سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
هؤلاء متهمون باغتيال عباس المساعدي ! جماعة تطوان.. انتقدت المساعدي ووصفته بالشخص المتهور غير القادر على تسيير جيش التحرير ودفعت باتجاه تنحيته من القيادة
بجملة صاعقة يشرح العروي كل شيء ويعفينا من أي مقدمة طويلة تشرح كل السياقات التي أحاطت باغتيال عباس المساعدي ذات صيف من 1956»إن الشوط الأول بعد الاستقلال قد انتهى ولم يفز به أنصار التقدم وأصحاب الملكات والمؤهلات بل انتصر فيه عبدة المنفعة الذاتية ومستغلو التخلف والجهل. إن للمجتمعات قوانين لا تؤثر فيها النيات الحسنة ولا التطلعات المحببة إلى قلوب البشر». لم ينتصر لا أصحاب الملكات ولا أصحاب الخبرات، وسيطرت حسابات السياسيين على إشكالية بناء الدولة الحديثة وانشغل «مدبرو» الاستقلال بصراع مرير حول اقتسام السلطة واحتلال مراكز القرار. في حمأة كل ذلك، أصيب المقاتلون الذين كانوا يرابطون في أعالي الجبال والمحاربون القدامى مع المقاومة المسلحة وأعضاء جيش التحرير الذي أشرف عباس االمساعدي على أقوى جبهاته، ونقصد جبهة الريف المؤمنة بالعقيدة الأبدية لمحمد بن عبد الكريم الخطابي. الصراع حول الزعامة والاستئثار بالسلطة وصل إلى أشده غداة حصول المغرب على الاستقلال، ولم يقتصر فقط على التدافع السياسي بين القصر وأحزاب الحركة الوطنية، بل دخلت أرقام جديدة إلى المعادلة، بدا لها أن جهات ما تسعى، بكل ما أوتيت من قوة، إلى أن تزيحها وتتخلص منها حتى ولو تعلق الأمر بالتصفية الجسدية. الرقم العصي في المعادلة لم يكن سوى جيش التحرير المغربي الذي أصر على القتال رغم التوقيع على معاهدة إيكس ليبان ورفض أن يسلم السلاح، وشرع في تنفيذ عمليات مسلحة ابتداء من سنة 1955 وكبد الجيش الفرنسي خسائر بشرية ومادية فادحة. بنظرات ثاقبة وحادة، وعصبية بالغة، وهجوم عنيف، كان - محمد بن عبد الله الناصري، وهو اسمه الحقيقي- عباس يواجه كل خصومه، ولم يسلم أي من أصدقائه أو أعدائه من كتاباته ومن نقده الصارم طورا، ومن سخريته اللاذعة طورا آخرا. تلك كانت مزية االمساعدي وتلك كانت مشكلته. كيف؟ وضعه الجميع في فوهة المدفع، والكل ضغط على الزناد للانتقام من العدو اللدود الذي يريد أن «يريب الحفلة». في البداية، حاولت فرنسا أن تضع حدا لمغامراته ولشخصيته الكاريزمية، وبعثت فرقة كوموندو لاغتياله، لكن سرعة السيارة الأمريكية التي كانت تقله رفقة صديقه في جيش التحرير الساسي الإسماعيلي كانت أسرع من شاحنتهم. في المرة الثانية، أخطأه الموت من جديد، وفي المرة الثالثة تدخلت الألطاف الإلهية وفي الرابعة قتلته..وأي صدفة؟ كانت الجماعة، تبتغي على طريقتها أن ترغمه على التفاوض، ومن قواعد التفاوض: التنازل. وعباس المعروف بعناده لم يكن يوما، كما تخبر الشهادات والوثائق مستعدا للتنازل، ولذلك قاوم الراغبين في اختطافه داخل السيارة قبل أن تنفلت رصاصة طائشة وترديه قتيلا وتفتح الباب أمام مصراعيه حول هوية قاتله بالخطأ، وهوية الذين كانوا يريدون التفاوض معه. في هذا الملف/التحقيق، تبتعد»المساء» عن الأحكام المسبقة وتمسح كل التهم التي ألصقت بشخصيات وجهات عديدة، وتعيد ترتيب الأحداث، منذ بداية التفكير في إنشاء نواة قوية لجيش التحرير، وتقلب صفحات من تاريخ المغرب المعاصر وتطلع على وثائق تنشر لأول مرة، وتقرأ كتبا ذات صلة بالموضوع لكشف مزيد من الخيوط التي يمكن أن تسعف على فهم ما جرى. بنبركة، القصر، الخطيب، المخابرات