مصطفى واعراب تمثل خبزة سيدي بلعباس أحد أشكال الصدقة التي لا تزال مستمرة إلى اليوم بالزاوية العباسية في مراكش. ويتعلق الأمر أساسا بخبز يصنع يوما في الأسبوع، وينسب إلى سيدي أبي العباس السبتي، ليباع بالمزاد العلني بعد صلاة مغرب كل يوم أربعاء. ويقبل الناس على المزايدة لشراء ذلك الخبز المبارك، الذي يسمى «خبز الأرْبَعِيَّة» كنوع من الصدقة، لعلمهم أن المستفيدين من ريعه هم المكفوفون المرتبطون بزاوية سيدي أبي العباس السبتي. ويكثر الاقبال على شرائه على الخصوص من طرف المرضى وذويهم، لاعتقادهم في أن الصدقة ترد المرض، عملا بالحديث الشريف: «داووا مرضاكم بالصدقة». يروى أن سيدي أبا العباس السبتي كان يطوف في الأسواق والطرقات ليحض الناس على الصدقة، ويذكرهم بما جاء حول فضائلها في الآيات والأحاديث. وكانت الصدقات تتقاطر عليه بعد أن اشتهر مذهبه، فيفرقها على المساكين وعابري السبيل ثم ينصرف لحال سبيله بعد أن يصرفها كلها. وبعد وفاة الشيخ السبتي، استمر جوده الأسطوري في إلهام الناس أشكالا مختلفة من الصدقات التي نسبوها إليه، حتى تشملها بركاته. ولعل أهمها في الزمن الراهن هي «الخبزة العباسية». خبزة سيدي بلعَبَّاس تمثل خبزة سيدي بلعباس أحد أشكال الصدقة التي لا تزال مستمرة إلى اليوم بالزاوية العباسية في مراكش. ويتعلق الأمر بخبز يصنع يوما في الأسبوع وينسب إلى سيدي أبي العباس السبتي، ليباع بالمزاد العلني بعد صلاة مغرب كل يوم أربعاء. ويقبل الناس على المزايدة لشراء ذلك الخبز المبارك الذي يسمى «خبز الأرْبَعِيَّة» كنوع من الصدقة، لعلمهم أن المستفيدين من ريعها هم العميان المرتبطون بزاوية سيدي أبي العباس السبتي. ويكثر الإقبال على الخصوص بين المرضى وذويهم، لاعتقادهم في أن الصدقة ترد المرض عملا بالحديث الشريف: داووا مرضاكم بالصدقة. وبحسب نسبة الإقبال، التي تخلف من أسبوع لآخر، يباع من خبز سيدي بلعباس قرص خبز أو قرصين أو أكثر، ضمن عرف يقضي باستفادة مكفوفي الزاوية، الذين يلقبون ب«أُولاد سيدي بلعباس» من جميع مداخيل صندوق الزاوية يوما في الأسبوع. ولأجل ذلك ينتظم المكفوفون ضمن «جمعية أبي العباس السبتي»، حيث يقال إن عددهم يناهز 2000 نفر من مكفوفي البصر. وتمنح الأفضلية بينهم في الاستفادة من ذلك الريع للحاملين لكتابَ الله في صدورهم (الفقهاء). وإن كان يُجهل تاريخ بداية هذا المزاد الأسبوعي العجيب لخبزة سيدي بلعباس، فالأرجح أنه ظهر بعد وفاة الولي الصالح بزمن طويل جدا يصل إلى قرون كثيرة، بدليل أننا لم نجد له ذكرا لدى كتاب المناقب، ولا الإخباريين، أو الجواسيس والرحالة الغربيين الذين كتبوا كثيرا عن مراكش، وعن الدين الشعبي المغربي على مدى القرون الماضية. فهم لم يشيروا لا من قريب ولا من بعيد إلى خبزة سيدي بلعباس، ضمن الطقوس المرعية قديما بالزاوية العباسية. أولاد سيدي بلعَبَّاس لقد نال الشيخ أبو العباس السبتي بركة جارية حيا وميتا، وفق ما يذهب إليه اليوسي في «محاضراته». ومن ذلك كانت له شهرة عظيمة بفضل البركة التي يحصل عليها من يتصدق لزاويته. فملأت أخباره (وأكثرها تغلب عليه مسحة أسطورية لا تخفى) مصنفات المناقب، وأشهرها كتاب التشوف لابن الزيات. كما مجدها اللاحقون في المأثور الشعبي، على نحو ما تروي الحكاية الشعبية التالية: «عندما أصبح سيدي بلعباس «مُولى مراكش» ودان له أولياؤها بعد أن كانوا يعتبرونه منافسا لهم، استدعى يوما تجار المدينة وسألهم: إذا دعوت الله لكم أن تربحوا مالا وفيرا، فكم تعطونني من أرباحكم؟ فالتزم له التجار بأموال كثيرة. وعندما حصل عليها سيدي بلعباس اشترى أملاكاً كثيرة، وجعل يوزع كل غلالها على العميان والمقعدين طيلة حياته، التي عاشها مصليا وبسيطاً ومنعزلا عن الناس.» في هدوء الظهيرة، كان ثمة رجل في الخمسين، يبدو من حركاته أنه أعمى، يمشي وحيدا في أزقة الزاوية العباسية. من دون مساعدة عصى أو إنسان، ومن دون أن يلفت انتباه أحد نحوه. كان يبدو عارفا طريقه جيدا. فالمكفوفون في حي زاوية سيدي بلعباس يكونون. في بيئتهم الاجتماعية الطبيعية، مثل سمك في نهر. كان انتباه الرجل مشدودا نحو أصوات تجهر بتلاوة للقرآن، تنبعث من مكان غير بعيد. وعند مدخل زاوية سيدي بلعباس، صارت الأصوات المرتلة جماعيا للقرآن أكثر وقعا على الأسماع. إنهم مجموعة من حملة كتاب الله المكفوفين يكرمون الشيخ صاحب المقام المقدس ببعض من كلام الله. يدخل الكهل الأعمى فضاء الزاوية العباسية بعد أن يتخلص من حذائه، تقوده حاسته السادسة وألفته الطويلة بالمكان، ثم ينضم بالجلوس إلى زمرة المقرئين المكفوفين، وينخرط معهم بحماس في تلاوة التنزيل الحكيم. رسميا، يستفيد كل واحد من هؤلاء المكفوفين الذين يلقبون ب»أولاد سيدي بلعباس» من مساعدات نقدية كل شهر، كما تتوفر لهم مؤسسة تعليمية تابعة للمنظمة العلوية لرعاية المكفوفين. لكن مبلغ المساعدة الشهرية، التي يحصلون عليها لا يزيد عن 250 درهما في أفضل الأحوال، أي عندما تكون مداخيل صندوق الزاوية العباسية جيدة. وارثو بركة الشيخ السبتي.. يحكي يوسف، وهو كفيف في الأربعين بلغة فصيحة سليمة يملؤها الإعجاب، أن الشيخ أبا العباس كان يطوف بالأسواق ليحض الناس على التصدق، فيغري التجار والميسورين منهم على الخصوص بأن العشرة بمائة، والمائة بألف: ومعنى ذلك أن ما يتصدق به الإنسان يجازيه الله بعشرة أمثاله. وفي هذا الصدد، يحفل الفولكلور المغربي بالكثير من الروايات الشفاهية، التي تمجد فلسفة السبتي حول الصدقات. لقد كان «سيدي بلعباس» يأخذ من بعض الناس ليعطي بعضهم الآخر، فلا يبقي من الصدقات لنفسه شيئا. بل إنه كان يتصدق بتسعة أعشار مما يكون عنده من ماله، وكان قليلا بحسب ما نعلم. وكان ثراؤه الحقيقي في البركة التي نالها في الدنيا جزاء لحسن صنيعه. وهكذا، يحكى أن امرأة أصيب ولدها بالجذام فسمعت عن كرامات أبي العباس السبتي، فأتته تبكي وتستنجد. سألها على عادته: «وأين الفتوح؟» وكان يقصد: «أين الصدقة؟»، فأخرجت له المرأة درهما صغيرا ومدته إليه. فطلب منها ولدها وناوله خيارة. وما أن أكل ابنها الخيارة حتى بدأ العرق يتصبب من جسده، ونام طويلا. وعندما استيقظ الولد من نومه كان قد شفي من الجذام تماما، وتساقط جلده المريض، كما يتساقط جلد الحنش! وطبعا تصدق سيدي بلعباس بالدرهم على فقير أو فقراء آخرين، وفاء لمبدئه. ولئن كان المكفوفون من «أولاد سيدي بلعباس» في الزمن الحاضر فقراء، لم يشفع لهم انتسابهم العباسي في تحسن أحوالهم، إلا أنهم يعتبرون في نظر المجتمع أغنياء برأسمال الزاوية الرمزي. فهم يعتبرون حتى اللحظة، الوارثين الشرعيين لبركة الشيخ السبتي. ولذلك يقصدهم الناس بالأعطيات والصدقات، ملتمسين منهم قضاء أغراض شتى، يرجون تحققها من خلال تلاوة القرآن والدعاء توسلا لبركة الشيخ أبي العباس. فالكفيف ينظر إليه عموما في المغرب باحترام خاص مشوب بكثير من الغموض، حيث يسمى في اللسان الدارج ─ ويا للمفارقة ─ (البْصير). فالله قد عوضه عن بصره المفقود بالبصيرة، أي أنه يرى بنور القلب بدل نور العينين الذي خبا. وبهذا المعنى يكون عموم المكفوفين (البَصْرى) مستجابي الدعاء، فكيف إذا كانوا من «أولاد سيدي بلعباس»! الأصل في العباسية صدقة إن العباسية هي في البدء والمنتهى صدقة. تختلف أشكالها، لكنها تنسب جميعها إلى دفين مراكش وأشهر أوليائها سيدي أبي العباس السبتي، ومن تلك الأشكال المرتبطة بضريح «سيدي بلعباس» التي لم تندثر بمرور الزمن، ما يعرف بالصدقة »العباسية»، وهي سلوك إحساني شائع وسط المجتمع المراكشي، إذ تجدها ممارسة يومية بين بائعي الحلوى الذين يتصدقون بأول منتوج لهم على سبيل «الاستفتاح» و»الفأل الحسن»، ابتغاء لمرضاة الله وتوسلا لبركة «سيدي بلعباس. وكذلك يخصص الحرفيون والتجار دخل أول بيع يحصلونه في اليوم لصندوق سيدي أبي العباس السبتي، الذي يوجد في زاويته. بل حتى قاعة سينما بالمدينة الحمراء ما زالت تحذو الحذو نفسه، إذ تخصص عائد بيع أول ورقة دخول إليها صدقة للصندوق المذكور، وتسمى تلك الصدقة أيضا «عباسية». وقس على ذلك أصحاب الأفرنة وغيرهم. وحتى اليوم، ما زال «الحْلايْقِيّة»[الحكواتي] في ساحة جامع الفنا بمراكش، يفتتحون فرجتهم بالدعاء لسيدي بلعباس، مناشدين إياه بعبارة: «آ بركة سيدي بلعباس !».. كما تتوسل حمايته قريبات المرأة الحامل التي أدركها الوضع، فتبتهلن إليه منشدات وضارعات: آ سيدي بلعباس يا مُخَلص النِّفاس غِيثْ هذي بنت الناس يا وليّ الله ومن مراكش انتشرت كلمة العباسية وذاعت في المغرب كله. وبلغت بين الناس انتشارا عظيما كان من نتيجته أن سقطت في اللسان المغربي الدارج مرادفا للمشروب الأول المجاني، الذي تقدمه المقاهى لزبائنها في أول يوم لافتتاحها، ولأي عطاء يستفتح به. أحمد السبتي المكنى بأبي العباس.. تاجر الصدقات هو أشهر رجال مراكش السبعة. تسميه العامة سيدي بلعباس، واسمه الحقيقي الكامل أبو العباس أحمد بن جعفر الخزرجي المعروف بالسبتي، نسبة إلى سبتة التي ولد فيها في أحد أيام عام 1130 م. ويذهب بعض المنقبين إلى أن أصل تسميته بالسبتي إنما يرجع إلى أنه كان يشتغل أيام السبت فقط، فيكسب من عمله في ذلك اليوم ما ينفقه على نفسه خلال باقي أيام الأسبوع الأخرى. عندما بلغ سن العاشرة، وجد نفسه يتيما مع أم بلا مورد عيش. وعلى عادة الفقراء، أخذت الأم فلذة كبدها إلى أحد الخياطين كي يتعلم على يديه أصول الحرفة. لكن الحياكة لم تكن لتستهوي الطفل أحمد الذي برزت لديه علامات نبوغ مبكر، فأخذ يترك دكان معلمه الخياط ليتسلل مع أقرانه إلى مجالس الفقيه أبي عبد الله الفخار. وبعدما قضى أحمد بن جعفر الخزرجي في كتاب الفقيه الفخار ست سنوات. وكان قد بلغ ربيعه السادس عشر، امتلأ يقينه بكلام أهل التصوف عن التوكل، وهو هجر كل نفيس وغال للسياحة في