سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
عطوان: عندما ألقيت خطابا باسم المقاومة الفلسطينية أمام عشرات الآلاف من الحشود بالإسكندرية كانت مادة التربية الوطنية هي المادة الوحيدة التي يوليها الطلبة بعض الاهتمام
قليلة هي تلك السير الذاتية التي تعكس التاريخ مثلما تعكس سيرة حياة عبد الباري عطوان أحداث زمانه. فقد ولد عبد الباري عطوان في مخيم للاجئين في غزة عام 1950، التي غادرها في السابعة عشر من عمره ليصبح أحد أهم المعلقين الصحفيين في قضايا الشرق الأوسط في العالم. عطوان يروي بصدق وروح عفوية في هذا الكتاب قصة رحلته من أوحال مخيم اللاجئين إلى رأس هرم صحيفة «القدس العربي». خلال رحلته يصور عبد الباري عطوان الرعب الذي سببته مذابح المخيمات والنتائج غير المتوقعة للتدخل البريطاني في المنطقة. كما يروي المآسي التي واجهته جراء تنقله من بلد إلى آخر، والصدمة الثقافية التي أحس بها عندما سافر إلى لندن في السبعينيات. ويحكي أيضا لقاءاته الصحفية مع شخصيات سياسية مهمة مثل مارغريت تاتشر وأسامة بن لادن وياسر عرفات والعقيد القذافي وشاه إيران. كما لا يخلو الكتاب من روايات عن تجارب شخصية وإنسانية كان أكثرها تأثيرا تجربة لقاء أولاده بريطانيي المولد مع عائلته في المخيم. مدرسة المشاغبين كانت الحصص في مدرسة العروة الوثقى أشبه بكابوس حيث يجتمع خمسون طالبا في غرفة واحدة. كان الطلاب لا يولون المدرسين أي احترام إطلاقا، فقد كانوا يسخرون منهم ويرمونهم بأسهم من ورق ويتندرون على حصصهم و دروسهم. وكان صياحهم على بعضهم البعض يعلو دائما في الحصة. كانت الطريقة الوحيدة التي اتبعها كل المدرسون، الذين يعيشون في ظل هذا الكابوس، هي أن يبتلعوا ما تبقى من كرامتهم و يواصلوا الدرس غير عابئين بالفوضى العارمة التي تحدث في غرفة الدرس. و ما زلت أستغرب حتى الآن كيف تمكنت من تعلم أي شيء في تلك الظروف، إلى أن تمكنت من الحصول على شهادتي الثانوية (توجيهي) بمعدل جيد. كانت مادة «التربية الوطنية» هي المادة الوحيدة التي كان الطلبة يولونها بعض الاهتمام. كانت دروس هذه المادة تركز على الحضارة العربية وتاريخ الاستعمار والصراع في فلسطين. وكنت غالبا ما أدعى لأقف أمام الطلاب لأتحدث لهم عن تجاربي بصفتي فلسطينيا. كان الطلاب يرتجلون الأسئلة وكنت أجيبهم، وهكذا كانت تستمر الحصة. أتذكر يوما في حصة من هذه الحصص أن أحد الطلاب قام وسألني: «عبد الباري.. كيف يبدو شكل اليهود؟». فوجئت بالسؤال وقلت له: «لماذا تسأل هذا السؤال؟» فسألني «هل هم مخيفون وبشعون؟» فأجبته «لا، ماذا كنت تعتقد عنهم من قبل؟»