أصبح واضحا الآن أن هناك أزمة داخلية طاحنة تعيشها جماعة الإخوان المسلمين، ظهرت حينما طلب المرشد العام للإخوان المسلمين محمد مهدي عاكف تصعيد القيادي عصام العريان إلى عضوية مكتب الإرشاد، ورفض المكتب، فغضب المرشد وأعلن عن إصراره على عدم الترشح لفترة ثانية. وكانت هذه الحادثة هي القشة التي قصمت ظهر البعير وأظهرت حجم المأزق التاريخي الذي تعيشه الجماعة وحجم الخلافات الداخلية بين قياداتها التي بقيت عوامل كثيرة تحول دون ظهورها خلال العقود الماضية. وقد أظهر هذأ المأزق التاريخي أن هناك فريقين داخل الجماعة، كل منهما يحاول أن يتغلب على الآخر أو يقصيه، فريق يقوده النائب الأول للمرشد الدكتور محمد حبيب وفريق يقوده الأمين العام للجماعة الدكتور محمود عزت. وقد اتضحت الصورة كاملة حينما ظهر الدكتور محمود عزت معي في برنامجي التلفزيوني «بلا حدود» يوم الأربعاء 16 ديسمبر وأعلن في نهاية الحلقة، بعد مغالبة أرهقتني في محاولة استخراج معلومة نافعة منه على مدى ساعة، أن مجلس الشورى قرر اختيار مكتب إرشاد ومرشد جديد للجماعة قبل الثالث عشر من يناير القادم، وهو موعد انتهاء ولاية المرشد الحالي محمد مهدي عاكف. ويبدو أن هذا الإعلان مثّل صدمة حقيقية لدى كثير من قطاعات الإخوان، على رأسهم نائب المرشد العام محمد حبيب حينما خرج على وسائل الإعلام في اليوم التالي وصرح بأن ما أعلنه الأمين العام للجماعة يخالف اللوائح وتم دون إعلام مكتب الإرشاد أو مجلس الشورى. السؤال الهام هنا هو ما الذي أوصل الإخوان المسلمين إلى هذا المأزق؟ وهذا سؤال صعب ومعقد تماما مثل الحالة المعقدة التي يعيشها الإخوان الآن بعد أكثر من ثمانين عاما على تأسيس جماعتهم علي يد الإمام حسن البنا، وخمسين عاما على اغتياله في الثاني عشر من فبراير عام 1949، فقد اغتيل حسن البنا وعمره لم يتجاوز أربعة وأربعين عاما، وكان مشروعه لم يكتمل بعد، فترك مقتله فراغا قياديا كبيرا ظلت تعيشه الجماعة منذ ذلك الوقت، فقد بقيت الجماعة طيلة عامين دون مرشد بعد اغتياله، حيث تفاقم الخلاف بين قادتها آنذاك، ثم اتفقوا على مرشد من خارج الجماعة تنظيميا هو المستشار حسن الهضيبي الذي جاء من بعده عدد من المرشدين لم يملك هو أو أي منهم شيئا من مقومات الزعامة والقيادة والحكمة وبُعد النظر وفهم المشروع والحضور والضوء الذي كان يميز البنا، وكان حرصهم جميعا لا يتجاوز الحفاظ على ما تركه البنا دون أي إبداع أو تجديد أو بروز زعامة تاريخية تقدم الإخوان، فكرا وتنظيما، إلى العالم من جديد وتكمل المشروع الذي بدأه حسن البنا، كما لعبت المحن والضغوط السياسية والأمنية التي يعيشها الإخوان منذ خمسين عاما دورا كبيرا في التغاضي عن كافة المثالب والأخطاء الداخلية التي أصبحت تتراكم داخل الجماعة دون تصويت، وأصبح التنظيم أهم من الجماعة، بل قزّم التنظيمُ الجماعةَ وأصبح لا يستوعب إلا من ينطوي تحت بند السمع والطاعة وباقي البنود التي تقتل الإبداع وإبداء الرأي الآخر داخل التنظيم. وربما كان لرجال النظام الخاص الدور الأساسي في الحفاظ على التنظيم حينما خرجوا من السجون بعد محنتي 1954 و1965، فلعبوا الدور الأساسي في إدارة التنظيم وبقي مكتب