الفرنسية، جماعة تطوان، حزب الاستقلال، كل تلك الجهات كانت لديها مصلحة في استبعاد المساعدي من قيادة جيش التحرير، بل وإزاحته نهائيا. لكن هل تنوي قتله بالطريقة التي مات بها بفاس-يوليوز1956-. الملف يمحص في كل الفرضيات ويدرسها بعين فاحصة وتميط اللثام عن العلاقات المتشابكة التي كانت تجمع تلك الجهات بعباس االمساعدي. لا ندعي، أننا استطعنا أن نصل إلى حقيقة هوية القاتل، ولا نزعم أيضا أن الملف يجيب عن السؤال الشهير: من قتل عباس؟ لكن حاولنا قدر المستطاع أن نقترب من ذلك على الأقل. تجدون في التحقيق شهادة نادرة للإسماعيلي الساسي، صديق عباس الذي كان برفقته قبل يومين فقط من اغتياله، ووثائق جديدة تشرح رؤى االمساعدي لقضية جيش التحرير. هؤلاء كانت لهم المصلحة في اغتيال عباس االمساعدي الأكيد أن الكل كانت له المصلحة في قتل عباس االمساعدي في الخمسينيات الحبلى بالتناقضات: الملكية تسعى إلى تثبيت أركانها وأحزاب الحركة الوطنية، في مقدمتها حزب الاستقلال، تريد السيطرة على مفاصل الدولة في صراع مرير مع الملك الراحل محمد الخامس، أما فرنسا التي كانت تستعد للرحيل بعد توقيع معاهدة إيكس ليبان سنة 1955 وأصبحت أيامها معدودة بالمغرب فقد كانت تريد، أنى كانت التطورات، التي سيعرفها مغرب ما بعد الاستقلال أن تضمن مصالحها وتكرس المبدأ القديم: أخرج من الباب وأعود من النافذة. كان الجميع، في الشهور العسيرة من سنة 1955، ينظر إلى عباس المساعدي بعين التوجس وعدم الرضا، إذ تحكمت أحزاب «الحركة الوطنية» في مسار المفاوضات مع المستعمر الفرنسي وأصبحت الفاعل السياسي البارز في الساحة السياسية المغربية، بمعنى آخر كانت تحتكر «الشرعية النضالية»، والشرعية النضالية نفسها هي التي أججت الصراع بين زعماء الحركة الوطنية ومحمد بن عبد الكريم الخطابي طيلة أكثر من عقدين. خاض حزب الاستقلال خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي وبداية الستينيات حرب استنزاف طويلة مع الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، ووصفوه بالشيخ الذي تجاوزه الزمن ولم يعد يفهم المعطيات السياسية العالمية المستجدة، وذهب علال الفاسي أبعد من ذلك بكثير حينما قال إن الخطابي لا يعدو كونه «زعيما إقطاعيا» ولا يمتلك «الروح الوطنية». كان الخطابي، وهو الذي خبر الاستعمارين الفرنسي والإسباني وخبر مكرهما في العشرينيات من القرن الماضي، يدرك بحدسه السياسي أن هناك جماعة في المغرب تبتغي، على طريقتها السيطرة على هياكل الدولة والإمساك بزمام السلطة، ولذلك رفض معاهدة إيكس ليبان ونعتها بالاستقلال الأعرج، وشن هجوما عنيفا على قيادة الحركة الوطنية واصفا حزب الاستقلال بالحزب الذي «لا يساوي أي شيء في حد ذاته، فهو مجموعة من الأفراد تحركهم مصالحهم الشخصية كالرغبة في الحصول على المال والتعطش إلى السلطة والبعض منهم يتقاضون أجورا من دول أجنبية». من هذا المنظور، يمكن أن نفهم التجاذب السياسي الكبير الذي ساد بين «علال الفاسي» وعبد الكريم الريفي بتعبير عبد الله العروي، وهو المنظور الذي يمكن أن ينسحب على مجمل الأحداث التي تلت مغرب ما بعد الاستقلال في تناسقها تارة وفي عبثيتها المقصودة تارة أخرى. اختلطت الأوراق بشكل غير مسبوق إلى درجة أن الوثائق التاريخية والمصادر التي يمكن أن تشفع للباحث في تاريخ المرحلة تضعه أمام حيرة كبيرة، خاصة فيما يتعلق بموضوع جيش التحرير، فالجميع كان يحاول أن