يستعرض سيرة أبي العباس السبتي ومذهبه في التضامن والتوحيد العطاء خلق إنساني وقيمة اجتماعية أساسية تجسد حقيقة التوحيد وأمانة الاستخلاف في الأرض2/2 في أجواء رمضان الروحانية، وتحقيقا لغايته في اقتران العلم بالعمل وتمثل القيم السامية للدين الحنيف والمحطات المشرقة لحضارة الأمة، اختارت بيان اليوم أن تنشر، تعميما للفائدة، هذه المحاضرة القيمة للدكتور أحمد التوفيق وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، والتي ألقاها أمام جلالة الملك محمد السادس، يوم الخميس الماضي، في إطار افتتاح الدروس الحسنية لشهر رمضان المعظم 1436، تحت عنوان «أبو العباس السبتي ومذهبه في التضامن والتوحيد»، انطلاقا من قول الله تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما القراءة السياسية عاش أبو العباس في العهد الموحدي الذي اتسم في بدايته بالتخوف السياسي من الشيوخ الذين تتجمع عليهم الجماهير، ومع ذلك شهد هذا العهد بروز مئات من أعلام الشيوخ الذين بنوا علاقتهم بالناس على أساس التربية الروحية والخدمة التي لا تشوش على عمل الدولة، وكان من هؤلاء المنسجمين مع الوضع القائم أبو العباس في مراكش، ومع ذلك فإن ابن عربي ذكر أن السبتي وجهت له تهمة ما، وأراد السلطان أن يعدمه بموجبها، ولكن الشهود قالوا: إن المتهم رجل عدل رضي. وفيما عدا هذه القصة، فالظاهر أن الأفق السياسي لم يكن غائبا عن مذهب أبي العباس، لأن السياسة في حقيقتها إنما تدور على قضاء حوائج الناس، وهكذا نجده يقول إنه عندما بلغ مقاما روحيا بحكم التنازل للفقراء عن ثلثي ما يقع في يده، صار له الحكم بالتولية والعزل، يقصد أن دعوته كانت تستجاب في تولية المنفقين وعزل البخلاء، وتؤيد ذلك قصة له مع المشرف، هكذا كان يسمى المكلف بتدبير المالية، فقد قال له يوما تصدق لكي يغاث الناس بعد انحباس المطر، فأجاب المشرف: «الله غني عنا» فقال أبو العباس: «هذا الرجل عزل نفسه»، وبعد أيام وصل من الخليفة قرار عزل المسئول المذكور، وقيل لأبي العباس: «بم عرفت ما تنبأت له به؟» فقال من قوله تعالى: { هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم } - محمد: 38 إن هذه الإشارة من أبي العباس تدل على أنه كان يؤمن بأن ما تقوم عليه السياسة الظاهرة من العلاقة بين المطالب والاستجابة أحرى بأن يصح في السياسة الغيبية التي تحض على الإنفاق للنفع والإصلاح وتجزي عليه. فهذه أدبيات في الحضارة الإسلامية تذكر لنا ما كان من الارتباط، في عقول الناس، بين الحاكم الخير النافع وبين جود الطبيعة وتكاثر الخيرات في عهده، ومقابل ذلك، ربطوا بين الحاكم الظالم وبين شح الطبيعة ونحس الأيام واطراد المصائب. وقد ظهرت شجاعة أبي العباس السياسية في عدة أمور منها أنه جعل من الأصناف الذين كان ينفق عليهم، بعض ضحايا الانقلاب الموحدي، وعلى رأسهم أحفاد علي بن يوسف وبقايا عمال ميورقا المعروفين ببني العزيز، وهو عمل يمكن أن يصنف في خانة ما يصطلح عليه اليوم ب (جبر الضرر). القراءة الاجتماعية من المعلوم أن أي نظام اجتماعي يتحدد بالموقف من المال، وهكذا فموقف الإسلام من المال يتلخص في مشروعية الكسب الحلال، وحماية التملك، والحض على أنواع السعي الذي نسميه اليوم بالمبادرة، فقد جرى تمويل الدعوة الإسلامية، في بداياتها، من أشخاص أثرياء، منهم