، و قال لي إنه كان يعتقد أن اليهود هم أشبه بوحوش ذات مخالب وأنياب، وأكد هذا الاعتقاد معظم الطلبة. بدأت أضحك وقتها من تفاهة هذه الفكرة التي لديهم، لكنني سرعان ما صدمت من حقيقة جهلهم المحزنة لحقيقة اليهود. و أخبرتهم أن «اليهود مثلهم مثل أي شعب آخر بشر مثلنا لا يملكون أي أنياب أو مخالب، لكن أمريكا تمدهم بالأسلحة والصواريخ ونحن لا نملك شيئا منها وهكذا استطاعوا أن يحتلوا أرض فلسطين الحبيبة» ختان الإناث في ذلك الوقت كنت أحب المشي في شوارع مصر فقط لأبقى على اطلاع على ما يحدث فيها. لا زالت لدي هذه العادة في لندن أيضا ولنفس السبب. وفي أحد الأيام وأنا عائد من مدرسة العروة الوثقى، ظهر أمامي حشد من الناس في سيارات وشاحنات تسير بمحاذاة عربة مزركشة صغيرة يجرها حصان، وكانت في تلك العربة بنتان صغيرتان في سن الثامنة تلبسان ثيابا بيضاء كأنهما نماذج مصغرة من عرائس. سألت أحد الجيران الذي توقف هو الآخر ليرى الحشد «ما هذا؟» فأخبرني بأنها «حفلة ختان». لم أكن أعرف ماذا كان يعني ذلك بالضبط، لكنني كنت أرى بأن البنتين كانتا خائفتين، رغم أنهما كانتا محط اهتمام الآخرين. أكملت طريقي ولم أعر الأمر الكثير من الاهتمام حتى اليوم الذي قامت فيه الطبيبة النفسية والناشطة النسائية نوال السعداوي بحملة ضد ختان الإناث. في ذلك الوقت قرأت ما كتبته عن التفاصيل الرهيبة لهذه الممارسة الوحشية. وأرعبني أن أعرف أن هذا كان هو المصير الذي كان ينتظر تينك البنتين الصغيرتين. كان ختان الإناث عادة تعود بالتاريخ إلى العهد الفرعوني، ويتضمن قطع البظر وفي بعض الأحيان خياطة فرج الأنثى. وكان التبرير الفظ لهذه العادة هو أنها تجعل الأنثى غير قادرة على الإحساس باللذة الجنسية، وبالتالي تحميها من الوقوع فريسة الإغواء والخطيئة. وكانت هذه العملية تتم غالبا بدون إشراف طبي أو مخدر، وكانت تستعمل فيها شفرات غير معقمة، مما كان يسبب في أغلب الحالات نزيفا والتهابات حادة قد تكون في بعض الحالات مميتة. كما أن الصدمة وحالة الرعب جراء هذه العملية كانتا تلقيان بظلالهما على حياة النساء بقية حياتهن. كانت جرأة نوال السعداوي في إبداء آرائها سببا في إثارة الكثير من الأعداء حولها. فقد تلقت الكثير من التهديدات بالقتل وسجنت في عهد الرئيس السادات عام 1981. لكن المظاهرات التي بدأتها استمرت بلا انقطاع، غير أن هذه الممارسة لم تمنع بموجب القانون إلا في عام 1997 كما أنني أعلم أنها ما زالت تتم في بعض القرى المصرية النائية. عندما وصلت إلى لندن كانت مناقشة مسألة ختان الإناث تحديا كبيرا لأنها كانت أحد محاور ظاهرة الخوف من الإسلام Islamophobia التي شهدتها واختبرتها حيث كان هذا الموضوع يستخدم كثيرا للإساءة لصورة عقيدتنا، رغم أن هذه الممارسة لم تكن لها علاقة كبيرة بمبادئ الإسلام حيث إن الرسول الكريم كان قد أمر بختان الأنثى - كما الذكر- بقطع جزء من الطبقة الجلدية المحيطة بالبظر ونهى عن قطعه كله حيث جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال للخاتنة: «أَشِمِّي ولا تَنهَكِي، فإنه أسرى للوجه، وأحظى عند الزوج»- ومعنى «أَشِمِّي» مأخوذ من إشمام الرائحة، أي الاكتفاء بأدنى شيء. كما أن هذه الظاهرة الثقافية نشأت في حوض النيل وكان يمارسها المسلمون والمسيحيون على السواء طيلة قرون. متحدثا لأول مرة في مرة من المرات دعاني الأستاذ خليل مدير مدرسة العروة الوثقى إلى مكتبه. كان الأستاذ خليل رجلا قصيرا أصلع الرأس يلبس نظارات طبية سميكة، وكانت بذلته القديمة قد خيطت بشكل سيء وبدا لي وقتها أن خامتها السميكة قد بليت منذ سنين نتيجة عملية الكواء المتواصل. كان المصريون يحبون التندر بالعصر الفرعوني، وكان الطلاب يقولون لي إن بذلته هذه بدت كأنها استخرجت للتو من قبر فرعوني. أشار لي الأستاذ خليل لأجلس على كرسي على طرف مكتبه الكبير، وقال لي: «عطوان، أنت ممثل المقاومة الفلسطينية، أليس كذلك؟» فأجبته في تردد «نعم». كنت أفكر أين سيقودني هذا الجواب، فقال لي: «لقد أتى المحافظ ليراني بخصوص يوم النصر – احتفالات بذكرى انسحاب القوات البريطانية والفرنسية من قناة السويس في عام 1956 - وقد أخبرته عنك ورتبنا الأمور لكي تلقي كلمة أمام الحشود عن القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير». صعقت بهذا الخبر لأنني لم أكن أعرف الكثير عن السياسة الفلسطينية في ذلك الوقت، غير أنني في نفس الوقت لم يكن أمامي غير القبول. سرعان ما جاء اليوم الموعود، وكنت لم أفعل شيئا لأستعد لهذا اليوم غير كتابة بعض الملاحظات. ذهبت إلى ميدان التحرير الذي كان أهم مركز للتجمعات في الإسكندرية وقد وجدت في انتظاري عشرات الآلاف قد تجمعوا في الساحة. كان الخطباء يصدحون بأصواتهم عبر الميكرفونات من منصة سوداء عريضة. وكنت أحس بالخوف الشديد وأنا أجلس في جانب المنصة منتظرا دوري، لكني سرعان ما سمعت اسمي وهممت بصعود المنصة. كان الخطيب الذي قبلي أقصر مني وكان علي أن أعدل الميكروفون. كنت أنظر إلى بحر الحشود وكانت أنفاسي تتسارع وأصابعي ترتجف من شدة الخوف. قلت بصوت ضعيف ومخنوق «اممم ... السلام عليكم... شكرا لكم على استضافتي اليوم» واستسلمت إلى الصمت وبدأت أسعل، لكني في نفس الوقت كنت حانقا على نفسي، وكنت أقول لي: «ألست فلسطينيا؟ أليس واجبا علي أن أعرف العالم بمعاناة شعبي الفلسطيني؟ وسرعان ما انطلقت كلمات من خطاب أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحمد الشقيري، من عقلي الباطن على شفتي لأبدأ خطابي بحماس شديد. كنت أدمج أفكاري مع شعارات الشقيري الملتهبة. وكنت قادرا على سماع صوتي كأنه كيان منفصل يقوى ويزداد ثقة بعد كل دقيقة. عندما انتهيت من خطابي انفجرت الجماهير بالتصفيق الحار. كانت الهتافات تنطلق من حناجر الحشود «عاشت فلسطين، ثورة حتى النصر». كنت مسرورا جدا وكان الجميع على المنصة مسرورين أيضا من أدائي بما في ذلك المحافظ الذي تقدم و صافحني بحرارة وهنأني على الخطاب. أحدثت هذه التجربة تغييرا عميقا في وأدركت أنه ليس كل النجاح ينبع من العقل الواعي وأنه أحيانا يجب أن نثق في الحس و الغريزة والمعرفة المخبأة عميقا في العقل الباطن. بعد هذا قبلت الكثير من الدعوات لأقوم خطيبا. كما بدأت قراءة كتب السياسة والتاريخ مثل «تذكرة عود» لناصر الدين النشاشيبي و»يقظة العرب» لجورج أنطونيوس. كما كنت اقرأ مقالات محمد حسنين هيكل.