حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – ساءت علاقتك كثيرا بعبد الله الصنهاجي رغم أنه كان السبب الرئيس في إنجاز بحثك الجماعي حول جيش التحرير بعدما أمدك بوثائق حساسة، البعض فسر تدهور العلاقة بينكما بالسعي نحو الزعامة الحزبية، إلى أي مدى يمكن أن يكون ذلك صحيحا؟ أنا لا أنكر أفضال عبد الله الصنهاجي علي فإضافة إلى صناديق كبيرة من الوثائق، حصلت أيضا على وثائق عبد السلام الدهبي والساسي الإسماعيلي والملاحظ والدوائري ووثائق أخرى تبين إلى أي مدى كان هناك خلاف كبير جدا بين عباس المساعدي وقيادة الناظور وبين جماعة تطوان. عبد الله الصنهاجي حينما أيقن أنه حجز له مكانا داخل المشهد السياسي المغربي، بدأت تكبر طموحاته إلى درجة لم يعد ينصت لأحد داخل الحزب، بل كان يسير الأمور بشكل انفرادي، وكلما وجهت إليه ملاحظة، يقول لك إنه هو رئيس الحزب وسيتصرف كما يشاء. من هنا بالتحديد بدأت علاقتي به تسوء وتتدهور حتى قدمت استقالتي من حزب العمل بعد 6 أو 7 أشهر من مساهمتي في تأسيسه. لا أفهم حقا كيف تغير الصنهاجي في مدة وجيزة جدا، وهو التغير الذي لاحظه الجميع. – تحدثت عن سوء فهم كبير ساد العلاقة بين قيادة جماعة تطوان وبين عباس المساعدي، ما مبعث الخلاف بينهما؟ كان عباس رجلا عنيفا جدا في رسائله إذ لا يتردد في مهاجمة قيادات الحركة الوطنية وفي إحدى هذه الرسائل يتهمها بالتخاذل وعرقلة عمل جيش التحرير. أعتقد أن جماعة الناظور وجماعة تطوان تحولتا إلى عدوين لدودين في إحدى المراحل، وهذا ما تثبته الوثائق التي أتوفر عليها. عباس المساعدي كذلك كان رجل ميدان، لا يحب كثيرا التنظير السياسي، ولم يكن يحب من يوقف خططه العسكرية بمجرد ملاحظة يقول هو عنها إنها غير قابلة للتحقق، أما جماعة تطوان فقد كانت تريد التريث، وقد اعترف المساعدي بأن هناك من يريد خدمة مصالح فرنسا عبر إحداث شرخ داخل جيش التحرير. جماعة تطوان، حسب الرسائل التي أتوفر عليها، كانت حقا تحاول عرقلة عمل المساعدي، لأنها رأت أنه بدأ يكتسب شعبية كبيرة بين المقاتلين في كل مناطق المغرب، إذ كان الجميع يتحدث عنه، وإلا لمَ كانت كل قيادات الحركة الوطنية التي يرمز إليها بجماعة تطوان تتودد إليه وتسعى للحصول على صداقته، أما المساعدي فلم يكن صديق أحد سوى أفكاره ومقاتليه الذين يدعمونه في الميدان. – أفهم من كلامك أن قيادات جماعة تطوان بدأت تعرقل عمل عباس المساعدي ومن معه بعدما أحست بأن نفوذ المساعدي يتقوى وأنه صار زعيما حقيقيا.. أريد أن أخبرك بشيء تكرر كثيرا في هذه الرسائل وهو أن المساعدي كان لا يحب التنظير والتريث في مواجهة الاستعمار بالإضافة إلى أنه لم يكن يحب أشخاصا بعينهم في جماعة تطوان، وكان قاسيا جدا ضد علال الفاسي وبعض القيادات الأخرى، وفي مرات كثيرة يتساءل عن الأسباب الحقيقية التي جعلت هذه الجماعة تعاديه. حدث نوع من التحول في الرسائل، فبعد أن كان المساعدي يدعو إلى الحوار وإلى تجاوز العقبات، صار يتحدث عن قيادة خاصة به، وحدث ما أسميه بالقطيعة النهائية بينهما. أدرك المساعدي بحدسه أن العمل مع الجماعة مستحيل جدا، وأن هناك من يستهدفه، وقد أخبرني الصنهاجي أنه كان يحس أن أعضاء من جماعة تطوان أرادوا رأسه. – هل كان يتوفر على معلومات تفيد بأنهم يريدون اغتياله أو حتى اختطافه؟ بعد أن حدثت القطيعة، وقعت الكثير من الأشياء، إذ استشاطت قيادة تطوان غضبا، التي تعتقد أنها تمتلك الشرعية النضالية، لظنها بأن المساعدي بدأ يشتغل لوحده، وهنا قال المساعدي للصنهاجي إنهم سيبحثون عن رأسي في أقرب فرصة. كان يعرف أنهم لن يتركوه يعمل بالطريقة التي يريدها، ولا أدل على ذلك قول الصنهاجي أنه كان شديد الحذر في تحركاته في جبهات القتال.