الإرشاد ومجلس الشورى وباقي الهيئات الإدارية في الجماعة تدور في إطار ما يخططه ويرتبه رجال النظام الذين وصل أبرزهم، مصطفى مشهور، إلى منصب المرشد فيما بقي الآخرون يديرون أمور الجماعة من وراء ستار ويختارون مرشدين لا علاقة لهم بالقيادة إن من قريب أو بعيد حتى يبقي زمام الأمور بأيديهم. لكن المشكلة داخل الجماعة ومع كل مرشد جاء بعد حسن البنا بقيت هي مشكلة الإدارة ومشكلة الرؤية والمشروع والكاريزما والزعامة، ومن ثم مشكلة القائد الذي لا يكون دوره مجرد الحفاظ علي التنظيم وإنما قيادة الجماعة برؤية القائد الزعيم والمرشد الملهم. لكن المشكلة بقيت في هؤلاء الرجال الذين يحركون التنظيم من وراء الكواليس، وهذا من أخطر ما أصاب الجماعة في مقتل، فهؤلاء في النهاية بشر وليسوا ملائكة، ويعتريهم ما يعتري البشر من أمراض وعلل نفسية ومزاجية مهما كانت سلوكياتهم من التقوى والورع والإخلاص، فالتقي الورع تقواه وورعه لنفسه وقليل منها للناس، لكن سياسة أمور الناس تحتاج إلى عقول ونفوس عركتها الدنيا ومصاعب الحياة، تعرف طباع البشر وما آلت إليه الدنيا من تطور وعلم وتنوع بشري وسياسي ومعرفي، وتعرف من فنون الإدارة وسياسية الناس ما يؤهلها للعبور بمن تولت أمرهم مصاعب الحياة وألاعيب السياسة وأنواع الخداع التي تمارسها الأنظمة المستبدة، وتعرف كيف تتعامل مع الأنظمة القائمة بعقلية الساسة المحنكين ورجال الدولة المدربين، أما التقوقع في دائرة المحن والابتلاءات والصبر فهذا ضعف وعجز مهين. إن الأزمة التاريخية التي يعيشها الإخوان اليوم هي نتاج أزمة قيادة وإدارة وإقصاء وإبعاد لكل من له رأي مخالف أو رؤية مبدعة، كما أنها تعكس عجزا عن صناعة علاقات بكثير من المتعاطفين من الإخوان من السياسيين والمفكرين الذين لهم رؤى إصلاحية ربما تخالف القيادات المتقوقعة على نفسها وعلى تنظيمها وترفض الاستماع أو الاستفادة من الآخر. وقد استمر هذا الأمر ما يزيد على خمسين عاما حتى وصلت الأمور إلى حالة الانفجار القائم، وبالتالي إن لم يتنادَ المخلصون من قادة الإخوان بل من جميع الإخوان ويتخلوا عن حظوظ أنفسهم، التي تتوارى تحت الورع أحيانا والمصلحة العامة أحيانا أخرى، ويصلوا إلى حلول تخرج الإخوان من هذا المأزق، فإن الانشقاق واقع لا محالة وسوف يكون الأخطر في تاريخ الجماعة وسيقدم هؤلاء نهايتها على طبق من ذهب إلى كل الأنظمة التي عجزت عن القضاء عليها طيلة ثمانين عاما، وإذا نجا الإخوان من هذه الأزمة -وقد أصبح هذا الأمر- مستبعدا، في رأي كثير من المراقبين فإن عليهم أن يعرفوا كيف يختارون قادتهم وأن يعدلوا لوائحهم ووسائل المحاسبة لقادتهم بشكل لا يسمح لأحد بأن يدمر الجماعة على رؤوس من فيها كما يحدث من بعض القيادات الآن تحت بنود التقوى والورع والإخلاص والحفاظ على التنظيم، وكل هذا بعيدا عن حسن النوايا.. هراء وجهل بمقتضيات الحياة وتطور الأحداث ولاسيما أن كثيرا من هؤلاء قضوا عشرات السنين داخل أسوار الإخوان، لا يعرفون ماذا يحدث خارجها، وهذا سبب خلافهم مع غيرهم من الإخوان الذين اختلطوا بالدنيا والناس وعرفوا كيف يختلفون ويقبلون الآخر، إنها حقا كارثة، لكن كثيرين يتمنون ألا تكون النهاية.