ينسب الفكرة إليه وإلى حوارييه، والجميع كان يحاول أن يبرز بمظهر «المخلص» من نير الاستعمار، وبالتالي البحث عن غنائم في مغرب «الحرية والانعتاق». وحتى أحزاب الحركة الوطنية التي تزعم أنها شكلت جبهة متجانسة لمواجهة الاستعمار الفرنسي نخرتها الصراعات وحملت في أحشائها أعطابا كثيرة ما لبثت أن انفجرت غداة الاستقلال لينطلق مسلسل شد الحبل بين الجميع بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك الاختطافات والاعتقالات والتصفيات وتكوين الميليشيات. كانت هذه المقدمة ضرورية لفهم السياقات التاريخية التي صاحبت حدث اغتيال عباس المساعدي، ذلك أن اغتياله لا يمكن أن يكون، بأي حال من الأحوال، بمعزل عن الشروط السابقة، سيما التطاحن المرير حول الإمساك بالسلطة والاستئثار بها. لنشرح قليلا: عباس لم يهادن أحدا ولم يسلم أحد من هجوماته، وجمع المعارضين والموالين والفرنسيين وكل الكائنات السياسية في سلة واحدة، ولم يكن يتولى في توجيه نقد قاس لزعماء كانوا يرددون أنهم هم من عجل باستقلال المغرب. حسب الشهادات التاريخية، والوثائق التي حصلت عليها «المساء»، فقد كان الجميع في فوهة البندقية، أي أنه من النوع الذي لا يتردد في تطبيق ما يفكر فيه. يقول صديقه ورفيقه في جيش التحرير الساسي الإسماعيلي «لقد كان رجلا قويا واعيا ثاقب النظرة يحب وطنه إلى أبعد الحدود، وكان يتوفر على كاريزما استثنائية، ولذلك اجتمعت حوله نخبة من المقاتلين والمحاربين في صفوف جيش التحرير، وكنت أنا واحدا منهم». اكتسب عباس المساعدي أعداء كثرا في كل المواقع، وعدا المقاتلين الذين ظلوا مؤمنين بعقيدته القتالية، كانت كل الجهات تبحث عن رأسه مهما كان الثمن. لا غرابة، والحال هذه، أن يعبر في كثير من اللحظات أن هناك من يترصده، ويحاول قتله. إنه إحساس نابع من قناعة واحدة: في الفترة الفاصلة بين 1955 و1956، السياسي ذئب لأخيه السياسي ولو تعلق الأمر برفاق النضال. ولأن محمد بن عبد الله الناصري صار مشهورا في أقاصي المغرب وأدانيه، انتبه زعماء الحركة الوطنية إلى خطورته أولا على محمية»الشرعية النضالية» وإمكانية توظيفه من لدنهم ثانيا. تبخرت أحلام الوطنيين في التفاوض مع المساعدي وحثه على التنسيق معهم، الشيء الذي فتح الباب على مصراعيه لكل الاحتمالات. لفهم خيوط الموضوع ينبغي طرح الكثير من الأسئلة الشائكة، والعديد منها سيظل بدون جواب: من كانت له المصلحة في اغتيال عباس المساعدي؟ هل كانت تريد الجماعة التي اختطفته أن تقتله فعلا، أم فقط كانت تريد أن ترغمه على التنازل عن أفكاره؟ لماذا خرج أحرضان في هذه الفترة بالذات ليوجه الاتهامات إلى بن سعيد آيت يدر؟ ولم يتريث الأخير ورمى كرة اللهب مباشرة في ملعب القصر؟ هل أصبحت قضية المساعدي حارقة إلى هذا الحد؟ ثم لماذا توارى هؤلاء الذين وجهوا الاتهامات إلى المهدي بنبركة في وقت سابق؟ ألم يقم عبد الحميد شباط، الزعيم الحالي لحزب الاستقلال، الأرض ولم يقعدها حينما اتهم بنبركة باغتيال المساعدي؟ ألا تؤكد المصادر التاريخية والوثائق والشهادات أن العدو رقم 1 لالمساعدي كان الدكتور الخطيب؟ وأين دور فرنسا من كل هدا النقع الكثيف؟ ألم تحاول اغتياله ثلاث مرات على الأقل؟ ألم تكن قيادة الحركة الوطنية من تخشى توسع نفوذ المساعدي وتغلغل عقيدته في صفوف المقاتلين؟ وما قصة المساعدي مع ما يعرف ب«جماعة تطوان»؟ هل هناك من يريد تعويم الحقائق وتوجيه النقاش إلى النفق المسدود؟ لنتوغل أكثر: هل اغتيال عباس االمساعدي كان تصفية حسابات بين الساعين للإمساك بالسلطة بعد توقيع معاهدة إيكس ليبان، نقصد القصر من جهة والحركة الوطنية بقيادة حزب الاستقلال؟ وما حقيقة علاقة الخطابي باالمساعدي؟ وإلى أي مدى كان هناك تنسيق بينهما؟ ثم لماذا تتهم بعض المصادر المساعدي نفسه بالتنسيق مع مصر جمال عبد الناصر؟ باختصار من كان يريد التخلص من عباس المساعدي؟ رصاصة طائشة أم اغتيال مخطط له؟ يوم 2 أكتوبر 1955، انطلقت العمليات الفعلية لجيش التحرير وبعد شهور من القتال المتواصل، أثبت جيش التحرير قدرته على تكبيد الجيش الفرنسي خسائر مادية وبشرية. في هذا الوقت ذاته، سطع نجم المساعدي وبات الجميع يبحث عن الطريقة التي سينسق بها معه لكنه رفضها. من هنا، تعددت الجهات الحاقدة عليه والباحثة عن سقوطه. في 27 يونيو من سنة 1956، حسب معظم الروايات، التحق عباس المساعدي بفاس، بعد أن قضى ليلة عند محمد الخياري عامل تازة، الذي اعتاد النزول ضيفا عليه. وتحكي رواية أنه استدعي للعشاء لدى أحد معارفه يوم 27 يونيو 1956، وهناك وجد الجماعة التي أرسلها حجاح تنتظره وطلبت منه مرافقتها على متن سيارة، ولما أبدى انزعاجه من الأمر، لجأت الجماعة إلى محاولة إرغامه على الركون، وكان هناك تدافع، فأخرج أقصر المجموعة مسدسا ليهدد به عباس. وتواصل التدافع، لتنطلق رصاصة طائشة أصابت عباس في مقتل. وما يرجح كون الأمر لا يعدو أن يكون خطأ، كون عباس لم يصب إلا برصاصة واحدة، وهذا ما أكده الحارس الليلي، استنادا إلى الشهادات، ولم يسمع الحي إلا دويا واحدا، وقد حمل على متن السيارة، وتم التخلص من الجثة قريبا من قرية «عين عائشة». وبعد اكتشافها حملت إلى فاس، حيث تم الدفن بحضور ولي العهد مولاي الحسن يوم 3 يوليوز 1956». مهما يكن الاختلاف الثاوي في الروايات، فإن «جماعة تطوان» كانت ستجتمع بعباس المساعدي لحثه على تليين خطابه والتفاوض معه حول مسار جيش التحرير، بصيغة أخرى، حسب الوثائق والمصادر دائما، لقد كان ضحية صراع حول الزعامة والنفوذ. لقد تورطت جماعة تطوان من الاستقلاليين بصيغة أو بأخرى في اغتيال عباس المساعدي.. المساعدي والخطيب..علاقة غامضة في كل الرسائل التي حصلت عليها «المساء»، حصريا، يشن عباس المساعدي هجوما عنيفا على الدكتور عبد الكريم الخطيب ومبعث هذا الهجوم هو الخلاف الحاد الذي نشأ بينه وبين ما يعرف ب«جماعة تطوان» التي كانت تضم قيادات بارزة مثل عبد الكبير الفاسي والغالي العراقي وحسين برادة وحسن لعرج بسبب ما يسميه محاولة الاستيلاء على جيش التحرير والتماطل في مد جبهة الريف التي كان يتزعمها بالسلاح الضروري للإعلان الفعلي عن بدء عمليات جيش التحرير. نقرأ في رسالة عنيفة تنفرد الجريدة بنشرها: «ما هو السبب الحق الذي خولكم إصدار منشورات باسم جيش التحرير، بينما هيئته تتألف من 3 أعضاء، اثنان هنا لا يعرفان شيئا عنها؟ أي قانون على وجه الأرض يخول الحق لأناس يكتبون ويتكلمون باسم الثورة وهم لا يعلمون شيئا عنها ربما؟ وما هي الدواعي التي جعلتك لا تعير اهتماما لرسالتي المؤرخة ب14 من الجاري مع ما تحويه من مطالب جديرة بكل اهتمام، وأي قانون سمائي أو أرضي يبيح لكم أن تدفعوا بقبائل تخوض غمار الحرب ضد دولة ذات جحافل جرارة ونظام حربي تام وتتركونها وشأنها تحارب بدون ذخيرة ولا لباس كاف ولا مؤونة وأنتم في غفلة ساهون». من الضروري جدا أن نتمعن في فحوى الرسالة لنفهم طبيعة الصراع الدائر بين عباس المساعدي وبين الخطيب، إنه صراع حول الزعامة والاستئثار بالقيادة العامة لجيش التحرير، فبينما كان المساعدي مغتاظا إلى حد بعيد من سعي الخطيب ومجموعته للسيطرة على كل هياكله وتدعيم القيادة بعناصر غريبة، كان الخطيب يعتبر المساعدي «متهورا» مفتقدا للخبرة السياسية والقتالية لإدارة كيان بحجم جيش التحرير. من هنا، بمقدورنا أن نتمثل السرد المتقطع الذي حكاه المساعدي لرفيقه في النضال الساسي الإسماعيلي: «سأخبرك بشيء أساسي، قبل يومين من اغتياله، كنت مع عباس المساعدي في السيارة، وتحدثنا يومها كثيرا عما يفكر فيه، وكان يريد أن يصفي بعضا من خونة جيش التحرير وحدد لائحة من ثلاثة أسماء(نتحفظ عن ذكرها)، وفيما هو أعجبه المسدس الصغير وطلب مني أن أعطيه إياه أعجبني مسدسه الذي أخذته منه. سار بنا الحديث في أمور كثيرة، وكأي زعيم كاريزمي كان يعرف أن له أعداء كثر ويدرك جيدا أن ثمة من يريد رأسه». مع ذلك، ثمة علامات استفهام كثيرة تنتصب أمام استكناه عمق العلاقة بين الرجلين، فعباس المساعدي رغم كل الحقد الذي كان يكنه للخطيب، إلا أنه كان يرى فيه خليفته في جيش التحرير. يسرد مقرب من المساعدي: «قال لي يوما أنه في حالة اغتيالي سيخلفني الخطيب على رأس جيش التحرير». كيف استولى الخطيب على عباس إلى هذا الحد وكيف اجتمعت في جوفه مشاعر متناقضة تجاه الرجل؟. يفسر الأستاذ محمد لخواجة ذلك بالقول» ولا ننسى أيضا أن الضربة القاسية الموجهة لعباس كانت بعد سفره إلى مصر في يناير 1956 صحبة الخطيب وبنعبود. لقد عاد الخطيب إلى المغرب تاركا وراءه عباس المساعدي بمصر وقد صرح بعدئذ أن المصريين حاولوا استمالته دون جدوى، وبدون شك فعلوا الشيء نفسه مع عباس، أي ما يفيد أنه سقط في قبضة المصريين». في حمأة الأحلام الناصرية في مصر، كان مجموعة من المغاربة مشدوهين بالتجربة الناصرية والمساعدي كان واحدا من هؤلاء. بالواضح: ما هو غامض في علاقة الخطيب بالمساعدي حدث بمصر. الأدلة كثيرة ومتعددة بشأن الصراع بين الخطيب والمساعدي، وهو صراع وصل إلى درجة أن كل واحد منهما بات يتوجس من الآخر. في الرسالة التالية التي بعثها عباس إلى الخطيب، نتبين بشكل واضح أسباب وبواعث «سوء الفهم الكبير»: «ندعو للقيام بإعلان صريح تأكيدا للسابق باستقالة جيش التحرير والمقاومة السرية عن جميع الأحزاب السياسية وعدم إعطاء أي حزب من الأحزاب السياسية الامتياز في إدراج بلاغ أو نداء في صحيفة من صحفه، علاوة على الالتزام بالرد على جميع من تكلم باسم جيش التحرير والمقاومة السرية من الأحزاب السياسية، وتقديم أعضاء القيادة العامة لجيش التحرير والمقاومة السرية لجلالة الملك، بالإضافة إلى احترام سلطة ونفوذ المسؤولين الأولين عن جيش التحرير، وحل المكتب الذي تغيب عضوان منه، مع نقله للرباط وإرجاع جميع أفراد المقاومة الذين ذهبوا في مهمة البحث فمنحوا لنفوسهم سلطة الرئاسة والتشريع تحديا للذين سبقوهم». لقد حاول الخطيب عزل كل من المساعدي والصنهاجي من قيادة جيش التحرير، كما يقول محمد لخواجة، باحث في تاريخ جيش التحرير وتعويضه بقيادة رباعية لكن دون جدوى. بين الناظوروتطوان اشتعلت نار الخلاف على الزعامة، غير أن رصاصة طائشة اخترقت جسد المساعدي يوم 27 يونيو 1956 كانت كافية لإطفاء جذوة الصراع مفسحة المجال أمام «جماعة تطوان» للانفراد بجيش التحرير. انطلاقا مما سبق، ندرك أن التشاحن كان عميقا جدا، تحكمت فيه نوازع القيادة بالأساس، ثم ما فتئ يتطور ليصير صراعا شخصيا. على العموم، لم تكن كل أطياف الحركة الوطنية تطيق أن يبقى رجلا مثل المساعدي على رأس جيش التحرير، ليس لأنه ليس كفئا كما وصفته بعض الزعامات، بل لأنه أصبح رقما صعبا ليس من السهولة تجاوزه، خاصة أنه كان يتزعم جبهة مازالت تؤمن بالعقيدة الخطابية التي حاربتها الحركة الوطنية. بنبركة..