سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
شفيق: تجربة عبد الناصر لم تفشل ولكنها تعرضت لضربة عسكرية قاسية في 1967 قال إن استقلال الدول العربية كان بفضل مقاومتها واختلال موازين القوى لصالح أمريكا
ليس منير شفيق مفكرا عاديا، اعتنق التنظير واعتكف في الصالونات الأدبية؛ إنه رجل جمع بين النظرية والممارسة، وجسد بقوة، عبر مساره الفكري والسياسي الطويل، مقولة «المثقف العضوي». ما يميز هذا المناضل الفلسطيني هو انتماؤه الدائم إلى ما يرى فيه أمل ومستقبل الأمة. جمع الرجل بين المسيحية مولدا ثم الإسلام مآلا، وبين الشيوعية منطلقا ثم القومية والحركية الإسلامية أفقا. عاش في فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وفيها تشرب مبادئ الشيوعية قبل وبعد النكبة، ثم في لبنان حيث قدم إلى حركة فتح جزءا من مسيرته، وشكل داخلها صوتا متفردا من خلال «السرية الطلابية»، قبل أن يطور مشروعه الفكري ليفرز التصور الجهادي من خلال «سرايا القدس». على كرسي الاعتراف، يحكي منير شفيق جانبا من ذاكرته الخاصة، ويبسط شهادته على ما عاشه من أحداث بدءا بالنكبة وحرب 1948 مرورا بهزيمة 1967، ثم خروج حركة فتح من الأردن بعد أحداث أيلول الأسود؛ كما يقدم روايته حول نضال فتح من داخل الأراضي اللبنانية في سنوات السبعينيات، قبل الخروج الأخير إلى تونس. في هذه الأحداث وغيرها، تبرز شخصية منير شفيق المناضل العصي على التطويع والمهادنة المجانية كما تجسدت في رفضه لكل «مشاريع وخطط التسوية» مع إسرائيل. حاوره – رشيد عفيف – كنتَ مناصرا ومؤيدا لتجربة جمال عبد الناصر رغم معارضة الحزب الشيوعي لها؛ هل يمكن أن نحكم على تجربته بالفشل ونصفها بأنها كانت تجربة طموحة بغايات سامية لكنها آلت إلى الإخفاق؟ لا، تجربة عبد الناصر لم تفشل؛ فكل محاولات المقاومة والنهوض والتغيير التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، عدا المحاولات التي عرفتها الصين والهند، استطاع الغرب تطويقها وضربها بسبب الاختلال الهائل في موازين القوى على الصعيد الدولي حينها. لذلك، فالمقاومات المجيدة التي قامت في العالم العربي، كما هو الحال مثلا في المغرب من خلال المقاوم عبد الكريم الخطابي وموحا أوحمو الزياني، وفي ليبيا بقيادة عمر المختار، وفي السودان بزعامة المهدي، وفي الجزائر بقيادة الأمير عبد القادر، وغيرهم، كل تلك الحركات كانت تُضرب بسبب موازين القوى. في هذه الحالة، هناك نظرية شاعت مضمونها أن تلك الحركات لم يكن من ورائها جدوى مادامت تنتهي إلى الفشل؛ لكن هناك نظرية ثورية أخرى تعتبر تلك المقاومة محقة ومجيدة ويجب أن توجه ضد الاستعمار والصهيونية من أجل إنهاض الأمة. أنا شخصيا لم أكن متفقا مع من كانوا يريدون هدم حركة التحرر العربي، فقط لأن إسرائيل وجهت إلينا ضربات عسكرية قاسية. لقد كنت أضرب مثلا بكل البلاد، ومنها حتى تلك التي خضعت للشيوعيين وعاشت نكسات كبيرة، على سبيل المثال ما حدث في إندونيسيا التي تم فيها الانقلاب على الشيوعيين وقتل 600 ألف منهم في أقل من شهرين. إن الأمر يتعلق بمعركة نضال واستمرار وتراكم. – هل ينطبق هذا التصور المقاوم على القضية الفلسطينية رغم الإحباطات والفشل؟ بالضبط، لقد عشت لحظات الهزيمة في النكبة كما في عام 1967، ثم عند خروج المقاومة الفلسطينية من لبنان سنة 1982. وفي كل تلك اللحظات، كان هناك دائما خطابان: خطاب انهزامي استسلامي يدعي أننا فشلنا ولن تقوم لنا قائمة وما علينا سوى الاستسلام للصهيونية والغرب ليحكمنا وتقبيل يديه؛ وبالمقابل، كان هناك خطاب آخر يدعو إلى النهوض من الكبوة والنضال والاستمرار. وكل الأحداث التاريخية التي مررنا منها خرجنا فيها بهذين الخطين. وها نحن أولاء اليوم نشهد انحسار الموجة الإمبريالية والصهيونية كأنها بشائر انتصارات ونهوض. – أخذا بنظرية موازين القوى التي تؤمن بها؛ هل يمكن أن نقول إن نجاح الدول العربية في الحصول على استقلالها لم يكن بفضل قوة مقاومتها وانتصاراتها، بل بسبب تراجع القوى الاستعمارية بفعل دخول فاعل جديد هو الولاياتالمتحدة الأمريكية؟ هذا التغير في موازين القوى لعب دورا في انتصار هذه المقاومة والحصول على الاستقلال. لقد انهزمت تلك الحركات المقاومة في الماضي بسبب قوة الاستعمار الذي كان في بداياته؛ لكن عندما شاخ ذلك الاستعمار، وبالخصوص القوتين الرئيسيتين فرنسا وبريطانيا، تبدت الفرصة أمام المقاومة لكي تنتصر. ولا بد لنا أن نحتفي بهذه المقاومة وبانتصاراتها. – لكن البعض يرى أن الدول التي عاشت حركات مقاومة للاستعمار استقلت ليس لأنها هزمت المستعمر وانتصرت عليه، وإنما لأن ذلك المستعمر وصل إلى مرحلة لم يعد يرى فيها جدوى أو مصلحة من احتلال تلك البلدان… أنا أرى أن تلك البلدان استقلت لأنها قاومت، وتزامنت مقاومتها مع بدء تراجع الاستعمار بسبب موازين القوى، والاستقلال هو دليل انتصارها، إذ كيف كان من الممكن إجلاء المستعمر لو لم تكن هناك مقاومة؟ فالمستعمر لا يمكن أن يخرج من بلد احتلها عن طيب خاطر. وأنا أؤكد مجددا تفسيري لسر انتصار كل الثورات وحركات التحرر.. إنه يتوقف أساسا على وجود خلل ما في موازين القوى، فالثورة الإيرانية التي حدثت في 1979 -على سبيل المثال- لم تكن لتنتصر لولا أن الأمريكيين انهزموا في حرب الفيتنام ودخلوا مرحلة تراجع في العالم، وبدأ الاتحاد السوفياتي يهاجم وينتزع النفوذ منهم في مناطق كثيرة.. هذا الخلل في موازين القوى لعب دورا في نجاح الثورة الإسلامية، على عكس ثورة مصدق التي سبقتها والتي تم القضاء عليها بسرعة عندما كان الأمريكيون حينها في حالة هيمنة وسيطرة؛ ولكن في الوقت نفسه، لم تكن الثورة الإيرانية لتنتصر لولا وجود قيادة حازمة وثورة شعبية عارمة. وحتى إذا عدنا إلى التاريخ الإسلامي، يمكن أن نطبق نفس التفسير على انتصارات المسلمين في اليرموك والقادسية على سبيل المثال، وهما معركتان هزم فيهما المسلمون الروم والفرس، بسبب حالة الشيخوخة والانهيار التي كانت تينك الدولتان قد دخلتاها بتزامن مع انتشار الفتوحات الإسلامية، ولكن هذا لا يقلل من أهمية ثورة الإسلام والنهوض والإيمان والبراعة في الحرب.