«تدابير الفيض» عنوان شاعري من اقتراح الناقد والفنان بنيونس عميروش، يضمر جمالية أقرب إلى الحس منها إلى العين، لأن المشاهدة هنا لم تكن إلا وسيلة وجسرا لعبور الدفين والباطن في تجربة شابة اختزلت المسافات لتفصح عن قدرة وطاقة هائلة للكشف عن مكنونات وجودية تصاحب الكائن البشري منذ ولادته، إنها تجربة الفنان عبد العزيز أصالح، الآتي من الجنوب محملا بنظرة دافئة تفوح عبق المودة والمحبة من فنان مرهف الحس، بإرادة كلها آمال لتحقيق ذاته من خلال وسيلة تعبيرية جمالية تتحدث عن نفسها، لغتها اللون والمادة، تغرف من تراث مغربي أمازيغي عريق. لم يكن الفنان أصالح، في بداياته موفقا في استخدام رموز التيفيناغ حسب قوله، لأنه لم يستطع الغور في أعماق هذه الرموز بالإتقان المطلوب على مستوى البحث الكرافيكي والصباغي، نظرا لصعوبة التناول في رأيه، لما تتطلبه هذه العملية من دراسة سيميائية وأنتربلوجية، ولا يريد تكرار هذه الرموز باستبدال سندها والانتقال بها من مساحة الأواني والزرابي… إلى سند اللوحة، كما فعل الكثير من الفنانين، بطريقة سطحية لا تتوفر على اجتهاد إبداعي ممن يهتم بهذه الثقافة، لكنه احتفظ بجوهر المضمون، أي بالروح الكامنة في عمق هذه الثقافة الأصيلة، التي كانت قيمة مضافة لكل ثقافات العالم، بفنها وأدبها المكتوب وتراثها الشفاهي والمرئي…، وبعمقها التاريخي، الذي يحمل تراكمات تفاعلت مع جميع الحضارات التي دمغت الذاكرة الجماعية للمغاربة. فاشتغال الفنان أصالح، على فكرة محورية بطريقة تجريدية، استمدت عوالمها من واقع ملموس، اختزن رواسب من انتمائه الأمازيغي، واكتشفها عن طريق الصدفة، استنادا لقوة ملاحظته للبناء العشوائي، كجزء وشذرة، لا يمكن التقاطها إلا من يملك حسا مرهفا، عبر قضبان حديدية بادية للعيان، تبعا لقولة مشهورة لبيكاسو: «لكثرة وقوة رؤية وملاحظة الأشياء التافهة، تصبح هذه الأشياء في الأخير ذات قيمة وأهمية»، فكان نصيب الفنان اصالح إيجابيا من هذه المشاهدة، عندما حول هذه القضبان، لأشكال جمالية بشكلها العمودي والأفقي، ضمن نسق فني تجتمع وتختلط فيه عناصر تشكيلية محيطة أخرى وفق أسلوب تجريدي بحركة غنائية، تستجيب للتوازنات المرئية المطلوبة، إذ يقول في نص نقدي كتبه الفنان والناقد بنيونس عميروش عن هذه التجربة: «فوضى الحركية أو حركية الفوضى، وهي السِّمة الشاملة المنبعثة من مجمل لوحات عبد العزيز أُصَالح. على وقع شطحات اللمسات واللطخات يذوب اللون الخالص مثلما ينمحي الشكل الخالص. وحدها الضربات المنزلقة وما تُحدثه من تَبْقيع مادي، هي ما يشكل هذه المناظر الطبيعية المُتصحِّرة المبثوثة في جغرافية اللامرئي واللامتوقع، لتُقحمنا في مشهدية ذاتية مُقتطَفة من متخيل طري ومدعوم بنَفَس انفعالي مُحكم». لم يتوقف الفنان أصالح في بحثه عند ما يمتلكه من مفردات تشكيلية، بل دفعته غريزته الإبداعية إلى البحث عن جزء هارب من تصوره للتكوين الإجمالي لعمله الذي حدده في المادة واللون، وبالصدفة أثناء اشتغاله على جدارية أثناء إقامته بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية بالرباط، سقطت عيناه سهوا على بيت فارغ للنمل، كأثر لبناء منتظم من مادة الرمل، فأخذ حفنة منها ثم مزجها بمواد أخرى ليحصل على مادة لونية لا يمكن الحصول عليها في الألوان غير الطبيعية، فكانت النتيجة بالنسبة إليه مذهلة، أكملت الصورة التي كان يبحث عنها، فاحتضن هذه المادة في كل ما سوف يبدعه في أعماله اللاحقة، التي كتب عنها الناقد ابراهيم الحيسن ما يلي: « يستمر الفنان أصالح في تطويع المادة واللون جاعلاً منهما مفردات تعبيرية لتشكيل اللوحة. هكذا، وعلى مستوى الصيغ والمعالجات البصرية، نجده يرسم مسارات الأثر باعتماد تقنية مختلطة Technique mixte تتحاور فيها الأصباغ والأحبار والمساحيق التلوينية التي يختارها وفق مبررات ذاتية، الشيء الذي يمنحه إمكانية تحويل المادة واستغلال انعكاساتها البصرية على السند..». إذن تبقى تجربة الفنان أصالح، من بين التجارب المغربية الشابة، التي خضعت لعامل الصدفة والإتقان، بنفس حيوي جديد، وبمعرفة استمدت حضورها من مرجعية حداثية معاصرة مرتبطة بالجذور.