هل يقامر حزب العدالة والتنمية بالرصيد التاريخي والاجتماعي للحركة الإسلامية في المغرب؟ بنت الحركة الإسلامية في المغرب نواتها الصلبة بنضال مرير من أجل إثبات وجودها فضلا عن تنويع وتوسيع وتطوير هذا الوجود، فمن يتأمل النضال الدعوي الذي مارسته رابطة المستقبل الإسلامي مثلا، لمدة سنين طويلة، في مدينة صغيرة في حجم مدينة القصر الكبير، يستغرب من قدرتها على الاستمرار في الوجود، مع تنويع وتطوير عملها الدعوي، في وقت كان العمل الجمعوي ذو الخلفية الإسلامية لا غنائم سياسية ترجى من ورائه، هذا فضلا عن المضايقات والمراقبة الصارمة التي كان يخضع لها باستمرار. من يتأمل السياقات التاريخية للحركة الإسلامية في المغرب يخرج بقناعة واحدة هي أن هذا التواجد المتجدر للحركة الإسلامية في المجتمع المغربي انبنى على تضحيات جسيمة لأناس كانوا منسجمين بالفعل مع شعاراتهم القائمة على "الإسهام في إقامة الدين وتجديد فهمه والعمل به، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع والدولة والأمة وبناء نهضة إسلامية رائدة وحضارة إنسانية راشدة، من خلال حركة دعوية تربوية، وإصلاحية معتدلة، وشورية ديمقراطية، تعمل وفق الكتاب والسنة، وتعتمد أساسا على إعداد الإنسان وتأهيله، ليكون صالحا مصلحا في محيطه وبيئته، كما تلتزم منهج التدرج والحكمة والموعظة الحسنة، والتدافع السلمي، والمشاركة الإيجابية والتعاون على الخير مع غيرها من الأفراد والهيئات." كما أن حزب العدالة و التنمية، على الأقل منذ التحاق أعضاء من حركة الإصلاح والتوحيد بحزب الحركة الشعبية الدستورية برئاسة الدكتور الخطيب، يُعرِّف نفسه في مرجعياته بأنه: «حزب سياسي وطني يسعى، انطلاقا من المرجعية الإسلامية وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين، إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديمقراطي، ومزدهر ومتكافل. مغرب معتز بأصالته التاريخية ومسهم إيجابيا في مسيرة الحضارة الإنسانية». اعتبر حزب العدالة والتنمية دائما امتدادا عضويا للحركة الإسلامية في المغرب، كما اعتبر تجسيدا للنضال السياسي الذي حمل لواءه مناضلون إسلاميون منذ بزوغ تيار الإسلام السياسي في المغرب، على الأقل رسميا منذ سنة 1992. بنى الحزب قاعدته الانتخابية على نوعين من المصوتين: النوع الأول يشمل المنتسبين والمتعاطفين والقريبين من الحزب، والنوع الثاني يشمل المقتنعين بالخلفية الاسلامية لحزب العدالة والتنمية بدون إلمام بالجوانب السياسية للعملية الانتخابية. لذلك اعتبر اكتساح حزب العدالة والتنمية لانتخابات سنة 2011 وحيازته لرئاسة الوزراء، ثمرة عمل قاعدي له خلفية اجتماعية تأسست قبل ظهور حزب العدالة و التنمية بزمن طويل. إن الامتداد الاجتماعي الشعبي للإسلاميين، ومن خلالهم حزب العدالة والتنمية، كانت دائما تحكمه استراتيجية واحدة ترتكز على القرب من المواطن وتبني الدفاع عن حقوقه الاجتماعية والاقتصادية، لذلك اعتبر الكثيرون أن العمل الاجتماعي الذي نهضت به رابطة المستقبل الإسلامي، وحركة الإصلاح و التجديد، ثم بعد ذلك حركة التوحيد والإصلاح، سواء في مناسبات شهر رمضان أو الدخول المدرسي، وتحديد الطبقات الفقيرة كهدف أولي، اعتبر هذا العمل استباقا استشرافيا لاستقطاب فئة عريضة من المجتمع المغربي، أغلبها من المعوزين، ونسبة كبيرة منها داخل