أظهرت قضية تسيبي ليفني في لندن الكثير مما كان خافياً. فقد أظهرت أن القضاء البريطاني لا يزال يحافظ على استقلاله وأنه يدرك التردي الذي وصل إليه موقف حكومته، ولكنه سوف يقاوم. أظهرت القضية أيضاً أن حكومة بريطانيا «العظمى»، وعلى لسان رئيس وزرائها ووزير الخارجية، تعرب عن أسفها لاستقلال قضائها وكانت تتمنى أن يميز هذا القضاء بين المجرمين، فيفلت كل من هو يهودي بينما يساق غيرهم إلى سيف القانون. كذلك أظهرت القضية أن الحكومة، التي يفترض أنها تمثل غالبية الناخبين، تعطي وعداً وتطميناً للقادة الصهاينة المجرمين والذين ثبت إجرامهم بوثيقة لا تستطيع بريطانيا العظمى أو الدولة الأعظم أن تشكك في نزاهتها، إلا أن يكون إرضاء لهؤلاء القادة الملاحقين جنائياً، فهل يقبل الشعب البريطاني أن تسعى حكومته إلى تعزيز مبدأ الإفلات من العقاب، أليست ليفني متهمة على الأقل بارتكاب جرائم حرب؟ وهل كان بوسع الحكومة الموقرة، حكومة صاحبة الجلالة، أن تفعل ذلك لو كان المسؤول من غير الإسرائيليين؟ وهل يقبل مجلس العموم أن يعدل القانون خصيصاً، كما فعلت إسبانيا وبلجيكا تحت ابتزاز القوى الصهيونية، حتى يفلت المجرمون من الملاحقة؟ وماذا لو تجددت العمليات الاستشهادية والانتقامية من هؤلاء المجرمين في كل الدول العربية ما دامت أبواب الملاحقة القضائية المحترمة تسد يوماً بعد يوم؟ فهل تعد هذه العمليات حينئذ إرهاباً أيضاً، حينما يعد تسهيل إفلات المجرم الحقيقي من الملاحقة هو البطولة والمدنية؟ ألا يكفي أن ألجمت ألسنة الناس وأقلامهم في أوربا كلها عن تناول قضية الهولوكوست اليهودي وخضعوا لقدسية مفروضة على كل ما يتعلق بهذه القضية، فتعطلت كل الحقوق والحريات المزعومة التي رتبها الغرب لهذه المجتمعات المتحضرة التي يسود فيها القانون وحرية التعبير باستثناء كل ما يتعلق باليهود؟ ألا تشعر هذه الأقوام بالخجل من هذا الوضع المزري الذي وضعها موضع دول العالم الثالث الذي ساند الغرب حكوماته المستبدة وتآمر على سلب الشعوب في هذه الدول حقها في الحياة والحرية وتقرير المصير؟ ألا تعد تصريحات رئيس الوزراء ووزير الخارجية في بريطانيا احتقاراً للقضاء توجب جريمته سجنهما بتهمة ثابتة في القوانين البريطانية، أم إن هذه التصريحات المناهضة لاستقلال القضاء تدخل في نطاق حرية الرأي المسموح به في بريطانيا حتى لرئيس الوزراء؟ وكيف يفسر القضاء في بريطانيا أن رئيس الوزراء قطع عهداً على نفسه أمام المجرمين الصهاينة بأن مجرميهم سوف يرحب بهم ويلقون ما يستحقونه من معاملة طيبة وفق المعايير الحكومية البريطانية؟ ألا يثير هذا الموقف المحامين ورجال القانون والقضاء، وألا يشعرون بالأسى لأن رئيس وزرائهم يتعهد بأن يقلص سلطات القضاء لصالح السلطة التنفيذية ويطغى على استقلاله ونزاهته بإجراءات تشريعية، فيهب هؤلاء لتقديم رئيس الوزراء ووزير الخارجية إلى القضاء بتهمة إهانته والتحريض على إفساد مبدأ استقلال القضاء والفصل بين السلطات؟ وماذا يقول أساتذة القانون الدولي البريطانيون الشقاة في تسمية هذا الوعد من حكومة رسمية لمجرمين بأن يسهل لهم الإفلات من الملاحقة ويحال بينهم وبين يد العدالة؟ هل هذا الوعد يحظى بأي شرعية أم إنه يعرض صاحبه للملاحقة الجنائية الدولية لأن صاحبه يناهض السياسة الرسمية للمجتمع الدولي بمنع الإفلات من العقاب؟ وإذا كان الإفلات هو الذي أصبح سياسة رسمية، فلماذا، إذن، نشأت المحكمة الجنائية الدولية إلا لأن تكون أداة قضائية «محترمة» لمعاقبة المخالفين للسياسات الغربية بسيف القانون وفي رحاب القضاء الجنائي الدولي وفي مسموح العدالة الدولية؟ وهل هذا هو ما ناضل المجتمع الدولي لتحقيقه طوال قرن من الزمان؟ تلك كلها أسئلة أرجو من الجالية العربية ومجلس العموم والغيورين على سمعة القضاء البريطاني وعلى مصالح بريطانيا العظمى أن يتدبروها. وأخيراً، كيف ينظر «فريدوم هاوس»، الذي يراقب الممارسات الديمقراطية، إلى هذه القضية الخطيرة؟ إن الأمم تتفاضل بحرصها على احترام القانون واستقلال القضاء وأن يظل سيف القانون أعلى من كل الرقاب حتى لو كانت رقاباً يهودية. وسوف يحق على بريطانيا والغرب ما حدث للأمم البائدة التي حذر الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، من مصيرها عندما أكد: لقد هلكت الأمم من قبلكم لأنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد. فليقم الحد على كل مجرم في داخل البلاد وخارجها حتى تستقيم الحياة السليمة. وأخيراً، يجب أن تقف السلطات المختصة في بريطانيا عند ما كشف عنه التلفزيون الإسرائيلي من أنه تم تهريب ليفني من بريطانيا، وإذا ثبت ذلك فإن الحكومة تكون قد تواطأت مع إسرائيل على فضيحة تكفي لتلطيخ سمعة بريطانيا كلها، وليس فقط حكومتها، لأجيال قادمة.