تحتضن قاعة مندوبية وزارة الثقافة بالدارالبيضاء، طيلة شهر يناير الجاري، أعمال الفنان التشكيلي عبد السلام قباج، التي تمتح من معين مساره الطويل، بكل تراكماته الوجدانية وتداعياته، فهي بيان بصري، حسب تعبير هذا الفنان، الذي سبق أن قدم جديد تجربته في عدة معارض جماعية وفردية بالمغرب وخارجه. يقول قيدوم الفنانين التشكيليين، عبدالسلام قباج، في تصريح ل"المغربية" إن المعرض الجديد المنظم تحت اسم "استمرارية" يعكس مساره المستمر، وفعله الإبداعي المتميز بحساسيات خاصة، تتوحد في الزمان وتنشد الاختلاف، مضيفا أن المعرض عودة إلى الأصول، فكل لوحة تحكي قصة ميلادها. وبخصوص مقتربه الصباغي يوضح القباج، الفنان المخضرم، أنه يشتغل على البيئة، والأثر الأزلي، وأنه يوظف الأسود في إشارة إلى الهشاشة والمحو. وأبرز في السياق ذاته، أنه يؤثث فضاء لوحاته بالألوان الرمادية، باعتباره يرى الأشياء بمنظور مختلف وبرؤية صوفية، تسكنها مدارج الألفة والتوحد. المتلقي لأعمال قباج يكتشف أن عناصر تعبيرية في أعماله تقود المتتبع إلى فضاءات التيار التجريدي الرمزي، ومن خلال تلك الرموز واستقراء دلالتها، يبرز أحد النقاد الجماليين أن قباج، الذي انتهى به المطاف إلى اعتماد صباغة متفردة تغلب عليها الألوان الباردة، الرمادي تحديدا، لا يكف يستعيد أزمنة الطفولة، ويرثي الوقت الضائع. أعمال ترفض الهندسة الصارمة للأشكال وتستند إلى التلقائية والعفوية، مازجا فيها فنية الحركة في اللوحة بالحضور المتواتر للإيقاعات العمودية المناسبة، إذ يسعى عبد السلام قباج إلى ارتياد تجربة تشكيلية جديدة تقاوم الموت والعدم والمحو. تختلف الألوان المستعملة في لوحات قباج باختلاف أنماطها ودرجات حضورها، ومراتب وضوحها، فهو يستكشف الألوان عبر الذاكرة البصرية، ومن المشاهد اليومية المألوفة التي تمتح من الطبيعة، إذ يستفيد من دلالات الألوان، التي تخضع للمعيار الأنتروبولوجي، في التعبير أو في محاكاة الطبيعة، بحيث يغيب الملمس، بينما يحضر اللون بكثافة، حتى تصير اللوحة أشبه بالجدارية التي تتكفل بصناعة الديكور، والاحتفاء بالألوان، والتعبيرات الحكمية. فدائما تبدو لوحاته مدعاة للتساؤل حول هذه المكونات، مادام هناك تعالق بين التشكيلية، والنسيج واللون والخط والمحيط وأبعاد الأشكال. الزائر لمعرض "استمرارية"، الذي يضم 40 لوحة من كافة الأحجام، يكتشف أن الألوان التي تشغل حيز المكان في أعمال عبد السلام قباج تؤكد الإمكانات التعبيرية الهائلة التي يحتضنها فكر المبدع بكل التصورات التي يحملها اللون وطريقة توظيفه، وهو ما يمكن تفسيره وفق تعددية متناسقة ووفق مقاربات لونية تعبيرية وتقنية تأخذ بعين الاعتبار طريقة الاستعمالات اللونية لدى قباج، التي توحي بقدرته التحكمية في الفضاء، وتشير إلى عملية التوظيف بحرية فطرية، وتظهر بشكل جلي تلقائية الإنجاز. ففي هذا المنحى يكمن سر التأليف التشكيلي الميداني لديه، وأيضا، في حداثة أسلوبه الذي يفضي إلى عوالم تبرز قيمة الفضاء وتوجه المسار التعبيري، وتظهر جانب التفاعل والتواصل بين المبدع وعالمه التشكيلي، الذي ينبني على عدة مقومات أساسية. ما يتيح للمتلقي التأمل بعمق في أعماله التشكيلية لاكتشاف مجموعة متعددة من المعالم في عالمه الإبداعي المتوازن والمنسجم. قيمة الفضاءِ لدى الفنان التشكيلي قباج تتيح للمتلقي الخروجَ بانطباعات مختلفة عما يتوقعه من الحقل البصري، فرسوماته ليس سوى مزج لعالمه الخاص بالمحيط، انطلاقا من علاقته العفوية باللمسة المتحررة، وما تجسده وتقيمه من تطلعات فنية تزيد من الإحساس بالحرية التلوينية والتكوينية، ويوضح ذلك طغيان الحقل البصري، الذي يجعل لنفسه مساحة رحبة، تقلص من أسر الإطار والتأطير معا. ولا شك أن قباج يبني تصوراته على أبعاد شخصية تنهل من القضايا الاجتماعية والفكرية وتتمرد على الجاهز دون قيد حتى يستجيب لرغباته النفسية بشكل مطلق، وهو ما يفرز بعض الغموض على المستوى الجمالي في أحيان كثيرة، ويجعلنا نتساءل عن الصيغ الجمالية التي تؤثث الفضاء، علما أن إشكالية الجمال تدعم المجال التعبيري الحديث، وإشكالية الغموض تدعم الشكل الإبداعي المعاصر. أسلوب الفنان التشكيلي قباج يستقي تجربته من مجموعة من الأساليب، وفق منظور خاص وبطرق متنوعة، وهو بذلك يخضع لسلطة التصور فينزاح عن المادة التشكيلية أحيانا . لكنه غالبا ما يستدرك من خلال استعمالاته التقنية وعمليات التوظيف المتقنة للألوان فيكون موفقا في ربط بين مجموعة من العلاقات، والحد من مجموعة من التباينات داخل الأنساق اللونية في علاقاتها بالرموز والعلامات، ما يمكنه من توطيد أسلوبه الخاص.