المتهم رقم 1 في عملية الاغتيال لا أحد يمكن أن يزعم أنه يتوفر على الدلائل المادية الملموسة التي تثبت تورط شخصية أو جهة بعينها في عملية اغتيال عباس المساعدي، غير أن الكثير من المصادر التاريخية في طليعتها بعض المستندات الصادرة عن المخابرات الفرنسية توجه أصابع الاتهام إلى القيادي الاتحادي، الذي شاءت الصدف أن يلقى المصير نفسه في باريس سنة 1965. تتشابك الروايات حول عملية الاغتيال وملابساتها وظروفها، لكن بنبركة حاضر في كل التفاصيل وسطوة شخصيته تكاد تحضر في القصص التي حيكت عن إحدى أشهر عمليات الاغتيال في المغرب المعاصر. ما الذي كان يجمع رجلين مختلفين في التوجهات والمسارات؟ المساعدي رجل القتال الشرس وبنبركة رجل السياسة الداهية؟ يقينا إن كل واحد منهما كان يعرف قيمة الآخر. بنبركة يدرك، تمام الإدراك، أن المساعدي ليس من النوع الذي يتنازل عما يفكر فيه بسهولة، والمساعدي كان يحمل في ذهنه قناعة راسخة أن بنبركة راجح عقل وقادر على التمويه السياسي، وعلاوة على ذلك يمتلك ملكة الخطابة. استمر الحذر بين الرجلين طويلا، وتجنبا في مرات عديدة أن يدخلا في صراعات مباشرة رغم كل اللغط الذي أثاره عباس بشأن استقلالية جيش التحرير عن الأحزاب السياسية وفي مقدمتها حزب الاستقلال. بيد أن الصراع البعيد بين الرجلين سرعان ما تفجر وخرج إلى العلن بالتزامن مع التدافع بين الأحزاب السياسية وجيش التحرير. كان المساعدي يرفض تماما أن يستمر بنبركة في التدخل في شؤون قيادة جيش التحرير رغم إصرار باقي القادة الآخرين على التنسيق معه، ولعل من بين الشروط التي سطرها المساعدي للعدول عن استقالته من القيادة هي وضع حد لهذا التنسيق. في المقطع الآتي من رسالة وجهها المساعدي إلى الخطيب بتاريخ 19يونيو، أي قبل أيام فقط من تاريخ اغتياله، يثير فيها اسم بنبركة بطريقة تطرح الكثير من علامات الاستفهام: «ظهر للوجود الخلاف الذي كان موجودا بوعي من بعض الأفراد من المقاومة، مما حملني على عدم تقديم الاستقالة يوم 18 ماي 1956، فكان السبب الرئيسي في ظهور الجولة(التبشيرية) التي قام بها المهدي بن بركة لمعاقل جيش التحرير، ومما يدل والله أعلم على سوء نية الذين رافقوه أنهم ذهبوا برفقة الأخ بنسعود لاستعماله كجواز للمرور، إذ سبق له أن ترأس لجنة البحث التي طافت هناك ويتلخص الخلاف في نقطة واحدة، هم يرون ضرورة التعاون مع المهدي بنبركة وأنا أرى العكس». هنا مكمن الخلاف، ولاشك أن بنبركة بشخصيته القوية توصل إلى خلاصة أساسية مؤداها أنه ليس بمستطاع أحد أن يكبح جماح المساعدي. لكن هل كان يفكر في اغتياله؟. يقول زكي مبارك، المؤرخ المغربي: «حسب التقارير الدبلوماسية والاستخباراتية الفرنسية، فإنها تحمل المسؤولية للمهدي بنبركة، لقد حدث ذلك بالخطأ، لأنه لم يكن يسعى إلى قتله، لكن حدث ما لم يكن في الحسبان». ينفي الساسي الإسماعيلي، أحد قادة جيش التحرير أن يكون بنبركة من يقف شخصيا وراء اغتيال عباس المساعدي، لكنه لا ينفي التهمة عن حزب الاستقلال «الذي كان يريد إجهاض جيش التحرير وكل أبنائه