلى عين اللوح عبر الجبال والسهول المغطاة بأشجار الأرز. ويبدأ الشريط بمشهد من الشرفات الجبلية المطلة على المدينة في اتجاه السوق الأسبوعي. ينقسم يوم التبضع إلى شطرين: الصباح والمساء، وبينهما قيلولة تمتد بعد الغداء إلى ساعة وأكثر. في بداية الشطر الأول نشاهد بائع الملح بجلبابه الأمازيغي التاريخي المصنوع من الصوف وعمامته البيضاء ولحيته القوية المصفوفة رفقة صديقه أو معاونه وهو يهش على حماره المثقل بأحجار الكلس الملحية. ثم نشاهد لقطة غاطسة لسرب من اللقالق على المدينة وعلى حقولها وسطوح بيوتاتها الواطئة باتجاه السوق الأسبوعي. يفتتح هذا الأخير بجماعة من العميان ملفوفين في جلاليبهم السوداء يرتلون القرآن الكريم كإيذان بانطلاق عملية البيع والشراء. مبيعات من كل صنف: الخبز والبهارات والتمر والحبوب والماشية والدواجن والصوف والكتان.. وطبعا الملح. وهنا في ركن ما من وفر وقتا للعبة «الضامة».. في عين اللوح نمرح بأقل شيء تقريبا. وفي لحظة مخصوصة يقف «البراح» فوق السطوح صائحا يعلم الناس بالأخبار المدنية العمومية والتجارية كما حددتها السلطات المحلية. الملاحظ أن المعاملات وآداب التواصل تتم بالدارجة المغربية، في حين سيكون الغناء مساء بالأمازيغية. هكذا تنتهي الجولة الصباحية من السوق فيخيم الهدوء والسكون شيئا فشيئا على عين اللوح إلى أن يستتب بها الخمول في وسط النهار وتتمطط الكلاب والقطط تحت ظل شجرة أو حذاء بضاعة ما وتتوارى الأبواب محدثة صريرها المعهود وراء قاطنيها ويفترش بعضهم الأرض وتنام العين. وحده نفس ثقيل يسيطر على المدينة. إنه طقس راحة يبدو مقدسا. أما الشوط الثاني فهو شوط للزيارات وتفقد الأحباب أكثر منه للتبضع. في الطريق لا بد من مد العون للمعوزين الساعين، ولا بد من إكرام الشحاذين العميان على الخصوص الذين يفترشون الأرض عند مدخل السوق. وكانت الأزقة الخلفية للمدينة قد امتلأت بالأطفال، ذكورا وإناثا، بشغبهم وضجيجهم. قصد صاحبنا الأمازيغي حوانيت مختلفة، واحدة اشترى منها بلغة وربعة (عكس تلك الحادة المسماة فاسية) وأخرى اشترى منها هدايا وألبسة… وكانت سماء عين اللوح تعبق بروائح الكسرة (الخبز) ورائحة الخشب (الأرز) ورائحة حوافر الأحصنة (الشياط) ومختلف الروائح، بما فيها العشب الخضر. وينقلنا الشريط إلى مختلف الصناعات المعروفة البلد كصناعة الأسلحة التقليدية وصناعة الفضة و… نساء جميلات خلف أبوابهن بدون نقاب أو حذاء أكوام صوفهن، ومنهن من تصبن ملابسها أو ملابس الآخرين، ومن تنظف القمح والبر بساقين ناصعتين ناعمتين ممتلئتين. وفي آخر المساء يتوجه صاحبنا إلى المقهى المغربي، وهو شبه كازينو أو نادي المدينة حيث الشاي والكيف والراقصات الجميلات الصغيرات وهن يصدحن بالأهازيج الأمازيغية حتى وقت متأخر من الليل… ويودعنا الشريط بتحليقات رائعة للقالق في سماء عين