قبل بضع سنوات، صدر لي كتاب عنوانه «الشيخ والخليفة: الإسلام السياسي من منظور علم الاجتماع»، بينت فيه أن حزب العدالة والتنمية بالمغرب يمكنه أن يساهم في بناء الديمقراطية لأن قيادة الحركة الإسلامية التي انبثق عنها كانت قد تبنت الخيار الإصلاحي في أدبياتها منذ بداية التسعينيات من القرن الماضي. وهذه المقاربة التي تبين أنه لا يوجد أي تعارض بين الديمقراطية، من جهة، والمرجعية الإسلامية، من جهة أخرى، تختلف عن مقاربة المستشرقين الجدد، بالخصوص الفرنسيين منهم، الذين يعتبرون أن الحركات الإسلامية المعاصرة لا يمكن أن تكون ديمقراطية لأنها تؤمن بحكم «المطلق» في العمل السياسي. وعلى عكس ما يكتب في أديبات المستشرقين، فإن تحليل حزب العدالة والتنمية للنظام السياسي المغربي وللمجتمع «واقعي»، مستلهم من احتكاكه بالواقع المعيش والحياة اليومية للمغاربة. ومنذ تأسيس الحزب سنة 1998، اتضح أن قيادة الحركة الإسلامية الإصلاحية دخلت العمل السياسي الانتخابي انطلاقا من تفريقها بين ما هو دعوي وما هو سياسي. وهذا التمييز بين الدعوي والسياسي وضبط العلاقة بينهما من أهم محددات نجاح حزب العدالة والتنمية في المشهد السياسي، حيث تتفرغ قيادة الحزب للعمل السياسي المحض وتترك مجال الدعوة لرجاله ولعلماء الحركة الإسلامية. وبدون شك، فإن العلاقة بينهما عرفت شيئا من التوتر أيام كان الفقيه احمد الريسوني رئيسا لحركة التوحيد والإصلاح، حيث لم يتردد في الإدلاء برأيه في قضايا سياسية حساسة، مثل شرعية إمارة المؤمنين، قد تضايق مسلسل «تطبيع» علاقة الحزب بالنظام الملكي. وإذا كانت للعمل السياسي لغته وقواعده الخاصة به، غير الخاضعة للدعوة ورجالها، وللدعوة مجالها الخاص بها، وهو تبليغ التعاليم الإسلامية والكلمة الطيبة داخل المجتمع، فهذا لا يعني أن حزب العدالة والتنمية هو حزب «علماني» أو أن الدين لا يلعب دورا في عمله السياسي، بل يدل على أن الدين حاضر في جانبه الأخلاقي لأن معظم قادة الحزب دخلوا العمل السياسي متشبعين بقيم إسلامية توجِّههم في قراراتهم وسلوكياتهم. وبالطبع، التشبع بالأخلاق لا يعني أن قيادة الحزب محصنة من الأخطاء، وبالخصوص بعد أن ذاقت طعم السلطة؛ لكن اعتمادها آليات الديمقراطية والمراقبة والمحاسبة في تسيير شؤونها الداخلية يجعلها متقدمة على الأحزاب الكبرى الأخرى التي تدعي أنها «حداثية»، وقد يجنبها تكرار أخطاء اليسار المغربي أثناء تجربته الحكومية. وفي نهاية المطاف، فإن تطوير نموذج الديمقراطية الإسلامية يحتاج إلى حد أدنى من الحرية السياسية التي بدونها يستحيل على حزب ذات مرجعية إسلامية أن يرى النور ويتطور. وتجربة حزب العدالة والتنمية في المغرب، مثل تجربة حزب العدالة والتنمية التركي وحركة النهضة في تونس، من شأنها أن تساهم في تطوير نموذج ديمقراطية منبثقة من التراث والقيم الحضارية الإسلامية، وأن تمهد الطريق لأحزاب أخرى ذات مرجعية إسلامية في العالم العربي لم يسمح لها السياق السياسي بتطوير فكرها وممارستها السياسية.