خديجة أم المؤمنين وأبو بكر و عثمان، رضوان الله عليهم، ووقع الاجتهاد منذ العهد الأول في أن في المال حقا غير الزكاة، ولكن الذي حدث في الإسلام هو إثراء عدد من الناس بشكل غير معهود، واشتهر من المحتجين على هذا التمول السريع الصحابي أبو ذر الغفاري الذي استنكر كنز المال وعدم إنفاقه، ووازى هذا الإثراء توسع في عمران المدن حتى إن الناس رأوا فيه علامة على قرب قيام الساعة، وتغيرت كلية ملامح المجتمع البسيط الذي نشأ فيه الإسلام على التضامن، ومع توسع المدن ظهرت فئات من البؤساء والمهمشين، أمام هذه الوضعية ظهر التيار الزهدي بمثابة احتجاج ضمني على جمع المال وعدم إنفاقه، وهكذا فإن الازدهار الذي عرفته حضارة الإسلام في العصر الوسيط، على أساس التجارة، لم يوازه نظام تضامني منهجي واسع ومؤصل، أي أن المجتهدين لم يستوعبوا تبعات التحولات الاجتماعية الجديدة على مصير روح الإسلام في التكافل، وبقي الأمر ليبيراليا، والإنفاق مرهونا بالرغبة و الترغيب. فالفقر الذي اتخذه التصوف شعارا فقر وجودي، يناسب موقع الإنسان أمام الله الغني، الفقر لا مقابل الثروة والغنى، بل مقابل الاستغناء الذي جاء فيه قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} - العلق: 6 و7 ولو وقع الاجتهاد على أساس روح الدين، لظهر أن ما ييسر التضامن هو الاكتفاء بالضروري من وسائل المعاش، ولسار في اتجاه مذهب أبي العباس في القول بأن الزكاة المفروضة ليست سوى خريطة طريق ينبغي أن تكون لها امتدادات بليغة في المقادير وفي أنواع المستفيدين، لم يكن هذا المذهب بأي حال من الأحوال يروم علاج مشكل الفقر بالتسول، بل كان أعمق من ذلك حيث رأى أن البخل يجر اختلالات في نظام العالم، وأن علاجه يجب أن يكون بالإنفاق، والدليل على أن مذهبه لا يدخل في خانة المطالبة برد أموال الأغنياء على الفقراء، أنه لم يخص الأغنياء بالدعوة إلى الإنفاق، بل كان يدعو إلى التصدق من يملكون ومن لا يملكون، فإذا اعتذر له من لا يملك غير درهم واحد قال له: «تصدق، ففي مثلك جاء الحديث المروي عن مالك: (سبق درهم مائة ألف درهم)». فالمجتمع في منطقه لا ينقسم إلى أغنياء وفقراء، ولكن ينقسم إلى منفقين وبخلاء. والعطاء المطلوب فضيلة نفسية وروحية لا ترتبط حصريا بالمال، لأن النفقة قد تكون كلمة طيبة وقد تكون إفشاء سلام وقد تكون خدمة أو مجرد إحساس كريم تجاه الآخر، بل ويشمل الإنفاق حتى اللذة إن كانت من حلال، وهكذا يمكن بمنظورنا اليوم إدراج الأخلاق المدنية والواجبات الوطنية والحقوق الإنسانية في هذه المنظومة الشاملة، أما المال فالتمييز فيه ينبغي أن يكون بين نوعين، مال مطلوب استكثاره من أجل بذله في الخير والنفع، ومال يجر إلى الفساد والطغيان. من كل هذا يتضح اليوم أن الاختلال الذي يبحث الإنسان عن إصلاحه، باقتراح نظريات سوسيو اقتصادية، يتعذر تحقيقه ما لم يعتبر الإنفاق بمعناه الشامل، خلقا عاما، وما لم يعتبر الشكر في مقابل العطاء مقرونا بعقيدة الاستخلاف في الأرض، فما لم تترسخ هذه العقيدة فإن التوترات الاجتماعية ستظل تقض مضجع الإنسان. وسيظل هذا الإنسان مهموما بالتكاثر وبمقايسة نفسه مع الغير، والمقايسة جحيم نفسي بتمني ما عند الآخرين، ولو ساد خلق الجود لتمنى المرء لغيره ما يحب لنفسه. القراءة الفلسفية اشتهر أبو العباس بمذهبه