كثيرا ما نردد، بيننا وبين أنفسنا، أو حتى علانية في بعض الأحيان، مقولة إن المعاصرة حجاب. طبعا، نحتفظ من هذه المقولة السحرية بالتأويل الذي يلائم غرورنا ويجعلنا ننام في العسل، متناسين أن الحجاب يمكن أن نحوكه نحن بقيمنا وتقاليدنا، بصمتنا وتواطئنا أو حتى بجهلنا وادعائنا. كل ثقافة تنسجُ، في الواقع، حول نفسها الحجُب التي تلائم درجة غياب إرادة القوة بداخلها، ولا تتجه نحو تمزيقها، كما هو الحال بالنسبة إلى الثقافة الغربية، إلا عندما تستيقظ إرادة القوة بداخلها من جديد، لتمنح لكتابها ومفكريها ومبدعيها تلك الأظافر أو المطارق أو المشارط التي تجعل حركة الفكر حادة، مقتحمة، جريئة، وغير منفصلة تماما عن أشواق ذات تتطلع إلى الحرية وإلى توسيع فسحة العيش. لا يمكن للمعاصرة أن تملكَ حجابها إلا إذا وجدَت، في المعاصرين، مَن يملك الآلة والاستعداد للقيام بدور الحائك. طبعا، الشروط الثقافية العامة تهيئ أيضا لغفوة الإرادة وتمنح المعاصرين الفرصة للاستعداد لمراكمة الأحكام والانطباعات والتأويلات وأنواع التقييم الجاهزة، التي تتحول مع الوقت إلى حجاب هائل، لا يحجب فقط انبثاق «الحقيقة»، وإنما أيضا الطرق المعقدة لتشكلها، في سياق ثقافي يتميز عادة بهيمنة قوى محافظة على وسائل تشكل الرأي وقنوات بناء المعرفة وتداولها. هذا الواقع الثقافي والنفسي الذي نصنعه بقدر ما نكون ضحاياه، عن وعي أو من دونه، هو المسؤول عن مراكمة الحجب المانعة لتدفق أنوار العقل والنقد والخيال. تنطوي علاقتنا الثقافية، نحن المغاربة، بالمشرق العربي على كثير مِن الحجب. يُشاع هناك أننا أبناء فقه وعقل ومنطق لا يستقيم لصبوة الإبداع والخيال والحدوس الإشراقية. هذا الحكم عمّر دهورا وما يزال ينسج خيوطه حتى في أيامنا هذه، في الوقت الذي بدأنا نعي فيه شروط تفكك المركز الثقافي العربي التقليدي. لم تكن مساهمتنا في الأندلس تُحسَب إلا كإعادة إنتاج لبضاعة مشرقية، ما عداها ينوء بثقل سلاسل العقل الفقهي. كما أن مساهمتنا الراهنة لا تحظى بالتقدير والإعتراف إلا في مجال الفكر والنقد والفلسفة والدراسات اللغوية، وكأن قوة العقل التي أنتجتْ هذه المعرفة، غير قادرة على اجتراح ما يناسب زخمها من خيال خلاق في مجال الكتابة والإبداع الأدبي. علاقتنا بأنفسنا أيضا لا تخلو من حُجب. نحن لا نبدع ونبحث ونكتب، في سياق من الحرية والعلائق الشفافة بذواتنا وبالآخرين وبمؤسسات إنتاج القيم، وإنما انطلاقا مِن رُكام من الأفكار الجاهزة التي أصبحث تتمتع بقوة «الحقيقة» بحكم تداولها الواسع على ألسنة كتاب يمنحونها الشرعية. ويكفي أن يرطن أحدهم بحُكم حتى نرفعه إلى مستوى الكلام القاطع المُنزَّه. يكفي أن نسمعَ قولا صادرا عن دائرة نفوذ ثقافية معينة، حتى نُعليه معيارا للبحث والحكم على القيمة. إننا لا ننطلق من بداهة النقد المتطلع إلى التهدئ من روع سؤاله وهو يبحث ويقتحم ويُقلِّب الأشياء على كل وجوهها، وإنما من بداهة الجواب المطروح سلفا في الطريق. ذلك هو شرك الحجاب وعمله، قديما وفي الوقت الراهن. إنَّ الإجراء الأول الذي يُمكننا مِن العثور على رأس الخيط، لتفكيك ما تراكم في حياتنا الثقافية مِن حُجب، هو تعليق الأحكام، حول أنفسنا وحول الآخر، ومباشرة العمل إنطلاقا من النصوص ذاتها، والوقائع نفسها. لا بد مِن أن نُعلي مِن شأن الوثيقة وأن نمنحها الحيز الملائم الذي تستحقه في بناء المعرفة. علينا أن نترك القضايا الكبرى العامة جانبا، وننخرط في يقظة الانكباب على التفاصيل، حيث تتشكل العقد الصغيرة التي تكمن خلفها «الحيوانات المنوية» الأولى للحقيقة. علينا أن نكرس قيم التخصص وفضيلة التبحر في قضية أو ظاهرة أو كاتب أو مدرسة أو حقبة، أو فلسفة، مع ما يلزم ذلك من عتاد وجهد وتفان ونزاهة في البحث والتنقيب. إنه المعنى الذي يمكن أن نمنحه لحياة لا تريد أن تذهب سُدى.