الطيب الصديقي، لملم حكاياته الممتعة.. أسدل الستارة ، وقدم مسرحيته الأخيرة.. في فمنا تسكن الكلمات صادقة.. تعلمنا أصول التعازي، وفن المواساة.. واليأس أكبر من مجموع كلمات.. في البيضاء، في واحد من مستشفيات هذا البلد.. غادرنا الصديقي إلى حيث لا نراه ثانية.. كان المرض قدره الحزين.. كان مسرحيا استثنائيا، كاتبا وفنانا تشكيليا، وواحدا من صناع الفرجة بالمغرب.. وكأن اللحظة ما كانت سوى مناسبة للبكاء.. كان الصديقي، عميد المسرح المغربي وكل الكلام تعازي.. التقيت الراحل في مناسبات كثيرة، كان رجل نكتة، وظل باب بيته مفتوحا للجميع وكانت المناسبة كتابة مذكرات الرجل، التي نشرت على صفحات "المساء" صيف 2014 .. كانت زوجته أمينة، التي كان الراحل يناديها أميرة، تعزز المذكرات بمعلومات وأحداث لا زالت تسكن ذاكرتها وكأنها جرت بالأمس.. رأى الطيب الصديقي النور في سنة 1937، ونشأ في أحياء مدينة الصويرة العتيقة.. لم يعلم الطفل حينها أنه سيكون واحدا من العلامات البارزة في المسرح المغربي.. دخل الطفل الصغير إلى "الكتاب" وكان والده فقيها ومؤرخا، كان يحرص على تدريسهم علوم الفقه والحديث في المنزل، وكانت أخته الكبرى تلقن باقي الإخوة اللغتين العربية والفرنسية وتروي لهم السير وحكايات وألف ليلة وليلة.. وفي سن الخامسة كان الطفل يتحدث اللغتين العبرية والعربية بطلاقة، قبل أن ينتقل رفقة عائلته إلى البيضاء سنة 1946، ليتابع بعد ذلك دراسته في حي "الحبوس"، فقد نشأ الطيب في جو مشبع بالثقافة، تربى وسط الكتب، كانت عائلته كلها متيمة بالقراءة، وتتنفس أوكسجين الفن.. لم يكتب للرجل أن يكمل مساره الدراسي بنجاح، فقد غادر المدرسة قبل أن يحصل على شهادة الباكالوريا، لكنه حصل بعد ذلك على أكبر الشواهد في المجال المسرحي أغنته عن الشواهد الدراسية، انتقل إلى فرنسا قصد التحصيل العلمي فقد كانت أمنيته أن يصبح مهندسا معماريا.. ولكن حلمه لم يكتمل.. ليصبح في ما بعد عميد المسرح المغربي.. تعلق الصديقي بالمسرح في السادسة من عمره، كان ذلك حين رافق والده ذات يوم إلى مراكش، فأعجب بفن الحلقة، انبهر الصغير بتلك الطقوس الجميلة في ساحة جامع لفنا.. وعلقت الحلقة بذاكرته، وتلكم سادتي بداية اكتشاف الرجل للمسرح عن طريق الحلقة التي كان يعتبرها مسرحا حرا وكان يفتخر بأنه حلايقي.. عاش الصديقي في وسط مشبع بالثقافة والفن، واهتم منذ صغره بالفن التشكيلي، ويوما بعد آخر كانت مواهب الرجل تتفجر، وكبرت أحلامه في أن يصنع لنفسه اسما في ساحة الفن المغربي.. في سنة 1953 سافر الطيب الصديقي إلى مدينة رين الفرنسية، كان الرجل يحلم بأن يصبح مهندسا معماريا، لكنه لم يجد ما يرضي غروره، فوظف مواهبه في صناعة الديكور بالمسرح الفرنسي، كان الطيب يعمل مترجما للأعمال المسرحية، ومسؤولا عن السينوغرافيا، وحدث يوما أن غاب أحد الممثلين عن أحد العروض المسرحية، فاقترح المخرج أن ينوب عنه الصديقي في أداء ذلك الدور، فنجح الصديقي وكسب ثقة كل الفنانين.. وكانت تلكم بداية مسار الصديقي في عالم التمثيل.. في سنة 1957، عاد الطيب الصديقي إلى المغرب، وأسس فرقة "المسرح العمالي" رفقة المهدي بن بركة والمحجوب بن الصديق وعبد الرحيم بوعبيد.. أنشأ الصديقي فيما بعد فرقة مسرحية تحت اسم "فرقة المسرح البلدي" والتي كانت تتخذ من المسرح البلدي مقرا لها، وقدمت أعمالا متعددة.. كما عين الراحل مديرا للمسرح البلدي.. و طيلة مساره الفني الزاخر بالأعمال المسرحية، كان للصديقي دور كبير في ظهور أسماء فنية كبيرة في ساحة الفن ببلادنا، واستطاع أن يشد اهتمام جمهور كبير من أجناس مختلفة إلى المسرح البلدي.. والكلام عن الصديقي قد يحتاج لصفحات طويلة لا تنتهي.. مات الصديقي.. وكل الكلمات عزاء صادق