اللوح. أحيدوسفيليا: حب أحيدوس هو حب (فيليا) للذاكرة وللفن الشعبي الأمازيغي. وهو فن غنائي جماعي استعراضي. نبع من منطقة الأطلس المتوسط بالمغرب. يعتبر البندير (تالونت) الأداة الموسيقية الوحيدة المستعملة في الإيقاع وترافقه الأكف والأصوات النسائية والرجالية وهم في شكل صف مختلط أو نصف دائري أو صفين متقابلين، ويصمم الرقصات وآداءها رئيس الفرقة أو المقدم أو الرايس. أحيدوس جمعه أحيداس ويسمى أيضا أورار، وتعني الكلمة اللعب، وهناك من يقول إنها تعني الرقصة الجماعية. تتكون هذه الرقصة الاستعراضية من عنصرين مهمين، هما: الحركات الاستعراضية والشعر الغنائي. أحيدوس وحدة حركة عامة. يمكنها أن تنقسم إلى فواصل حركية صغرى. وكل فاصل يقوم بإنجازه الراقصون والراقصات بانسجام وتوافق على نغمات وإيقاع «الإزلي» المختار. ويتم الانتقال من فاصل إلى آخر بإشارات من الرايس. أما الشعر (إيزلان) فهو إنشاد شخص أو شخصين ممن يحفظون الشعر ويتقنون إلقاءه. وهو يتكون عادة من بيتين يتم ترديدهما من طرف الجماعة اعتمادا على لازمة تتكرر، وإن كان لا معنى لها إلا الإيقاع. ومختلف الإيقاعات في أحيدوس هي : – النداء (تماويت)، وهو مقام «الصبا» يؤديه مغن يملك صوتا حادا وقويا. – الإيقاع الواحد والثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي… أخيرا لا يمكن الحديث عن أحيدوس دون الوقوف مليا عند المايسترو في هذا الغناء والمايسترو في التشكيل المغربي. المايسترو أشيبان: من مواليد أزرو 1916 بإقليم خنيفرة. فلاح وراعٍ للأغنام في الأطلس المتوسط ومحب للشعر والغناء. انخرط في الجندية وشارك في الحرب العالمية الثانية، وحين رفض أوامر عسكرية خرقاء أعفي من الجندية. ولما عرض عليه منصب قائد فيما بعد رفضه أيضا. تزوج ثلاث مرات وله نسل كثير. يكنى بالنسر نظرا لحركاته ولقسمات وجهه. لكن لا نحتاج أن نبالغ في إعجاب رونالد ريغان بالمايسترو (ومن يكون) لإكسابه عالمية موهومة، فالرجل حقا كذلك لصدق أدائه وخفة حركته وتناغم تنقلاته ورمزية إشاراته وتحكم يديه في ناصية البندير والإيقاع من جهة، وفي تسيير الفرقة إيذانا بالبدء أو الاستمرار في الإنشاد أو في إيقافه الحاسم للوصلة. يمكن مقارنته بكبار رؤساء الأوركسترا المهووسين بالموسيقى أمثال: لوران معزال وسايجي أوزاوا ودميتري كيتاينكو. كما يمكن مماثلة هالته بالسوبرانو لوسيانو بافاروتي. إن صدق أداء هذا الأخير هو الذي رفعه إلى عليين. لكن هيهات ثم هيهات، فلبافاروتي مؤسسة تسمى باسمه، فأين هي مؤسسة أشيبان للأحيدوسيفيليا؟ المايسترو التشكيلي الجيلالي الغرباوي: ولا يمكن الاقتراب من فضاءات أزرو وعين اللوح منطقة أحيدوس الخاصة بالمايسترو أشيبان دون الإشارة إلى فنان غامر: الجيلالي الغرباوي. ولد سنة 1930 بجرف الملحة وتوفي سنة 1971 غريبا مغتربا في حقل مارس بباريس، وهو الآن دفين مدينة فاس بجوار لسان الدين الخطيب وعبد الهادي التازي… «لا يذكر اسم الفنان التشكيلي الراحل الجيلالي الغرباوي في المحافل الفنية الخاصة والعامة إلا مقترنا بالتجريد كاختيار فني وجمالي، بل يعد أحد أساطينه المميزين والمبرزين، إن لم يكن يعتبر بإجماع أول فنان تشكيلي بالمغرب ركب موجة التجريد الفني …». لم تتح له هذه الريادة إلا بشرط إنساني تراجيدي: «ففي دير تومليلين، وهو عبارة عن خلوة رهبانية أنشأها القساوسة البندكتيون قرب مدينة أزرو سنة 1952، وجد الغرباوي ملاذا للسكينة الروحية ومأوى يؤويه، ويفزع إليه في لحظات الشدة وضيق اليد وعسر الحال. إذ وفر له الأب دينيس مارتان شروط الحياة المادية السائغة ووضع في مكتبه مرسما لإنجاز أعماله الفنية. في هذا الدير البندكتي القابع بين جبال الأطلس، والمركوز ملء غابته السادرة، كان الغرباوي يستعيد نشاطه وتوثبه، بل كان ينفق جهدا استثنائيا ويستغرق جزءا من آناء ليله وأطراف نهاره لإخراج مشروعه التجريدي الحداثي في لبوس فريد… لكن، بقدر ما كان الغرباوي يستغرق في العمل، بقدر ما كان يوغل في عالمه الذاتي الضالع في الانطوائية والهشاشة والانكسار». هذه العزلة وهذا التمزق والانهيار دفعاه إلى محاولتين للانتحار وإلى ارتياد مستشفى الأمراض العقلية. لم ينج منهما إلا بفضل سكينة دير تومليلين وسخاء كرمه. إن ضجة التنصير التي ارتبطت بالمنطقة، والتي غالبا ما حركتها وتحركها أياد خفية لا يمكنها أن تخفي عنا هذا الدور الإنساني الإيثاري لقساوسة أنذروا أنفسهم لخدمة العلي القدير. وفي مثل هذا الضجيج قد يساء فهم بعض لوحات هذا الفنان العظيم، خاصة تلك التي وظف فيها الشوك وأدوات التعذيب وصورة المسيح كاستعارات ورموز ليعبر من خلالها عن قدره التراجيدي الخاص وعن معاناته واستيهاماته… يمكننا الآن رؤية دير تومليلين من خلال شريط كزافيي بوفوا «آلهة وأناس»، وهو شريط ينطلق من حدث حقيقي وقع في الجزائر بمنطقة تيبحرين حيث اغتيل عدد من القساوسة الفرنسيين على يد إرهابي متطرف. لقد شكل دير تومليلين المغربي فضاء تصوير هذا الفيلم. ونظرا لحالة التدهور التي وجد عليها هذا الدير، الذي احتضن الجيلالي الغرباوي، كلف المسؤولون عن الشريط عائلة مغربية بحراسته والاعتناء به… يفيدنا أرشيف سوسيولوجيا الأديان أن دروسا صيفية عالمية كانت تعطى في دير تومليلين بين 1956 و1959، وأن ولي العهد مولاي الحسن كان قد ترأس آنذاك بعض دروس هذه الجامعة الصيفية، واقترح على مسؤوليها موضوعة التربية كتيمة للتداول. ويستفاد، حسب ملاحظة ماري روز مايو، أن مدير المدرسة العليا الإسرائيلية، ألا وهو إيمانويل ليفيناس، فيما أتصور، شارك في هذه الدروس الصيفية وأشاد باهتمام السلطان المغربي محمد الخامس بالجالية اليهودية المغربية ورعايته لها. «شاطوبريون» الوجهة الآن إلى «شاطوبريون».. الراشدي يحكي عن النخيل والأميرة غزلان تحكي عن الغرف المشرقة في أحياء «مرس السلطان». ترى ما الفرق بين الحكيين؟ مجرد حضور الماء، تختفي كل الالتباسات وتتضح الرؤى، لا شيء يمكن أن يطفئ حماسهما، الاختلاف دوخة. الحارس الليلي يقرأ شعرا.. سألته كيف حفظت كل هذا الشعر فقال: عندما كنت تلميذا في إعدادية ابن زيدون. ثم أضاف: رحم الله أستاذة اللغة العربية لالة زكية، التي لم تكن تقف على ساكن. الشيخ العدلوني يدخن ويفكر في التحليل النفسي للصخب. «أشفري» يمسك بكأسه، ويستحضر ألوان فساتين كارولين التي يتحدث عنها في قاموسه الشعري المسمى «ميتافيزيقا تتسكع في خمارة بدون سراويل». أمير شعراء حانة Poucet ينشر جناحيه ويتهيأ للطيران، ليحط في شارع أبي نواس لعله يعثر على نسخة من «مصحة الدمى» كي يخبر اتحاد كتاب العرب بأن عنوان «جناح الأوهام» في الصفحة 53 من الكتاب و»جناح العاهات» في الصفحة 85 من الكتاب نفسه. يقول الشيخ: – لكم واسع النظر.. سواء هنا في هذا المذود أو في مذود آخر!! أشعر بتعب وإرهاق، الكتابة عن ملائكة الليل، ليس بالأمر الهين. فكرت أن التعب والإرهاق، لا يمكن الإفلات منهما، ما دامت لعنة الكتابة تطاردني. هل الكتابة وهم، هراء، مرض عضال؟؟ البارحة قرأت عن رمزية الأشجار، الأشجار كالبشر، لكن هي أفضل حالا، لأنها تعمر أكثر، وحتى إذا ماتت فهي تموت واقفة. قال الراشدي: – أي رمزية في هذا.. أنت لا تقول إلا ما هو بدهي..!؟ في الجهة الأخرى من الحانة، توجد صورة الكاتب شاطوبريون بالأبيض والأسود. صورته توحي بالفطنة والنباهة والذكريات الجميلة والأليمة، من ذلك الزمن الكلاسيكي الغابر. أقول للشيخ العدلوني: – ماذا قدم هذا الرجل للأدب؟ لم أظفر منه بجواب.. كنت دوما أقارن بين صور أدبائنا وأدبائهم. شتان بين وجوهنا ووجوههم، غزلان الآن تغني، تقول شعرا وتغني، هي عصفورة حطت على غصن من أغصان شجرة «شاطوبريون» . لا فرق بين ميدلت وباريس. أقول لأمير شعراء حانة poucet: – صوتها عذب. يقول الأمير: – عذب كالتفاح. قال زيو زيو: – ماذا عن السنة الأمازيغية؟ قلت: – الغناء سابق على التاريخ. ابتسم الشيخ، خمنت أنه ينجر إلى الطرب أكثر من التاريخ، لا داعي للعودة إلى التاريخ، إلى الحرب والقتل والإبادة والمجاعة. التاريخ الآن، هو هذا الوجدان الذي تشتغل عليه غزلان، لا أحد يريد النظر إلى الوراء، أبصارنا كلها متجهة إلى تلك الغابة، النائمة تحت الفخذين. غزلان تنظر إلى الراشدي، الراشدي ينظر إلى غزلان. طاولتنا، لا تشبه باقي الطاولات، لا أحد ينظر أو يبصر إلى «شاطوبريون»، لقد أصبح مجرد تاريخ، في آخر الليل كل شيء يتحول إلى تاريخ. الطاجين، السبسي، المنفضة، الفلسفة، منديل غزلان، لغط المومسات وطلبات السكارى الملحة والمحرجة. قلت للشيخ العدلوني: – الراشدي له مفاتيحه وغزلان لها مفاتيحها، فأين مفاتيحنا!؟