حينما اعتقد الجميع أن صفحة جيش التحرير المغربي، بكل تناقضاتها، قد طويت إلى الأبد، ظهر رجل اسمه زكي مبارك، قادته الصدف إلى أن يضع يده على أخطر وثائق جيش التحرير حساسية. في سيرة زكي مبارك الكثير من الأحداث والشخوص. يقول إنه كان دائما يشتغل بجبة الأكاديمي، لكن خصومه من أحزاب الحركة الوطنية كانوا يعتبرونه «مؤرخا للمخزن». على كرسي «الاعتراف» يحكي مبارك قصة صراعه العنيف مع حزب الاستقلال، ويتذكر كيف خاطبه علال الفاسي يوما بلغة حازمة: إذا لم تبتعد عن هذا الموضوع -يقصد جيش التحرير- «تلقا راسك مليوح فشي بلاصة». على مدار حلقات طويلة يسرد زكي مبارك أحداثا عاشها مع المحجوبي أحرضان، علال الفاسي وإدريس البصري، ويشرح، بإسهاب شديد، كيف أصبح صديقا لعبد الله الصنهاجي، علبة أسرار عباس المساعدي، وكيف أخفى لمدة طويلة وثائق حساسة حول «ميليشيات حزب الاستقلال» والصراع العنيف بين محمد الخامس وأحزاب الحركة الوطنية.. – في الحلقة الماضية توقفت عند حجز المخابرات الفرنسية لكتاب لعبد السلام ياسين عن الإسلام والثورة، هل كان ذلك بإيعاز من السلطات المغربية؟ لا أتوفر على جواب حاسم في هذا الموضوع، وما أعرفه أن صديقي الذي أشرف على طبع كتاب عبد السلام ياسين أخبره برسالة مكتوبة أن المخابرات الفرنسية قامت باقتحام دار نشره واستولت على غالبية طبعات الكتاب، ولذلك لم توزع طبعات كافية في المغرب، رغم أن الطلب كان كثيرا عليه. في المرحلة الثانية من علاقتي بعبد السلام ياسين، وبحكم قرب منزله من محل إقامته، كنا نلتقي بمعية مجموعة من الأصدقاء، في مقدمتهم الراحل البشيري وفتح الله أرسلان. – وكيف كانت علاقته بالبشيري؟ علاقة عبد السلام ياسين بالبشيري كانت قوية جدا، فقد كان يحترمه لأنه مثقف عميق، لكن هذه العلاقة تسرب إليها نوع من البرود بعد أن رحل البشيري لمتابعة دروسه بلندن. – وما مصدر هذا البرود بين قطبين كبيرين داخل جماعة العدل والإحسان؟ الخلاف بين الرجلين كان فكريا وسياسيا بحتا، ولم يكن أبدا شخصيا كما يعتقد البعض، وبيان ذلك أنه في أحد اجتماعات أعضاء الجماعة داخل منزلي، حضره عبد السلام ياسين والبشيري وإبراهيم المعتصم الشرقاوي مرافق الشيخ، كان النقاش محتدما بين البشيري وياسين حول مآل الجماعة. ففي الوقت الذي كان البشيري يدافع بقوة عن تأسيس حزب سياسي كان عبد السلام ياسين منافحا شرسا عن اتجاه الجماعة نحو العمل الدعوي، ومازلت أتذكر أني كنت مؤيدا لطرح البشيري، واقترحت تسمية الحزب بحزب العمل الإسلامي، ووقتذاك أخرجت من مكتبتي القانون الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين بمصر كي يطلع عليه الحاضرون في اللقاء، بيد أن الكفة مالت لصالح عبد السلام ياسين في نهاية المطاف. – لماذا كان ياسين يرفض أن تتحول جماعته إلى حزب سياسي؟ هناك أسباب كثيرة قد تفسر دفاع ياسين عن جماعة دعوية، أبرزها أن ياسين لم يكن يريد ساعتئذ الانخراط في مشهد حزبي مؤمن بالمواضعات القائمة، ولم يكن يريد أن يكون مجرد رقم في لعبة سياسية كان يسميها هو نفسه لعبة تافهة. كان يؤمن أنه يجب تربية المجتمع المغربي تربية إسلامية بدل التركيز على العمل السياسي. – قلت إنك عرضت على الحاضرين في الاجتماع داخل بيتك القانون الأساسي الخاص بالإخوان المسلمين، هل كان عبد السلام ياسين متأثرا بهذه التجربة؟ نعم كان متأثرا جدا بتجربة الإخوان المسلمين، وكان يأمل أن يؤسس نفس التجربة في المغرب، ولم يكن يخفي إعجابه بكتابات المودودي والبنا. أما البشيري فقد كان أكثر تفتحا من ياسين وأرسلان. لقد حرص كثيرا على أن لا أحضر اجتماعات الجماعة، وكانت علاقتي بياسين مبنية بالأساس على تقديم تحليلات للمشهد السياسي وعن تفاعلاته، وكان يطلب مني دائما أن أعطي رأيي في أمور سياسية، وغالبا ما يقول إن تحليلاتي رصينة. كان ياسين دائم السؤال عن الكتب الجديدة، ويطلب رأيي في هذه الكتب أيضا. – ما الذي دار في الاجتماع داخل منزلك بين قيادات العدل والإحسان؟ كنا نتحدث بدون خطوط حمراء وبصراحة كبيرة، وكان النقاش يومها حول نشاط الجماعة، وأنشطتها في الخارج. بعض الإخوان كانوا يقدمون فكرة شاملة عن تقدمها في بلدان كثيرة، بل يتحدثون بإسهاب عن الداعمين لها في بلدان آسيوية ومشرقية. – تقصد أن الجماعة كانت تتلقى دعما ماديا من جهات خارج المغرب؟ لم أقصد الدعم المادي، بل الانتماء إلى روح الجماعة ومبادئها. قد يكون هناك دعم مادي ولم تكن لدي أي فكرة عن الموضوع. – بالإضافة إلى البشيري، هل كانت هناك قيادات داخل الجماعة تساند طرح إنشاء حزب سياسي بالمغرب؟ لا، لأن كل القيادات الأخرى، مثل أرسلان والعبادي، كانوا متأثرين جدا بالشيخ عبد السلام ياسين، وكانوا دائما يدافعون عن رأيه، وأعتقد أن هذا النقاش بالتحديد هو الذي أحدث شرخا داخل الجماعة وقتها.