في المغرب والأندلس إلى حد أن الفقيه الفيلسوف ابن رشد الحفيد، أرسل للاستخبار في شأنه شخصا عالما يعرف بابن الفرس، قال هذا الأخير: «بعثني أبو الوليد بن رشد من قرطبة وقال لي: إذا رأيت أبا العباس بمراكش فانظر مذهبه وأعلمني به، قال: فجلست مع السبتي كثيرا إلى أن حصلت مذهبه، فأعلمته بذلك، فقال لي أبو الوليد: هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود، وهو مذهب فلان من قدماء الفلاسفة». الظاهر أن القضية التي أثارت اهتمام ابن رشد هي قضية السببية، فقد وجد أن الأمر يتعلق بمذهب له عنصران أساسيان: فعل الجود وأثره في الوقائع، وقد رد السبق في القول بانفعال الوجود بالجود إلى فيلسوف قديم لم يصلنا اسمه، وقد يكون أحد السابقين عن سقراط من أمثال أمبيدوكليس الذي تحدث عن قيام سنة الكون على ثنائية الحب والبغض، بما يشبه كلام صوفية الإسلام عن ثنائية البسط والقبض. ولكن السؤال الجوهري هو الآتي: أليس في القرآن الكريم ما يؤسس لمذهب أبي العباس حتى يطلب له تأصيل في الفلسفة القديمة؟ فالمعلوم أن هذه الفلسفة قد ولدت في نسق لا حضور فيه للفاعل الواحد كما جاء به الوحي. الجواب هو أن السبتي في مذهبه إنما تحقق عمليا، ظاهرا وباطنا، بقوله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْء فَهُوَ يُخْلِفهُ وَهُوَ خَيْر الرَّازِقِينَ } – سبأ: 39 يذكر ابن عربي أنه يشترك مع أبي العباس في فهم نسقي للقرآن، ومن هنا نفهم مؤهل أبي العباس لاستخراج أولوية الإنفاق. ثم إن القرآن قد نص في مواضع شتى على أن فعل الإنسان تنفعل له الطبيعة، ولكن تلك الاستجابة تكون بفعل فاعل، وهو القائل سبحانه: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ } – الأنفال : 17 فالطبيعة تنفعل بأمر الله أو إذنه أو وعده أو تسخيره أو سنته، وليس في استقلال عن الفاعل، وعلى هذا فالعطاء من الإنسان تقابله في صفات الله تعالى صفة البسط، وهو القائل: { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }- البقرة : 245 ذكر ابن الزيات أن شخصا سأل أبا العباس قائلا: بم تنفعل لك الأشياء؟ فأجاب: «هذا لا يعرف إلا بالعمل». أراد أن يقول إن النظر لا يمكن أن ينفذ إلى كنه الحلقة بين فعل الإنسان وما يترتب عنه من الآثار. والواقع أن مركزية العمل متأصلة في القرآن، فهديه هو قول الله تعالى: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ } - التوبة: 105 ومن حيث المقابلة مع الفكر الإنساني قد تجوز الإشارة إلى أهمية العمل في الفلسفة، ومن ذلك المفهوم الكانطي للبراكسيس، هذا المفهوم الذي استعمله الماركسيون، واستعمله في القرن العشرين زعماء ما سمي في أمريكا اللاتينية بالفهم التحرري للدين Liberation Theology، وقصدوا به تغيير ظروف الفقر في المجتمع بمرجعية مسيحية، أي بتطبيق تعاليم الإنجيل، تفضيلا للعمل على المناقشات اللاهوتية المعقدة، وكذلك اعتقد أبو العباس أن التطبيق العملي لتعاليم القرآن في الإنفاق هو السبيل إلى الخير كله. ومن المناسب أن نشير إلى أنه في نفس عصر أبي العباس، شاع في أوروبا المسيحية أن الإنفاق من منطلق الدين، هو القيمة التي تعلو كل القيم والفضائل، كان ذلك زمن عودة المدن في أوربا بعد العصر الفيودالي، وتوسع عمرانها وبروز واقع اجتماعي متسم بالهشاشة. لقد كان أبو