أرض الله الفسيحة. وفي يوم من الأيام، ولى أبو العباس السبتي وجهه صوب مراكش. وأثناء الطريق إلى مراكش تحققت أولى كرامات أبي العباس السبتي، ثم توالت الكرامات تباعا، فتأكد للولي اليافع أنه لم يخطئ الطريق. وعندما بلغ مراكش، كانت المدينة تحت حصار الموحدين لها وقد دام عشر سنين. فلم يدخلها، كما لم يدخل المدينة الأخرى التي بناها عبد المومن أثناء الحصار، عند جبل جليز، بل توجه صوب الجبل. وفي المكان الذي جعل فيه «خلوته» ضرب الأرض بعصاه فنبعت منها عين ماء. هكذا تقول الأسطورة. لكن عندما سقطت مراكش في أيدي الموحدين وفتحت أبوابها، ظل سيدي بلعباس ملازما خلوته مع خادمه (مسعود) في جبل جليز. وتمضي الروايات إلى أنه قضى معتكفا بالجبل أربعين عاما مع خادمه، إلى أن ذاعت في المدينة أنباء كراماته، وبلغ صداها قصر السلطان يعقوب المنصور الموحدي، الذي خرج في موكب رسمي مع أعيان المدينة إلى خلوة الشيخ. ولم ينزل السلطان من جبل (جليز) إلا بعد أن أقنع أبا العباس السبتي بمرافقته إلى المدينة. ثم حبَّس له مدرسة للعلم ودارا للسكنى، أقام فيها بعد أن تزوج وهو كهل. وفي المدينة الحمراء، اشتغل بتدريس النحو والحساب في مقابل أجر يدفع له من بيت المال. وقضى بقية حياته متجولا في دروبها وأسواقها يحض الناس على الصدقة. فعلى الصدقة وحدها يدور أصل مبدئه الذي نال به الكرامات العجيبة. واكتسب الشيخ السبتي عادة التجول في الدروب والأسواق، يتلو القرآن حينا أو يمازح المارة والحرفيين في دكاكينهم حتى يستدرجهم للتصدق والصلاة. وكان في أحيان أخرى يمسك في يده سوطا يضرب به مِن الناس مَن ينشغل عن الصلاة بأمور الدنيا الفانية. لقد أصبح الشيخ السبتي تاجر الله بين خلقه. يسير بين الناس وهو ينادي فيهم: أين من يعامل الله؟ الدينار بعشرة والعشرة بمائة، في الدنيا قبل الآخرة. لكن دعوته بإجماع كتاب المناقب كانت تواجه من الناس بسخرية، وكان بعضهم يتعمد إبداءها في حضوره، فيواجهها الشيخ بالصفح وعدم المبالاة. وقد روى الذين كتبوا سيرته عددا كثيرا من الحكايات العجيبة التي تمجد تجارة الصدقات، كما مارسها الشيخ أبو العباس. ومن تلك الحكايات العجيبة أن خياطا قدم ذات يوم إلى الشيخ مستنجدا، وقال له: «يا سيدي، إن لي ولدا وحيدا تركته يعالج سكرات الموت (يحتضر) وإذا مات سأموت بعده من الحزن». فسأله الشيخ:- «لكن أين الفتوح؟». فرد التاجر: «- إذا فرج الله عن ولدي أعطيك مائة دينار، في سبيل الله تعالى.» ثم انصرف الخياط إلى حال سبيله. وعندما دخل داره وجد ولده قد قام من فراش الموت وتعافى. ومرت أيام خرج بعدها الولد مع أبيه الخياط إلى الدكان. وبينما الولد يخيط رأى الخياط الشيخ أبا العباس السبتي قادما نحوه من بعيد. فأسرع يطلب من ولده أن يدخل ليختبئ في دولاب كان في الدكان، حتى لا يكون مطالبا بالوفاء بمبلغ المائة دينار التي نذرها لله. وعندما وصل الشيخ سيدي بلعباس إلى دكان الخياط سأله عن حال ولده، فرد عليه بأنه قد مات. وعقب الشيخ السبتي قائلا للخياط: «صدقت فهو ميت!». وبعد انصراف الشيخ أبي العباس، نادى الخياط على ولده أن يخرج من الدولاب. لكنه لم يرد. فقام ليفتحه، فوجد ابنه مضطجعا على ظهره والديدان تنهش بطنه، كما لو مر على موته أيام!