المدن. إن شعارات مثل، عمل سياسي بديل، ومواجهة الفساد والاستبداد، وغير ذلك، اعتبر عند العديدين حنكة سياسية كانت تعرف كيف تستغل محاربة الفقر والبؤس الاجتماعي لفئة عريضة من المغاربة لمصلحتها، مع الأخذ بعين الاعتبار دائما تقديم الحزب كوصي رئيسي على قيم وهوية المغرب الإسلامية باعتبارها مرجعية واحدة وحيدة، طبعا بانسجام وتنسيق مع إمارة المؤنين التي يسلم بها، سواء الحزب أو الحركة. السؤال ، هل حزب العدالة و التنمية يقامر بالرصيد التاريخي والاجتماعي للحركة الإسلامية؟ هل اختيارات حزب العدالة و التنمية، المعتمدة على حسابات سياسية محضة، يمكن أن تأثر على الوضعية الفكرية العامة للحركة ؟ هل التمسك بالحكومة، والبحث عن انطلاقة أخرى لها بالتحالف مع حزب الأحرار، هو خيار سياسي وجيه؟ هل التحالف مع حزب الأحرار، رغم الصراعات السياسية المريرة التي خاضها حزب العدالة والتنمية معه، يمكن اعتباره براغماتية سياسية، أم هو نكوص أخلاقي مرتبط بالمبادئ السياسية العامة التي تغنى بها الحزب طويلا، باعتبارها ممارسة سياسية بديلة، مختلفة ومتزنة؟ هل من الوارد أن تؤثر الاختيارات السياسية والاقتصادية لحزب العدالة و التنمية على مصداقية التيار الإسلامي في المغرب؟ هل الزيادات المتتالية في بعض المواد الحيوية، التي تمس، بدون شك، القدرة الشرائية للمواطن المغربي، يمكن أن تأثر على المزاج العام للناخب المحسوب على حزب العدالة و التمية؟ هل الممارسة السياسية لحزب العدالة والتنمية في الحكومة، والقائمة على براغماتية سياسية واضحة، تنسجم مع المبادئ العامة للتيار الإسلامي في المغرب ؟ هل منطق السياسة وإكراهاتها ومتغيراتها يمكن اعتباره مسوغا للانقلاب 180 درجة في كثير من المواقف و من كثير من الشخصيات السياسية التي كان الحزب يدينها ويرفضها جملة وتفصيلا، بل يدعو إلى محاربتها باعتبارها من مسببات مشاكل المغرب السياسية والاقتصادية؟ هل الحركة الإسلامية المغربية، سواء المنتمية لنفس الخلفية الإصلاحية أو المنتمية لحقول إسلامية حركية أخرى، مقتنعة، حقيقة، بالأداء السياسي لحزب العدالة والتنمية؟ هل الإسلاميون لا يجدون حرجا أمام سائر المغاربة، عندما تقوم حكومتهم باختيارات لاشعبية، إذا اعتبرنا أن الزيادة في الأسعار هي دائما أسهل الحلول للتغلب على الصعوبات الاقتصادية، ودائما تكون على حساب المواطن؟ ألا يمكن اعتبار هذه الاختيارات اللاشعبية في نظر الكثيرين، سداجة سياسية ثمنها الانتخابي سيكون كبيرا جدا، كان من الممكن تفاديها بالدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، على الأقل لاستطلاع موقف ورأي النواة الانتخابية الصلبة للإسلاميين، من هذه الاختيارات؟ أليس هناك، سواء من داخل حزب العدالة و التنمية أو حركة التوحيد والإصلاح أو باقي الحركة الإسلامية، من يعتقد أن بدائل أخرى كانت مطروحة أمام عبدالإله بنكيران للخروج من عنق الزجاجة ، ابتداء من الدعوة إلى انتخابات سابقة لأوانها، وانتهاء بالدعوة إلى حكومة وحدة وطنية، للخروج بأقل الأضرار الممكنة، من تجربة حكومية صعبة بكل المقاييس؟ ألا يمكن اعتبار حضور المنطق التبريري بقوة، في كلام وزراء ومسؤولي حزب العدالة والتنمية عن الزيادات، عوض حضور المنطق الدفاعي الإقناعي، علامة على وجود أزمة تواصلية لدى عدد من المنتسبين للحزب وللحركة، وعدد كبير من المغاربة، خاصة وأن بعض الإسلاميين عبروا صراحة عن تخوفهم من العواقب الوخيمة على مستقبل الحزب والحركة بشكل عام؟ إن إصرار عبدالإله بنكيران على ترقيع الحكومة بالتحالف مع حزب الأحرار، رغم التعثرات ورغم التنازلات ورغم الإهانات، فيه كثير من المغامرة بمستقبل الحركة الإسلامية في المغرب. إن إصرار حكومة الإسلاميين على تبني الزيادات المتتالية في بعض المواد الأساسية والحيوية، مهما كانت الدوافع و الاكراهات، والبحث عن تبريرات لها، يمكن أن يوسع من دائرة المرتدين عن الإيمان بمشروع حزب العدالة و التنمية، الشيء الذي يجعل تقليص النواة الصلبة التصويتية لحزب العدالة و التنمية أمرا واردا وبقوة، وفي نفس الوقت انتكاسة للحركة الإسلامية المغربية، في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الحركات الإسلامية في أغلب البلدان العربية. الجميع يعرف أن منطق السياسة في العالم الثالث لا تحركه التغيرات الماكرواقتصادية، ولا التحولات الجيوسياسية، ولا إكراهات السوق الدولية وغير ذلك، منطق السياسة في دول العالم الثالث ومنها المغرب، هو أن أي زيادة في المواد الاستهلاكية للمواطن هي مس بقدرته الشرائية وزيادة في تفقيره. هذا الصخب السياسي والاقتصادي والاجتماعي الكبير الذي أحدثته الزيادة في الحليب و المحروقات، يمكن اعتباره مقبولا بالمقارنة مع ما يمكن أن يخلفه المس بصندوق المقاصة من خطر أمني كبير على المغرب، لأن فهم المواطن البسيط للتغيرات المرتقبة على الصندوق، تختلف عن رؤية الحكومة، المحكومة دائما بالتوازنات والإكراهات. هذا من جانب، ومن جانب آخر، يمكن ربط النظر إلى صندوق المقاصة بالنظر إلى صندوق الانتخابات، على اعتبار أن خلخلة توابث صندوق المقاصة ستعقبه تحولات جدرية في النظرة الانتخابية إلى حزب العدالة والتنمية والحركة الإسلامية بوجه عام. حزب العدالة و التنمية يمارس السياسة الآن بمنطقها البراغماتي العام، وبالتالي لم يعد يتميز عن باقي الأحزاب المغربية بتلك الصفة الخاصة المستندة على ضرورة توفر العمل السياسي على حدود دنيا من المبادئ، والحركة الإسلامية المغربية كانت دائما تنظر بعين أخلاقية ومبدئية دينية لها امتدادات شعبية، هي التي أوصلت حزب العدالة والتنمية إلى الوزارة الأولى، لذلك التغلب على هذا التاقض بين الأداء الحكومي البراغماتي للحزب، والخلفية الأخلاقية المبدئية للحركة، تبدو مستحيلة، هذا إذا اعتبرنا العلاقة بين الحزب والحركة قائمة من الناحية الإجرائية، وأن التمييز بينهما هو تنظيمي فقط. بعض الشامتين يقولون بأن ما تخوف، أو بالأحرى ما عجز، عن فعله العديد من الأحزاب السياسية، فضلا عن الدولة، خلال 40 سنة، فعله حزب العدالة و التنمية في وقت قياسي لا يتعدى السنتين. وأن هذه الإجراءات التي تهرب منها الجميع، يتبناها حزب العدالة والتنمية، ليس لأنه مؤمن بها بل لأنه مجبر على القيام بها، إما تعبيرا عن حسن نية، أو تأكيدا لوجود نوعي في الساحة السياسية يشكك البعض فيه. لهذا وجب التنبيه، يمكن أن تكون الممارسة السياسية والتدبير الاقتصادي لحزب العدالة والتنمية، عاملا إضافيا يساهم، عن غير قصد، في انحسار المد الشعبي للحركة الإسلامية المغربية، أما خسارتها لقواعدها الانتخابية فهذا أضحى تحصيل حاصل، حتى تثبث الانتخابات المقبلة، سواء كانت سابقة لأوانها أو في أوانها، العكس.