العباس معاصرا للقديس الشهير سان فرانسوا داسيز، وهو من المراجع المسيحية في الاهتمام بالمحتاجين، وفي العصر الحديث وجد مفهوم الجود مكانه في الطرح الفلسفي لاسيما عند ديكارت وسبينوزا، فالجود عند هذا الأخير هو ضمانة العلاقة السوية بين الفرد والجماعة، وهذا يعني أن الإنفاق يؤسس للتقارب بين الناس، ويشكل المظهر الأنفع الذي يجعلنا على مثال الله، وهو سبحانه الذي ليس كمثله شيء. أما أبو العباس فلم يخض في مسألة الحرية التي نمارسها عند الإنفاق، هل هي حقيقية أم وهمية، كما سيطرحها فيما بعد كل من ديكارت وسبينوزا، ولكنه قال: لا يصح الإنفاق إلا إذا كان في سبيل الله، غير أنه لم يصح الإنفاق في سبيل الله خالصا إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أما نحن فلسنا سوى تجار نبتغي الجزاء بحسب عدل الله المقابل لسعي الإنسان، ولكن هذه التجارة مع الله، ليست كالتجارة مع البشر، فربحها أضعاف مضاعفة، وهي فوق ذلك سبيل شرح الصدر وفتح البصيرة، ومن منظور شرح الصدر نفهم قول أبي العباس: إنه بالتنازل عن الثلثين صار لي عقل آخر. وهذه غاية الحجة على تأثير العمل على الوعي الذي هو من جملة الوجود، غير أن أبا العباس لم يكتف بإعلاء العطاء إلى مرتبة قيمة القيم كما رأينا في الفكر المسيحي، بل جعله مرادفا للأمانة التي حملها الإنسان، كما في قوله تعالى في سورة الأحزاب: {إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا }- الأحزاب : 72 حلل المفسرون الاستعارات الواردة في هذه الآية ولكنهم عدوها من مشكلات القرآن التي حاروا في تفسيرها، ومرجع ذلك في رأي صاحب التحرير والتنوير إلى تقويم معنى العرض على السموات والأرض والجبال، وإلى معرفة معنى الأمانة، وإلى معرفة معنى الإباء والإشفاق. وقد اختلفوا في معنى الأمانة على عشرين قولا، فقيل هي جميع الفرائض وقيل هي التوحيد، وقيل هي العقل، وقيل هي خلافة الله في الأرض. أما أبو العباس السبتي فكان يشرح معنى الأمانة في هذه الآية بأنها الرزق، فيقول: «فالسماوات، وإن كانت قد أبت حمل الأمانة فإنها أعطت ما عندها من المطر، والأرض أعطت ما عندها من النبات وغيره والجبال أعطت ما عندها من المنافع، وهذه أرزاق جادت بها، أما الإنسان فقد صار خازنا لما يجتمع عنده من خيرات الطبيعة، فيمنع منه المساكين، وبهذا الإمساك والخزن كان ظلوما جهولا». هكذا عبر أبو العباس، واللافت للنظر أنه مدح الطبيعة لعطائها وذم الإنسان لبخله، ولو عاش في عصرنا هذا لذم الإنسان مرتين، مرة بسبب البخل، ومرة ثانية بسبب الإفساد الكبير الذي ألحقه بالطبيعة المعطاء، حتى صرنا نتكلم عن خطر نفاذ الموارد الطبيعية وعن الكارثة الإيكولوجية. مولاي أمير المؤمنين نخلص في الأخير إلى القول بأن السبتي ربط الجود باستجابة القدر، واعتبره، لا سببا في إصلاح العلاقة بين الناس في المجتمع الأرضي فحسب، بل ناظما للعلاقة التي تحكم التفاعل بين الإنسان والطبيعة، فالجود في مذهبه ليس مدرا للخير وكفى، بل هو بنفس الاعتبار، دافع للشر كذلك، ولا يخفى ما تعرضت له البشرية من الشرور، عبر وقائع التاريخ تارة وبكوارث الطبيعة تارة أخرى، فالمعروف عند المسلمين أن الشر يدفع بالصدقة على مستوى الأفراد، لكن لا أحد تنبه إلى تصور نظام اجتماعي على مستوى البلدان، أو نظام كوني على مستوى