مرت الآن قرابة خمس سنوات على أول لقاء بين رئيس الحكومة في المغرب عبد الإله بنكيران، ورئيس الحكومة في إسبانيا ماريانو راخوي، وهو لقاء جاء في وقت كان فيه الرجلان منتشيين بفوزيهما الطريين في الانتخابات التشريعية. لا يتذكر المغاربة أشياء كثيرة عن تلك الزيارة التي جاءت ضمن بروتوكول إسباني يقضي بأن يكون المغرب أول بلد يقصده أي رئيس حكومة إسباني جديد بعد انتخابه، لذلك تحدث راخوي مع بنكيران عن الزبدة وزيت الزيتون، حيث سأل راخوي بنكيران هل يطبخ المغاربة بزيت العود أم بالزبدة. اليوم يجد راخوي نفسه في حاجة ماسة لزيارة المغرب مجددا، ليس لكي يسأل بنكيران هل يطبخ الناس هنا بالزبدة أم بزيت العود، بل فقط لكي يسأله سؤالا واحدا محيرا حول «الكوزينة» أيضا، وهو كيف يطبخ المغاربة سياساتهم وانتخاباتهم وحكوماتهم، فالكوزينة الإسبانية تعاني هذه الأيام من «حصْلة ما بعدها حصْلة». في انتخابات الأحد الماضي بإسبانيا وقعت البلاد في ورطة، فقد تم دفن الثنائية الحزبية التي يمثلها الحزب الشعبي اليميني المحافظ والحزب الاشتراكي العمالي، بعد ظهور حزبين فتيين يقودهما شباب من مواليد الثمانينيات كسروا احتكار الحزبين التقليديين للمشهد السياسي، وهذا شيء لم يكن مفيدا بالمرة لأن الحزب الشعبي الذي نجح في تلك الانتخابات بأغلبية نسبية لا يعرف كيف يطبخ الحكومة، ويبدو أنه سيتم طبخ أعصاب الإسبان قبل ظهور حكومة جديدة. هكذا، وبعد أربعين عاما من موت الدكتاتور فرانكو، يجد الإسبان أنفسهم لأول مرة أمام معضلة اسمها الديمقراطية. فقد كانوا في الماضي يعتبرونها نعمة، وها هم يجلسون اليوم يتباكون على هذه النتائج العجيبة التي جعلت الجميع في حيرة من أمرهم من هذه الأرقام التي لم تعط أي حزب إمكانية تشكيل حكومة جديدة. هذا هو الوقت المناسب لكي يعود ماريانو راخوي إلى المغرب ويجلس إلى صديقه بنكيران ويسأله كيف أمكن طبخ حكومة في المغرب بعد نتائج انتخابات 2011، وهي انتخابات أفرزت نتائج أعقد بكثير من تلك التي أفرزتها الانتخابات الإسبانية الأحد الماضي. عندما التقى راخوي بنكيران قبل خمس سنوات لم يكن يتخيل أن إسبانيا ستصل يوما إلى بلقنة نتائج الانتخابات مثل المغرب، لذلك لم يكلف الرجل نفسه لكي يسأل بنكيران كيف حصل حزبه على أكثر بقليل من مائة مقعد، ومع ذلك استطاع أن يشكل الحكومة من فسيفساء عجيب من الأحزاب المنتمية لليمين واليسار والوسط، وأحزاب مائلة بين اليمين واليسار، وأخرى تنام تارة في اليمين وتارة في اليسار، وتارة أخرى تفضل الاضطجاع في الوسط، وأحزاب لا تعرف نفسها أصلا هل هي من اليمين أو اليسار أو الوسط. الوضع في إسبانيا ليس كارثيا إلى هذا الحد، فكل ما جرى هو أن الحزب الشعبي فاز بمائة وثلاثة وعشرين مقعدا، وبعده الحزب الاشتراكي بتسعين مقعدا، ثم الحزب الشاب «بوديموس» بتسعة وستين مقعدا، وبعدها حزب «مواطنون» بأربعين مقعدا، أي أن أربعة أحزاب فقط تقتسم المشهد السياسي، ومع ذلك تجد إسبانيا نفسها في ورطة حقيقية. هذه هي فرصتنا لكي نجعل إسبانيا تحترمنا كبلد متطور جدا في الديمقراطية إلى درجة أن الحكومة عندنا تتشكل في لمح البصر من عشرة أحزاب. الآن يمكن لإسبانيا أن تركع تحت أقدامنا وهي ترى كيف أن حكومة بنكيران يخرج منها حزب رئيسي لمساندة المعارضة لانتخاب العمداء ورؤساء الجهات ثم يعود للحكومة وكأن شيئا لم يكن. ويمكن لإسبانيا أن تقبل أيدينا وهي ترى وزيرا في الحكومة يتمرد على رئيسه ويقرر الاستفراد بصرف صندوق بمئات الملايير رغم أنف بنكيران، وبعدها لا شيء يحدث على الإطلاق. وستتمرغ إسبانيا في التراب مثل قط أجرب وهي ترى وزيرا في حكومة بنكيران يستيقظ صباحا ويقرر تغيير لغة التعليم من دون إذن رئيس الحكومة. وربما يطير الفريّخْ لإسبانيا بكاملها وهي تطلع على تفاصيل تجربتنا الديمقراطية التي كنا في الماضي نسميها «الديمقراطية الحسنية»، واليوم نكتفي بوصفها بالخصوصية المغربية. ماريانو راخوي يشبه بنكيران كثيرا، فهو رجل وقور ويربي بدوره لحية خفيفة لم يعد يشذبها إلا نادرا، وهو رجل متدين تربى في أحضان الكنيسة، صحيح أن بنكيران تربى في أحضان المسجد، لكن ما الفرق؟ الرجلان معا ولدا في زمن متقارب وبينهما فارق سنة واحدة لا غير، فقد ولد راخوي في 27 مارس 1955، بينما بنكيران ولد في 2 أبريل 1954، ومن حسن الحظ أنه لم يولد قبل ذلك بيوم واحد. لكن راخوي وبنكيران لم يعودا يتشابهان كثيرا مثلما كانا عندما التقيا قبل خمس سنوات. فمن يرى راخوي اليوم يحس بالشفقة من أجله، فقد صار مثل قصبة صيد وتبعثرت لحيته وصارت مثل عشب ملعب قلعة السراغنة، وزاغت نظراته وهوت أسهم حزبه. أما بنكيران فقد ازداد وزنه وأشرقت ملامحه وصارت لحيته مهذبة وغزيرة مثل عشب ملعب «سانتياغو بيرنابيو». لهذا السبب يجب على بنكيران أن ينقذ زميله راخوي ويعطيه الوصفة السحرية لطبخ الحكومات في المغرب. أكيد أن راخوي سيتحمس للوصفة المغربية ويحاول تطبيقها بسرعة في إسبانيا، لكنه سيصطدم بمشكلة واحدة، لكنها عويصة جدا، وهي أن إسبانيا «ما فيهاش المخزن»..