الحقيقيين». بيد أن السؤال ينطرح عما إذا كان بنبركة نفسه هو الذي كان يحض الاستقلاليين على قطع شعرة الود مع المساعدي وإعلان الحرب عليه. الجواب عن السؤال صعب لسببين رئيسيين، كما تشير إلى ذلك الشهادات: داخل حزب الاستقلال لم يكن بنبركة وحده من يكن العداء لعباس، بل هناك آخرون أبرزهم عبد الكبير الفاسي والغالي العراقي، وبالتالي من الصعب المجازفة بالقول إن بن بركة كان المحرك الرئيس للمؤامرات التي بدأت جماعة تطوان تحيكها ضد المساعدي. مهما يكن من أمر، فإن المصادر التاريخية تلتقي عند نقطة رئيسة تنطلق من كون أن بنبركة، وبالرغم من شح الدلائل، كانت له مصلحة في استبعاد وإزاحة عباس المساعدي من قيادة جيش التحرير بسبب النفوذ الذي صار يتمتع به وسط المقاتلين. هو صراع الزعامة قبل كل شيء، وصراع حول «الشرعية النضالية» التي قال عنها واتر بوري في حوار شهير»الشيء الوحيد الذي تبقى للوطنيين». المخابرات الفرنسية..3 محاولات اغتيال فاشلة كانت فرنسا تعي أن عباس المساعدي ليس من طينة الوطنيين القابلين للجلوس إلى طاولة المفاوضات، كيف لا، وهو الذي عبر خلال مناسبات عديدة أنه لن يرضى بخيار آخر غير السلاح لمواجهة الاستعمار الفرنسي. لقد ألحق المساعدي ومقاتلوه خسائر فادحة بصفوف الجيش الفرنسي، كما تشير إلى ذلك الكثير من المراسلات التي يبعثها إلى تطوان بشكل دقيق. المخابرات الفرنسية، جربت كل الوسائل لتطويع عباس االمساعدي ثم اهتدت في نهاية المطاف إلى دس عناصر مغربية داخل جيش التحرير لتدميره من الداخل، وليس من الغريب أن يحكي الساسي الإسماعيلي أحد أبرز مقربيه أن المساعدي أعد لائحة تتضمن أسماء ل«خونة جيش التحرير» للتخلص منهم. يسرد الساسي أنه كان حاضرا في إحدى عمليات الاغتيال» «فرنسا حاولت اغتياله مرتين عبر عملاء لها بثتهم داخل جيش التحرير، وفي إحدى هذه المحاولات كنت معه، حيث أرسلت فرنسا شاحنة على متنها كوموندو خاص لاغتياله في يناير 1956، ومن حسن الحظ أننا كنا على متن سيارة أمريكية سبقت الشاحنة المعدة للاغتيال. وأعتقد أن فرنسا حاولت فرض ممثلين لجيش التحرير بدل الممثلين الحقيقيين، وأقصد هنا كلا من الدكتور عبد الكريم الخطيب ومن معه الذين كانوا عملاء لفرنسا بالمغرب، وأشرفوا على الثورة المضادة ضد جيش التحرير والمقاومة». الفرنسيون، لما فشلوا بالطرق الدبلوماسية، استنادا إلى الشهادات التي استقتها «المساء» انتقلوا إلى المرحلة الثانية والمتمثلة في التصفية الجسدية، لكنهم لم ينجحوا في كل محاولاتهم، والغريب في كل القصة أن المخابرات الفرنسية من خلال وثائقها تربط مقتل المساعدي بصراعه مع المهدي بنبركة. هل هي محاولة لطمس الحقائق وتوجيه النقاش إلى مسرى آخر؟ قد يكون الاحتمال صحيحا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن فرنسا كانت تبغي أن تتحكم في كل شيء، قبل أن تغادر من الباب، فيما كان عباس رقما صعب التطويع والترويض أيضا. القصر..هل كان يريد توريط الاستقلال في قضية المساعدي؟ هل كانت لدى القصر مصلحة حقيقية في اغتيال عباس المساعدي؟ هل كان قادرا على قتل رجل شكل خصما عنيفا لحزب الاستقلال المتصارع حول اقتسام السلطة؟ ومن يمكن أن ينفي العلاقة بين القصر والخطيب وأحرضان اللذين لا يكن لهما المساعدي الكثير من الود؟ وهل كان يريد القصر توريط حزب»علال» في قضية المساعدي؟ حاول المساعدي مرات عديدة أن يقنع قيادة الحركة الوطنية بضرورة اللقاء مع السلطان المغربي محمد الخامس وتحييد عمله ليصبح مستقلا عن أي حزب سياسي، لكنه اصطدم برفض قاطع. بعد «اغتيال المساعدي» خص محمد الخامس جيش التحرير برسالة نادرة، تستحق التأمل والتمحيص في آن، جاء فيها: «وليتغمد الله بواسع رحماته من أخذهم إليه شهداء أبرار وليشمل منهم برضاه المرحوم السيد عباس المساعدي الذي كان لموته أسوء الأثر في نفسنا، ولئن كنا نعد الخلاف في الرأي والتوجيه مادام مرتكزا على أساس المصالح العليا للوطن أمرا قد تجري به سنة الطبيعة، فإنه ليس من المعقول مطلقا نشوب ذلك الخلاف في صفوف الجيش، حيث إن رائد الجيش الوحيد مصلحة الوطن والملك ومهمته هو خدمتهما، ومن الطبيعي أن تكون لهذا الخلاف إذا وقع- لا سامح الله- نتيجة وخيمة كتلك التي أودت بحياة المرحوم السيد العباس، ولكن هو القدر جرى بإرادة الله فلنترك العدالة تقول كلمتها». يبدو محمد الخامس معجبا بعباس بالخصوص حين وصفه بالبطل، بيد أن الزعيم التاريخي لحزب الاستقلال كان له رأي آخر في الموضوع أدرجه في كتابه «كفاح من أجل الديمقراطية». يقول علال الفاسي: «وقد أثر فيما أعتقد إلى جانب وشوشات فرنسية في أوساط القصر الملكي فصار الهم الأول لمحمد الخامس رحمه الله ولولي العهد هو تجريد المقاومين من السلاح وإدخال جيش التحرير من ثكناته. وهنا تدخلت علاقات شخصية بين أحرضان واليوسي وبين عبد الكريم الخطيب فصار الأخير الذي كان يمثل حزب الاستقلال بتطوان أمام الإقامة العامة الإسبانية بتعيين من قبلي المخاطب الصالح لولي العهد/الوسيط في إقناع ضباط جيش التحرير فرادى وإغرائهم برتب عسكرية ووظائف مدنية عالية، وكانت المخابرات المصرية تشجع السيد الخطيب وبعض رفقائه على إدخال جيش التحرير إلى الجيش الملكي». شهادة علال الفاسي تعني شيئا واحدا وهو أن المؤسسة الملكية بالمغرب لم تكن راضية عن بقاء جيش التحرير في الثكنات وفي جبهات القتال، أي أن الفاسي يبغي أن يقول إن القصر أيضا لم تكن له المصلحة في استمرار جيش التحرير.. هل كانت لعباس المساعدي علاقة بالمخابرات المصرية؟ تثير علاقة عباس المساعدي بمصر جمال عبد الناصر أسئلة حارقة من قبيل: هل نسق مع المخابرات المصرية؟ وهل قدمت له الأخيرة مخططا لقلب النظام بالمغرب وإنشاء قاعدة من الضباط الأحرار داخل الجيش الملكي؟. علال الفاسي كان دقيقا جدا لما قال بعبارات لا تحتمل أكثر من تأويل «المخابرات المصرية كانت لجهلها بالحقيقة المغربية تعتقد أن في إدخال عسكر التحرير إلى الجيش الملكي إيجاد نواة لضباط أحرار يستطيعون أن يقوموا بما يطلب منهم. وكذلك أخذت تتصل مباشرة ببعض الشخصيات التي كان لها نفوذ في وسط المجاهدين». غاب عباس المساعدي مدة شهرين عن جبهات القتال وانقطع الاتصال بينه وبين مقاتليه: «لقد انتابني القلق حول المساعدي وكنت أنتظر قدومه، وبعدها علمت أنه أمضى مدة شهرين بجمهورية مصر العربية» يشرح الساسي الإسماعيلي، أما زكي مبارك فيذهب أبعد من ذلك: «نعم كانت هناك علاقة واضحة ولا يمكن أن ينكرها أحدا، وبيان ذلك أن عباس المساعدي لقي ترحابا كبيرا من لدن رؤساء المخابرات المصرية كفتحي الديب وعزت سليمان، إضافة إلى لقائه بالملحق العسكري لمصر بالعاصمة الإسبانية بمدريد». لا أحد يعلم ما الذي جرى بالضبط أثناء الزيارة التي قام بها عباس المساعدي إلى مصر، لكن بعض المصادر التاريخية ترجح تأثره بالتجربة المصرية، لكن يبدو أنه رفض خطة جمال عبد الناصر لإنشاء قاعدة للضباط الأحرار في المغرب.