العالم، مبني على التضامن بغرض تجنيب الشر للعالم. مولاي أمير المؤمنين قد يكون من العرفان والإنصاف أن يقام لسيدي بلعباس في وقتنا الحاضر، نصب أو تمثال في مدينة مراكش، وإلى يومنا هذا والصدقات المودعة في ضريحه تخفف من آلام ثلاثة آلاف من فاقدي البصر المسجلين في قوائم الضريح، وما يزال الصناع في مجموع المغرب، ولاسيما صناع الإسفنج والخبز، يتصدقون بباكورة صنعتهم، ويسمونها «العباسية»، وهذا من الآثار الباقية لهذا المذهب في ثقافة الشعب المغربي. إننا لا نتصور سيدي بلعباس في الحقيقة راضيا بنصب أو تمثال، ولكنه سيرضى ويسعد لو تقرر تدريس الجود، بمعناه الواسع، في مدارس بلده، تدريسه على أنه القيمة الأولى في التدين، وذلك بكتاب مدرسي في التربية الدينية والوطنية، يشرح الجود للأطفال طيلة سنوات التعليم الأساسي، في دروس مصحوبة بتطبيقات في خدمة الغير، يؤديها الأطفال للجماعة، قبل أن يكبروا ويمتلكوا الأموال. مولاي أمير المؤمنين إن المؤشرات تدل على أن الدعوات إلى التضامن ستتكاثر في المستقبل القريب، تحت تأثير الأخطار التي تتهدد العالم، وسيتردد في المحافل استعمال كلمة أجنبية هي كلمة (partage) أو (sharing)، وتترجمان كلمة المشاطرة التي استعملها أبو العباس في المرحلة الأولى من مذهبه، فالتضامن بالمعنى العباسي أضحى في عالمنا لا مجرد اختيار، بل ضرورة اقتصادية واجتماعية وخلقية حتمية، لأن مجتمع السلم الذي يحلم به الناس لا وصول إليه قط إلا عبر مجتمع الجود والتضامن، بين الأفراد والطبقات والدول والقارات. مولاي أمير المؤمنين إن فكرة الجود كما جاء بها السبتي قيمة عظمى في الرأسمال اللامادي الذي أسهم به المغرب في فهم الدين والحياة. وأنتم يا مولاي وارث هذا الرأسمال اللامادي ومجدده بما يناسب من اجتهادات عصرية، وخاصة بفضل ثلاثة توجهات في سياستكم الجارية: أولا: بفضل رعايتكم لأعمال التضامن، وبضرب المثل على ذلك بشخصكم الكريم، وبالمؤسسات التي أنشأتموها لهذا الغرض، وبتحريضكم الفاعلين في جميع القطاعات على الإسهام في أعمال الخير والبذل، سواء بالمباركة أو الدعم أو التحفيز الضريبي للنفع العام، ناهيك عن أعمال المواساة الظرفية التي تغيثون بها أصناف المصابين، وعن أنواع الحقوق التي تقررت بالقانون في عهدكم لذوي الحاجات أو الإمكانات المرصودة لهم من الميزانية العامة للدولة؛ ثانيا: من خلال حمايتكم للدين الذي هو منبع الجود الموصول بأصله في أسماء الله الحسنى، ورعايتكم للبعد الروحي للدين القائم على التزكية والتحلي بالتوحيد، هذا المنهج المولد للإرادة الخيرة الخالصة من نوازع الأغراض والحظوظ. ثالثا: من خلال ريادتكم لسيرورة التنمية الديمقراطية، لأن الاستقرار والطمأنينة السياسية والإرادة الحرة ضمانات لبيئة الجود والإيثار، وحيث إن الغائب الأساسي عن الديمقراطية الحديثة هو الدين، فإن اقتران الديمقراطية التي ترعونها بالدين فيه جمع بين الحياة ومعنى الحياة، والكمال المنشود هو في إعلاء الجود في جميع أبعاده كقيمة مركزية، تربي عليها الأسرة وتنميها المدرسة ويحض عليها المسجد وتؤازرها التوجهات الاقتصادية وتتسم بها الالتزامات السياسية، حتى يتأتى بناء مجتمع السلم ابتداء من شكر الإنسان، مجتمع تباركه السماء وتلفه الألطاف وتغمره المرحمة.جهولا». وفيما يلي تتمة هذا الدرس.