زيارة خاطفة لبيروت سمحت، رغم قصرها، بالاطلاع على جزء من المزاج العام السائد حاليا في لبنان. هذا الجزء من المزاج العام لم أتلمس بعض أوجهه من ساسة أو مثقفين بل من شريحة اجتماعية كثيرا ما ينظر إليها الصحافيون، ولاسيما الأجانب، بكثير من الاهتمام. إنهم ثلاثة من سائقي التاكسي، جميعهم في بداية الخمسينات من العمر، أحدهم مسلم شيعي والآخران مسيحيان من الموارنة على الأرجح. لم أسأل أيا منهم عن ديانته أو طائفته، لكن ما كان بالسيارة من صور صغيرة أو بعض الكتابات كان كافيا للتعريف. ومن خلال حديث هؤلاء، المتدفق وخفيف الظل، اتضح أنهم ثلاثتهم من «الكفار»: أولهم كافر بالأحزاب، الثاني بالديمقراطية، أما الثالث فهو أخطرهم لأنه كافر بالبلد كله. يقول الأول إنه لا يكل ولا يمل من تربية ابنه الشاب منذ سنوات على كره كل الأحزاب اللبنانية القائمة وضرورة عدم الانضمام إلى أي منها. كلها، في نظره، مجموعة من الدجالين يعبئون الشباب لسنوات للموت من أجل القضية، فيموت هؤلاء الشباب ويبقى الزعيم. إذا سار يمينا أشاع بينهم أن هذا هو الطريق المناسب والسديد، وإذا ما عنّ له ذات يوم أن يستدير شمالا فلا يخجل من أن يواصل بذات النفس والهمة إقناعهم بعكس ما كان يقوله من قبل. وبالطبع، لن يعدم هؤلاء مبررات كثيرة يسوقها بمفردات منتفخة تفيد بأنه الأدرى بالمعادلات المحلية والإقليمية والدولية. صاحبنا هذا خلص إلى تنبيه نجله إلى أنه لن يظل ابنا له إن هو وقع في فخ أي من هذه الأحزاب أو توسم فيها خيرا. صاحبنا الثاني شرع في تعداد مثالب الديمقراطية ومزايا الديكتاتورية حتى كدت أصدقه. بالنسبة إليه، لا معنى لحرية تعبير ولا حرية صحافة ولا تعددية حزبية ولا انتخابات حرة في لبنان إذا انعدم الأمن وسادت الفوضى، وأنه من الأفضل أن يحكم البلاد رجل حديدي يفرض الانضباط على الجميع وينهي هذا الكلام الفارغ المسمى ديمقراطية. أشاد بالرئيس الراحل صدام حسين وبكى حال العراق من بعده للتدليل على صحة كلامه، ثم تغزل بكل الرؤساء العرب القابعين في سدة الحكم لسنوات طوال والذين فضلوا الأمن والاستقرار على أي شيء آخر، وطالب بالدعاء لهم بالصحة وطول العمر. وخلص إلى أن الشعوب العربية التي يحكمها هؤلاء في نعمة يحسدون عليها، ومن كان في نعمة ولم يشكر خرج منها ولم يشعر! ونصل إلى صاحبنا الثالث الذي قال إن لبنان، الذي كان يوصف بسويسرا الشرق، انتهى ولن تقوم له قائمة أبدا. بدأ بالليرة اللبنانية التي كانت لها «شنة ورنة» أمام الدولار قبل الحرب الأهلية عام 1975 وكيف صارت الآن. بالنسبة إليه، لا مجال للحديث عن بلدٍ الدولةُ فيه ضعيفة ولا قدرة لها على نزع سلاح هذا الطرف أو ذاك، دولة لا تستطيع أن تحمي البلاد ولا أن تصون كرامات أهله من تعديات هذا الطرف أو ذاك. ويرى صاحبنا كذلك أن بلدا ينخره الفساد منذ سنوات وتثقله مديونية رهيبة لا يمكن أن يستمر طويلا وقد يكون عرضة للتلاشي والضياع، خاصة وأنه مقسم إلى ملل ونحل يتراجع ولاؤها للوطن كلما قوي ولاؤها للطائفة والمذهب. لم يكونوا سوى ثلاثة رسموا من زوايا مختلفة جزءا من الواقع اللبناني بتشعباته المختلفة... فماذا عساها أن تكون هذه الصورة لو كان العدد أكثر والحبكة درامية ممتعة على غرار ما فعله الكاتب المصري خالد الخميسي في كتابه «تاكسي» الذي جمع فيه شهادات عشرات سائقي التاكسي، «فكان بحق صورة بالغة الصدق لحالة المجتمع كما تراها عيون شريحة اجتماعية مهمة وذكية، فإذا بالنتيجة عمل أدبي بالغ الجمال ورصد دقيق لأحوال المجتمع وللرأي العام المصري اليوم في وقت واحد»، كما قال عنه الدكتور جلال أمين.